حين يتحوّل تراثٌ ثقافي إلى أفق، لا يعود تحديده بهوية أو مسار أو حتى تاريخ خاص مهمّاً. الأفقُ يتحدّى فكرة المكان والحيز، يصبح مُلكاً مفتوحاً لمن يتطلع إليه، ولمن يمكنه أن ينتفع به على قدر إمكاناته واستعداده، فيتخذه مثالاً، أو يحاكيه كمن يحاكي صناعة مقبض فأس يمسك به بينما يعمل باليد الأخرى على صناعة مقبض فأس خاص به على حد تعبير الشاعر أرشيبالد ماكليش.
هذا هو حالُ كل تراث إنساني، بغض النظر عن هويتهِ وموقعهِ وزمنهِ، بشرطِ أن يتحوَّل إلى أفق، ولا يبقى سجينَ إلزامات محددة، عرقية أو دينية أو مذهبية. هذا الشرطُ بحاجة إلى إيضاح بعيداً عن أي ادعاءات بالخصوصية والشمولية تدعيها ثقافة هذه الدائرة الحضارية أو تلك، كما هو حال نزعة التمركزِ على الذات في الصين القديمة التي مثلت في نظر نفسها «العالم» وألقت بمن حولها في برية الهمجية، وفي إمبراطورية روما التي رأت نفسها مركز الكون وما حولها عالم برابرة، وكما تمثل هذه الحالة الآن نزعة المركزية الأوروبية في نظرتها إلى معاييرها، في الأدب والأخلاق والقانون والسياسة والجماليات، على أنها معايير كونية شاملة، ومعايير الآخرين على أنها خاصة ونسبية وساذجة في أحسن الحالات أو أنها بلا معنى وعدوانية في أسوء الحالات.
يوضح هذا الشرطَ ويحققه، بلا تمركز على الذات، أو انغلاق دون المشترك الإنساني، تراثُ الأندلس العربي الذي اتخذ طريقه منذ بضعة قرون إلى عدة ثقافات غربية، علانية وسراً على حد سواء. التراث الذي تملّكه غير- العربي، فكان بمكتسباته أشبه بمحفز ثقافي دائم الحضور لديه، إلى درجة الامتداد غرباً وعبور المحيط الأطلسي إلى مدن أمريكا الجنوبية وظلالها. هذا التراث المنفتح فكراً وزماناً ومكاناً، الذي شكل بهذا ما نعنيه بالأفق، لم يكتسب منه العربي إلا أصداء النواح الذي طوق قوافله المطرودة من طليطلة وغرناطة وإشبيلية.. وبقية المدن التي نتذكرها، تحت عنوان الفردوس المفقود، ولم يره في صورة أفق ثقافي أوسع وأبعد من مجرد قصور ضاعت، ومزارع تم انتزاعها، وملك ضيّعه حمقى.
صحيح أن الأندلس كانت مركزاً، ولكنها لم تكن متمركزة حول ذاتها، تسلط على نفسها الأضواء من أي مكان جاءت، فتمتصها كما تمتص الثقوب السوداء الضوء وسفن الفضاء والبشر وكل ما يدور حولها؛ بل كانت مركز إشعاع تنشر ضوءها على ما يحيط بها. لهذا كانت ثقافتها أفقاً.
في ذهني الآن وأنا أتحدث عن ثقافة الأفق، المختلفة عن ثقافة المكان/ الحيز الضيقة، ذكرى بعثة من المثقفين الإسبان ذهبت في عام 1998إلى مدينة فاس المغربية. كان الهدف زيارة ضريح آخر ملوك غرناطة العرب المسمى أبو عبد الله الصغير، ذاك الذي تنهد وبكى وهو ينظر إلى الوراء، إلى مدينة ملكه بعد أن طرده منها الإسبان، تكريماً له كما قيل، وإحياءً لذكرى ماضي إسبانيا الأندلسي، أو للأفق الذي أعنيه على وجه التحديد؛ لأن هؤلاء المثقفين، كما نقلت عنهم وكالات الأنباء، سعوا إلى تقديم بديل للاحتفالات الإسبانية التقليدية (احتفالات الحيز الضيق) التي تقام احتفاءً بزوال الحكم العربي، وتعزيزاً لروح التعصب والاستعلاء (التمركز على الذات).
وأتذكر أن فعاليات تلك الزيارة تضمنت نثر حفنة من تراب غرناطة على قبر أبي عبد الله، وقراءة قصائد للشاعر الغرناطي فيدريكو غارثيا لوركا (1898-1936)، نصف الأندلسي ونصف الغجري. واللافت للنظر أن هذه المجموعة من المثقفين كانت تنتمي إلى جمعية ثقافية تحمل اسم «روح الأندلس»، وتسعى إلى تكريس وعي جماهيري بأهمية ماضي إسبانيا الأندلسي، كونه يعد جزءاً ثميناً من التراث الإسباني، انسجاماً مع وعي بهذا الأفق عبّر عنه أكثر من مثقف إسباني في عدة مناسبات، ماتشادو ولوركا وآخرون.
وأنا أتذكر هذا الحدث وما رافقه من تحليلات، لا يثير الأمر استغرابي، لأنه ليس منقطع الصلة بتيار يتوسع في الثقافة الأوروبية، نقيض تيار التمركز واعتبار من هو خارج دائرته بربرياً، تيار يحاول تمثل وهضم التراث الأندلسي بأبعاده المتعددة، تيار نجد فيه أبرز مثقفي شبه الجزيرة الإيبيرية المعاصرين، من أمثال الروائي خوزيه ساراماغو (1922- 2010)، والروائي الشاعر خورخي بورخس (1899- 1986)، يتعاملون مع الخصائص الأندلسية، والشخصيات الأندلسية، كجزء من تجاربهم وتكوينهم الثقافي. وسبق هؤلاء عدد من المثقفين الألمان والفرنسيين في استلهام شخصيات التراث الأندلسي .
هذا التناول والتعامل يتجاوزان مسألة التأثر والتأثير اللذين اعتدنا إلصاقهما كعناوين لهكذا ظواهر. إنهما يقعان في قلب عملية التثقيف الروحي التي يحرص مثقفو الحضارات على استكمالها، وعلى الوصول بها ومعها إلى آفاق أبعد، انطلاقاً من الأفق الذي تفتحه أمامهم الثقافة موضوع التناول والتعامل.
الأفق المفتوح على شتى الاحتمالات والتوقعات، يتخطى مسائل الهوية المنغلقة، وطنياً وسياسياً واجتماعياً، وما يحدده أوسع وأبعد من هذه المصطلحات، أو هو بلا حدود حين يتصل بكل مشترك إنساني. وهذا المشترك دال على المستوى الذي بلغته حضارة من الحضارات في نظرتها إلى الآخر. اللافت للنظر هنا أن «الثقافي»، في أبعاده الفنية والأدبية على وجه الخصوص، يسير باتجاه معاكس للاتجاه الذي يسعى فيه السياسي ورجل المال والقومي المتعصب، وكأن «الثقافي» منذ كان ظل دائماً فاتحة للعولمة الإنسانية لا العولمة التي تستبطن أحاديثها الشائعة الآن نزعات الهيمنة وبسط النفوذ الاستعماري.
في القرون الماضية، لم يكن «الثقافي»، بالأفق الذي وصفناه، في أشدّ لحظات التاريخ عنفاً وفوضى، إلا متّحداً إنسانياً يخضع لقانونه حتى الغزاة والمتسلطون وبناة الإمبراطوريات الجامعة لشتى التنوعات. كان «الثقافي» أداة التوازن والحكمة، ودليل الروح الإنسانية الذي يعيد إلى المسميات أسماءها الحقيقية والصحيحة، ويهزأ بالتشويه العارض الذي تلحقه نزعات الهيمنة والسطو بالقيم والأعراف، فتجعل البشر جزراً منفصلة يعادي بعضها بعضاً.
في الأزمنة الحديثة لعب «الثقافي»، والفني منه بخاصة، دوراً مهماً في تعديل وتغيير النظرات المشوهة التي خلقتها في الحضارة الغربية نزعات التوسع والتسلط على مصاير الشعوب الأخرى، وظهرت بتأثيرها وبدفع منها النظريات العنصرية بمختلف أزيائها. وتلخص ملحوظة الفرنسي نابليون عن فشل غزوه للدومنيكان عام 1802، دوافع ومحركات النظريات العنصرية وحروبها، قال عن حملته تلك إنها كانت حماقة منه، وحتى لو نجحت لما استفادت منها سوى بضع عائلات فرنسية ثرية ذكرها بالاسم. بينما مثل موقف الفنان الغربي، والتشكيلي بخاصة، اتجاهاً معاكساً، فهو من تمتع باستبصار عميق عبر عنه أكثر من فنان، الأكثر شهرة بينهم الفرنسي بول غوغان (1858- 1903) في تثمينه للمنظور التشكيلي الشرقي.
لقد اعترف الفنانون الغربيون، وقد ثقفتهم مخيلة فنية مصدرها فنون الشرق العربي والفارسي والصيني والياباني، وفنون شعوب إفريقيا وأوشانيا، بأهمية آفاق ثقافية أخرى خارج دوائرهم الدينية والعرقية وموروثاتهم، تنتمي لشعوب كانت حتى وقت قريب من ذلك الزمن تعد وفق تصنيفات أساطين الاستعمار وملفقي نظرياتهم، شعوباً بدائية وهمجية بل ومتوحشة. بل وجعل هؤلاء الفنانون، وخاصة الروسي فاسيلي كاندنسكي (1866- 1944) والسويسري/الألماني بول كلي (1879- 1940) قيم هذه الثقافات وروحيتها أرضية لنقد قيم ورؤى ذلك الجانب المعتم من الحضارة الأوروبية. وتشير أقوال كاندنسكي إلى مصدر لا يخطئه الحس والنظر حين يكتب، هو المهتم بالتنظير كما بالرسم، «اللون هو وسيلة التأثير المباشر على الروح»، أو «لا يجب أن يدرّب الفنان عينيه فقط، بل وروحه أيضاً».
هذه هي ثقافة الأفق التي تبدو غريبة فيها إقامة الحدود بين الأنا والآخر، ثقافة تعلو على أمثال هذه التقسيمات، وصولاً إلى الإنسان في كل من «الأنا» و«الآخر»، وهذه هي رسالة الثقافي التي تجعل المتسلطين المعاصرين يتحسسون مسدساتهم حين يسمعون بها.
____
*الخليج الثقافي