أسرتنا تلهبها سياط العوز، وتدميها مخالب الحرمان، كان والدي يشرِق بماء دمعه كلما رأى ملابسنا الرثة البالية عجزت عن تغطية أجسادنا الهزيلة الضامرة، فيمضي حاسر القلب، كاسف البال، لقد كان يزاول مهنا شتى في اليوم الواحد، كنت أراه دائماً دائب السعي، كثير الحركة، يضرب من أفق إلى أفق، ويخرج من غور إلى غور، حتى ذوت عافيته أنهكته الحمى التي اشتدت عليه فعلِقته أوهاق المنية، وسكن نسيسُهُ، وطوته الغبراء، نعم لقد انطفأت تلك الومضة التي كانت تدرأ عنا الظلام، لم تجد مراغم ولا سعة سوى الاستسلام، بعد أن استنفدت كل أسلحتها فعصفت بها الأنواء، واكتنفتها العتمة الصماء، نعم لقد سكت هذا الدوي، وقرّ ذلك الهدير، وخلف وراءه غصة لا تنساغ، وكربا لا ينجلي، مضى من لم أرى فيه ضراعة الجانب، ووضاعة الشأن، رغم تدثره بلفائف الفقر، وعيشه في مرعاه الجديب، لقد كان يتعفف عن قبول الصدقات العجاف، ويحرص على أن يعيلنا من ثمار جهده، حرص العابد المتحنث على صلواته، فبنى بيته على دعائم من العز، وشاد ذكره على رواق من المجد، لقد غرس ذلك الفقير المعدم الذي ينحدر من أسرة خاملة، وقرية حقيرة، في نسله خصال تجعل من صاحبها منيع الحوزة، عزيز الناحية، صفات لا يستطيع أن يتحلى بها حتى من يأكلون في صحاف الذهب، ويهيمون في أودية الغنى والجاه، لأنها صعبة المرتقى، وعرة الطريق، صفات كالجوهرة النفيسة لا يخبو بريقها، وتبلى ديباجتها، ولو نٌضْدت عليها الصفائح، وهيل على نضارتها التراب، لقد طوتك أخاديد الأرض يا والدي، وجثمت حولك جلاميد الصخر، ومازال ذكرك يُشيّع بالحمد، ويُذيّل بالثناء، لأنك صغت من الشقاء والإباء عصارة المجد، وأكاليل السّناء.
والدي هناك أشياء كثيرة تعتلج في صدري أعلم أنك غاضب مني لأنني نجست يدي وتاريخك الناصع بقبول الصدقات، وأن أحد أصدقائي له أياد سابغات في حياتي، ولكن ماذا أفعل؟ لقد اشتد عليّ أذى المتجبرين، وكيد المعتدين، أدري أنك كنت تتوقع من فلذة كبدك كل شيء إلا التورط في مثل هذا الخطأ الفادح، وأن مثل يجب أن يقبع بين ثنايا نفسه ذائباً من الخجل والحياء، ولا يخاطبك…
ولكن ماذا أصنع يا والدي؟ لقد استولت طغمة على مقاليد الأمر، ونشرت بنود النفاق والفاقة في كل طريق، وطمرت ينابيع العز والفضيلة في كل واد، طغمة لها قلوب أقسى من الصوّان، وأفئدة أعتى من الجلمود، ثلة تقذف بالغيب، وترجم بالظنون، جردتني من تجارتي التافهة التي كنت أقتات منها، وأحالت حياتي لحطام، ويبدو أنها لن تشعر بسكينة الرضا، إلا حينما تراني أجوب أرصفة الشوارع، ذابل الجفن، خائر البدن، أسال الناس الحافا، ليتك تصغي بسمعك يا والدي الذي أودعك الثرى، لن تسمع إلا تذمراً من طغيان الغلاء، وتضجراً من سوء الحال، ليتك ترى الفقر المدقع الذي جدد الغطاريف حبله، ونشروا فضله، وأشاعوه على الناس، ليتك تستنشق عرق القبليّة المنتن الذى أورق عوده، وذكّ العباقرة من تضوعه، ليتك تتذوق مرارة الظلم والاستبداد الذي رسخت قواعده، واشتدت وطأته، وأفنى جلّ الشعب بمضّه وحموضته، ليتك تلتمس جحافل البغض، وسخائم الحقد، بين أبناء القطر الواحد الذي يؤول عربهم وزنجهم إلى مجد أصيل، وشرف أثيل، وبيت رفيع الدعائم.
والدي لقد هرعت إليك فراراً من جحيم معاناتي اللافح، ومعاذ الله أن اختلق أشياء لا تمت للواقع بصلة، ولكن لأشكو مروجاً فيحاء قد نٌزعت، ورياضاً خضراء قد طٌمست، مهلاً يا أبي فقد غلوا يدي عن الحركة، فلا تكمم لساني عن الشكوى، لن استطيع احتواء المعاني التي تجسد واقعي المرير، وأنت تمطرنى بوابل كلماتك الجامحة، أنا آسف يا والدي لم أقصد أن يعلو صوتي على صوتك، فأنت تعلم كم أُجلك وأُقدرك، ما أتمناه فقط أن تمنحني وقتاً أُفضي فيه إليك بدخيلة نفسي وبعدها أصدع برأيك كما تشاء، لا يا أبي لم يكن هجومي لتلك الناجمة التي سامتنا بخسف اسفافاً أو ردّ فعل غاضب لإقالتي من وظيفتي، بل لأن هؤلاء البهاليل السادة قد هدموا معبدي الذي يموج بالحسن، ويومض بالسعادة، ويتدفق بالجمال.