هل التاريخ لا نهايةٌ من الطّرائد؟

*أدونيس

1 –

تعِبَ الأفقُ في عالمنا، من ثِقَل الأجنحة التي تحمل حقائب البريد، الآتية من العالم الآخر.

سمعتُه يئنُّ ويقول: سأبني جدراناً إسْمَنتيّةً عالِيةً بيني وبين جميع أولئك الذين لا يقرأون الكتب التي ترفرف بأجنحةٍ أخرى –

أجنحة التّراب والحجر، الحقول والحدائق، السّهول والجبال،

السّهوب والصّحارى، الأنهار والينابيع.

أجنحة الشّجر والزّهر، العشب وبقيّة النّباتات،

وقبلَ هذه جميعاً، أجنحة البشَر.

2 –

يقول فيرجيل إنّ ديدون (تعني الكلمة الحبّ، وهي نفسها إليسّا الأميرة التي أبحرت من مدينة صور وبنَتْ قرطاجة التّونسية وصارت ملكةً عليها.) يقول بلسانها قُبَيْلَ موتها:

«انتهيتُ من الحياة،

والآن أنزل إلى أعماق الأرض،

كمثل صورةٍ كبيرة».

3 – 4

يُروى عن الإسكندر أنّه قال:

«لو لم أكُن الإسكندر،

لتمنّيتُ أن أكونَ ديوجين».

وكان ديوجين كما يُروى، أجاب عن سؤالٍ طرحه عليه الإسكندر في أثناء حوارٍ معه، حاجِباً عنه الشّمس، وكان معنى الجواب:

«غيِّرْ مكانَك. لا تحجبْ عنّيَ الشّمس».

لم يكنْ ديوجين في نقده يهدم بحقد أو بخبثٍ أو توحُّشٍ أو جهلٍ. كان يهدم فيما يحتضنُ ما يهدمُه. كمثل مَن ينتقد النّوم لأنّه يحول بين الإنسان والحلم.

كانت ثروته كلّها:

معطفاً من الصّوف،

عصاً

مصباحاً.

وكان يعيش في الشّارع، متسوِّلاً.

ترك على قبره هذه الشّاهدة:

«عَرّى الحياةَ، ودانَ أوهامَنا».

ينزل كلٌّ منّا في برميلٍ اسمُه الحياة. لكن مَن مِنّا يشعر أنّ ديوجين لا يزال حيّاً يتشرّد في هذا البرميل؟

5 –

أنتَ، هو، أنا:

الغيمُ الذي ينطق بأمرٍ من المطر.

أنا، هو، أنتَ، هم، هنّ:

نعيش كمثل قطعانٍ من الطّرائد.

لكن، خلافاً لجميع الطّرائد، نحن الذين نصنع بأيدينا تلك الأسلحة

التي تصطادُنا.

أيّتُها الحريّة،

هل التّاريخُ لانهايةٌ من الطّرائد؟

6 –

غداً، ستكسر الفراشاتُ مراياها، ربّما للمرّة الأولى، أمام وجوه أطفالٍ

مهاجرين من جميع أطراف العالم إلى جميع أطراف العالم.

7 –

ذهبتُ يومَ الجمعة إلى زيارة القمر، في موعِدٍ خاصّ.

الغريب أنّه استقبلني

كأنّه أبكَم.

قلتُ في نفسي:

تراها الطّبيعة بدأت هي نفسها ترفض النّظرَ، وترفض

الكلام؟

8 –

الكواكبُ التي تُضيء العالم ثمّ تنطفىء لا تخسرها الطّبيعةُ وحدَها.

يخسرها كذلك ما وراء الطّبيعة.

9 –

قالت الأرض وكرّرتِ القولَ إنّها استنفدتِ الفضاء، عِلماً.

قال الفضاء وكرّر القولَ إنّه استنفدَ الأرضَ، جَهلاً.

10 –

حسناً تفعل أيُّها الرّمل:

معك الحقُّ لا شريكَ لك إلاّ الرّيح.

11 –

نعم، يمكن الباب أن يكون مُغلَقاً ومَفتوحاً في آنٍ واحِد،

لكن عندنا، وحدنا، نحن العرب.

12 –

– كيف نفسّر أنّ عملَ الشرّ سهلٌ،

وعملَ الخير صعب؟

– هل لأنّ الشرّ طبيعةٌ أو غريزة،

ولأنّ الخيرَ اكتسابٌ أو ثقافة؟

13 –

لماذا تُحَتِّم الحياة في المجتمعات، وعلى الأخصّ في المجتمع

العربيّ،

أن يضعَ الإنسانُ الفَردُ قناعَين:

واحِدٌ على عقله، وآخر على كلامه؟

14 –

يقول ميشليه (Michelet):

«إنكلترا أمبراطوريّة،

ألمانيا بلادٌ عِرْقٌ،

فرنسا شخص».

ما يكون العرب؟ ما يكون هذا العالم العربيّ؟

15 –

– تقول لي اكتب بجسدك. حسناً. لكن قُل لي كيف يكتب الإنسانُ بجسده، وجسدُه ليس له. كما يعلّمه المجتمع الذي يعيش فيه، وكما تفرضُ عليه ثقافةُ هذا المجتمع؟

وإذا كان الكاتب لا يستطيع أن يكتب بصدقٍ عن نفسه، فكيف يمكنه أن يكتبَ بصدقٍ عن الآخر، أو من أجله؟

16 –

التّسامح عند الإنسان بعامّة، هو غالباً مسألة عددٍ:

أكثريّةٌ دينيّة أو عرقيّة تحكم أقلّيّةً أو أقلّيّات.

تسامُحٌ هو نفسه «عِرْقيٌّ» و «فَوْقيّ».

لا «التّسامُح «، بل «المساواة»: هذا ما تقتضيه حياةُ البشر،

وما يُمَيِّز البشر، إنسانيّاً وثقافيّاً.

17 –

بعد قيام إسرائيل، صار العربيّ يخضع لاستعبادَيْن معاً:

سلطات «الاستعباد» الخارجيّ

وسلطات «الاستعباد» الدّاخليّ.

18 –

هل اليأس من الحريّة يضيف جذراً جديداً إلى اليأس من الإنسان؟

19 –

الأسماءُ ظِلالٌ لحقائقَ لا أسماءَ لها.

20 –

تكادُ حياتُه، صديقي ع، أن تمضي في الرّكْضِ وراء ظلالٍ لا أصول لها، أو وراء أصولٍ لا ظِلالَ لها.

21 –

انظُرْ إلى تلك النافذة التي تُطِلّ على الغابة من الجهة التي تقابِل البيتَ

الذي تسكن فيه، –

أنظر إليها كيف تتحوّل إلى طائرٍ فقَدَ جناحيْه.

22 –

يلبس النّهارُ حذاءه الرّياضيّ الخفيف لكي يقدر أن يقتفيَ بدقّةٍ خطواتِ الليل.

23 –

الطّائرُ نحّاتٌ ينحدر من سلالةٍ لا تعرف أن تَنْحَتَ إلاّ الهواء.

24 –

وضعَ الليلُ يَدَيه على كتفيَّ

فيما كنتُ أصافِحُ صديقةً قديمة.

هكذا طار نَوْرَسُ الحلْم

حاملاً بَحْريَ بين جناحَيه.

25 –

كان جدّي يقول، وهو لا يؤمِن بما يقوله غالِباً صديقي ع:

« لكلِّ نجمةٍ في السّماء،

صورةٌ في الليل تمثِّل المرأة،

وصورةٌ في النّهار تمثِّل الرجل.

الصّورتان سلّمٌ واحِدٌ تصعد عليه الروحُ فيما يهبط عليه

الجسمُ، أو يصعد عليه الجسمُ فيما تهبط الرّوح».

لكنّه، لم يكُنْ يقُول كيف يصعدان وإلى أين، وكيف

يهبطان، وإلى أين؟

26 –

الإنسانُ لغة،

ولا يمكن، بسببٍ من «إنسانيّة» اللغة، أن تُفهَمَ بوصفها

«حقيقة حرفيّة» أو بوصفها «حَرْفاً»،

هذا يعني أنّه لا يمكن فهمُ اللغة إلاّ بوصفها «مَجازاً «.

والإصرارُ على فهمها «حرْفيّاً» سيكون متناقِضاً كلّيّاً مع

طبيعتها، ومع علاقاتها بالعالم وأشيائه، ومع الواقع نفسه،

وأوّلاً مع «طبيعة» الإنسان.

27 –

يُقالُ: الموتُ يُضيء الحياة.

أليس من الأصحّ أن يُقال:

الحياة هي التي تُضيء الموت؟
____
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *