قلـب فــــي مرســــــم

خاص- ثقافات

*صبحه بغوره

استيقظت على غير عادتها في تلك الأمسية الصيفية الحارة بعدما ضاقت بالفراش وضاق الفراش بتقلبها فيه، نهضت إلى الشرفة تتلمس ما يمكن أن ينعشها ، كانت النسمات الدافئة عليلة، تلاطف خديها بنعومة وتداعب قميص نومها الوردي الشفاف الذي يبتكر من ذاته لون عطره ويبوح في ذاته بعطر سحره والذي لا ترتديه سوى الأجساد الغضة التي تثقب بدلالها قميص الليل إلى كمال المعنى وسدرة المشتهى كصيحة تنبيهية تفكك ألغاز الجو الطلسمي وتكسر صمت الليالي، مررت يدها الرقيقة بنعومة على خصلات شعرها إلى الوراء وأبصرت ضوءا خافتا خلف النوافذ الصغيرة لمستودع كان قد اتخذه شاب فنان مرسما له منذ فترة ، دققت النظر أكثر لتعرف سر الحركة التي دبت فيه فرأته بين رواح ومجيء يرتب أغراضه وينفض الغبار عن أدواته ويعيد توزيع لوحاته التي تركها مغطاة قبل أن يغيب عنها طوال تلك الفترة التي قضاها في الخدمة الوطنية ، ابتسمت من أعماق لما تذكرته يلج عالم الفن صغيرا كان صغيرا في العمر وصغيرا في فهم الحياة بمقياس ما تعنيه من ضرورات العيش ،كم كان يروقها كثيرا أن تتأمله جالسا أمام لوحاته بين قلق وحيرة، وأن تتلصص لرؤية ما جادت به مخيلة هذا الشاب المكافح من أعمال فنية إذ لم يكن في مرحلة الطفولة الفنية بل فنان وضع الحياة في خدمة الرسم ، وكان أشد ما يسعدها أن ترى لوحاته الفنية في طريقها إلى يد من أراد اقتناءها من المعجبين بفنه ، وهذا كان مصدر عيشه ، ابتسمت من أعماقها وقالت في نفسها إنها العودة إذن، فجأة أفاقت وهي في غمرة استغراقها في تلك الذكريات على حمحمة خافتة صدرت بصوت فخيم ، كان خلال ذلك يتأملها مندهشا من وجودها في تلك الساعة المتأخرة من الليل بالشرفة ، تعلق كلا منهما بالآخر عبر نظرة طويلة رآها هو لوحة فنية تشرق ألوانها بأشكال أخاذة ، ورأته هي فيه فارسا من ندى فكانت ضربة البداية العاطفية لكليهما، استدارت خجلا وهرولت نحو فراشها وكانت ليلة ضاق فراشها بها أكثر فباتت وشيء في قلبها ينذر بدق أوتار القدر اختلجت في نفسها المشاعر التي طالما أفرغتها شعرا ، أما هذه المرة فقد عجزت لغتها الشعرية في ضبط الوزن والتناغم .

لم تتأخر في صباح اليوم التالي من النهوض مبكرة ، توجهت إلى غرفة الطعام حيث وجدت والدها وأخوتها حول القهوة يتبادلون حديثهم الصباحي المتشنج،كانت تراهم محترفي صناعة الأزمات ،ضاقت من تصعيد لغة حوارهم فأخذت فنجانها بعيدا وجلست قريبا من نافذة تطل على المرسم ، وجدت نوافذه كلها مفتوحة فوقفت ترسل بصرها تراقب ما يحدث فيه ، رأته يتحرك بكل نشاط  وحيوية  يدخل الكثير من الألواح الخشبية ولفائف الأوراق والخيش الخشن والكثير من العلب المغلفة ، إنها البداية إذن ، تراءى لها أن تزور مرسمه،ولكنها استخفت أن تكون الزيارة بمبرر حبها للرسم أو لعله يعلمها بعض أسرار هذا الفن،ولما كان الهدف بطبعه خالق للأداة فقد اهتدت إلى حيلة للتواصل معه ، وذات يوم سارت بخطوات مترددة نحوه ، كانت دقات قلبها تتسارع وتكاد تسمعها أعلى صوتا من طرقها على الباب ، ظهر لها شابا وسيما ، تعلثمت في حديثها وسيطر الحرج عليها فاحتوى ترددها بالترحيب بها ، تقدمت وهي تتلفت حولها ثم جلست حائرة من كثرة اللوحات والألوان التي تملأ المكان، قطع حيرتها بالسؤال عما تريد ، سلمته صورتها الفوتوغرافية التي أرادت أن تحولها إلى صورة زيتية كبيرة ، تأملها طويلا بين يديه ونظر إليها نظرة مقارنة ،كاد يكلم نفسه من خلالها ، كان رأيه أنها أجمل بكثير من الصورة ، وأنه يفضل رسم الشخصيات مباشرة ليكسب اللوحة شخصية صاحبها وروحه فهو يخاطب الروح ليجسد أعمالا فنية تكشف عن رؤيته الروحية وباستطاعته لو رغبت أن يقوم بذلك ، سعدت بهذا الرأي ورحبت ، غادرت المرسم وهي غير مصدقة أنها ستلتقيه كثيرا بعد ذلك وتقول في نفسها أنها فرصة إذن. قضت ليلتها سعيدة واستحت أن تطل من شرفتها العريضة على المرسم بل اكتفت بمراقبته بين لحظة وأخرى من وراء الستار، وتمنت لو أنه الآن يخاطب روحها ، تراقصت أمامها عرائس خيالها فشردت عن واقعها وفي لحظة ذهولها عن ما حولها استسلمت لوحيها وإلهامها، وكان هو قد قضى قسط من الليل مستغرقا في تفحص صورتها التي نسيتها ، تسللت إلى نفسه مشاعر الإعجاب بملامحها الهادئة وقسماتها الرقيقة وجمالها الرباني الذي منح فؤاده وبصره السكينة والبهجة.، نظر للصورة مجددا وهو يتذكر أدبها وعذوبة صوتها وحلو حديثها ، ابتسم لما تذكر تعلثمها واضطرابها أول مرة وكيف كادت ملابسها الجميلة أن تتلطخ بالألوان الزيتية المنتشرة في كل مكان .

ترددت على المرسم عدة مرات بقناعة جمالية لعمل جلسات الرسم، وفي كل مرة تنتهز المناسبة كي تتمتع برؤية اللوحات الفنية المفعمة برائحة الحياة والحركة الدائمة حولها إذ شعرت بعبق اللوحات يخرج من الصور ليملأ البصر بالألوان الزاهية ،لاحظت رؤيته كفنان من خلال الخطوط المنحنية والمسحات اللونية التي تتجاور لتكتسب صبغة لونية صريحة وحارة وأن ثمة رهافة في تعيين ملامح الأشكال في لوحاته عبر خط خارجي يمارس حضوره بليونة وعفوية لافتة من أجل تضمين صفات دلالية ومعينة ، تبادلا أطراف الحديث في مواضيع كثيرة ، تحدث إليها وأراد أن يكون منطقيا  وتكلمت هي وأرادت أن تكون جذابة ، علم منها أنها شاعرة يرسم قلمها صورا بالكلمات في قصيدة، حدثته أن تجربتها الشعرية والإبداعية تقوم على أساس انعكاس اللون في مرايا النصوص لإثارة الصور الشعرية السحرية فأدركا أنهما يتقاسمان الوظيفة الجمالية لتبليغ قوة الرسائل ومهارة التبليغ ونبل المعاني ، وأحسا أن عشقهما للألوان كان الوقود الذي غذى كوامن الرغبة في رحلة الإبداع ، كانت زاوية جلوسها تتيح لها النظر بكل وضوح إلى شرفتها المقابلة ، بينما كانت نظراته  الطويلة لها والمتفحصة لمحاسنها تأسرها إليه وعيناه تحتويها في عالمه فشكلت بسهولة وعيه البصري ومارس نوعا من التنقيب في أعماق روحها التي تحولت مع الوقت إلى طابع خيالي كما لو أنهما اندمجا  ليحلقا معا في الفضاء الحلم ، ثم جاء اللوحة على حسب مقدار الصدق الذي مارسه مع ذاته وبمقدار ما وثق بأقوى ما يمكن أن تهبه هي من سحر وجمال

في الموعد المحدد لاستلام الصورة كاملة ذهبت إليه في قمة أناقتها ،رحب بها ترحيبا مميزا وكان سعيدا بلقائها بينما كانت هي قلقة وخائفة أن يكون هذا اليوم ختام سلسلة لقاءاتهما ، ذهب ليغلف الصورة بالورق السميك فانتهزت الفرصة واستبدلت سريعا صورتها الفوتوغرافية بصورة أخرى لها ، وفور عودتها فتحت غلاف الصورة وعرفت مقدار نجاحه في وضع الرسم في سياقه الروحي ثم وجدت معها ورقة كتبها لها ” إلى من أحببت ” فأسرعت إلى الشرفة ورأته يقلب صورتها الجديدة بين يديه ويقرأ ما كتبته له خلفها ” إلى من أشتاق إليه” ، أسرع إلى النافذة المقابلة لشرفتها فالتقت نظراتهما مرة أخرى طويلا ، نظرة حملت توافقهما واتفاقهما على أن يكمل كل منهما إبداع الآخر في الحياة إلى آخر العمر  .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *