خاص- ثقافات
*محمد سليمان
يصنف النقاد الرواية السيرية كناتج تركيب الرواية والسيرة الشخصية. فإذا كانت الرواية خيال روائي يستفيد من السيرة الشخصية، وإذا كانت السيرة الشخصية واقع يستفيد من الخيال الروائي، فإن الرواية السيرية هي حالة متعادلة من الخيال الروائي وواقع السيرة الشخصية، وقدرتها تظهر في الحفاظ على هذا التوازن. ومنذ وجدت الرواية كشكل أدبي لم تغب السيرة الشخصية عن الرواية، فالروائيون لم يبعدوا حياتهم وأفكارهم عن الروايات التي يكتبونها ولكن كانت حياتهم، بشكل عام، لا تظهر طاغية على الرواية وكانت تتوزع على شخصيات الرواية، فرواية الرحلة إلى أوروبا اعتمدت على حياة الروائيين الشخصية في أوروبا (توفيق الحكيم، صباح محي الدين، سهيل إدريس، طه حسين)، وظهر ذلك في أول رواية عربية في العصر الحديث ” تخليص الإبريز في تلخيص باريز ” للطهطاوي الذي اعتمد على سيرته الشخصية، الفكرية في أوروبا كإمام بعثة من بعثات محمد علي باشا. كما اعتمد نجيب محفوظ على سيرته الشخصية والفكرية والسياسية في كتابة روايته ” الثلاثية ” وخاصة الحياة الفكرية في رسم شخصية كمال والحياة السياسية في رسم شخصية فهمي. كما اعتمد المازني على سيرته الشخصية في كتابته الروائية. وهذا ما فعله أيضاً حليم بركات في أكثر من رواية من رواياته.
في المرحلة المتأخرة من حياة حليم بركات بدأ يطغى عالم الاجتماع على الروائي في رواياته، حتى أصبحت رواياته تبتعد عن جنسها الأدبي كرواية وتقترب من التأملات الاجتماعية، بل أن المقال الفكري للرواية الذي يفضل أن يبقى مختفياً خلف المقال الروائي أخذ يزحف على المقال الروائي حتى أصبح وكأنه المقال الروائي، وهذا ما أظهر رواية حليم بركات وكأنها بحث في علم الاجتماع.
لقد هاجر حليم بركات إلى أمريكا هرباً من الحرب الأهلية اللبنانية، وتحولت الهجرة المؤقتة إلى هجرة دائمة و” وجدت نفسي في المنفى لا أدري أهو نفي طوعي أم قسري ” كما يقول في رواية ” المدينة الملونة “، ويتابع ” إنني أتوق إلى زيارة حلب أو دمشق لأنعم بما أظنه أقرب ما يكون إلى ثقافة عربية أصيلة لكثرة ما تعبت نفسي بعد كل هذا الغياب بما يسمى حضارة غربية حديثة ” (ص 19). ورواية ” طائر الحوم “، هي سيرة شخصية روائية تحكي حكاية ذلك التوق إلى حضارة عربية أصيلة لكن في قريته الكفرون، كما أن رواية ” المدينة الملونة ” هي أيضاً سيرة شخصية روائية (كما أنها سيرة روائية لمدينة) وهي أيضاً تحكي حكاية ذلك التوق لكن هذه المرة إلى مدينة بيروت.
طائر الحوم:
يقول الدكتور محمد حسين هيكل عن روايته ” زينب “، وهي برأي النقاد أول رواية عربية حديثة، إنها ثمرة حنين للوطن. وأعتقد أن كلامه ينطبق على رواية حليم بركات ” طائر الحوم “. إن روية ” طائر الحوم ” استعادة لأيام الطفولة في قرية الكفرون التي شرشت في نفسه ” لم أحس يوماً أن هجرتي حقيقية. فانتماءاتي عميقة عميقة ولا مجال للاقتلاع ” (ص48). ولكنها ليست رواية حنين رومانسي مثل رواية ” زينب”، إنها رواية كتبت بقلم عالم اجتماع، ينظر إلى الرواية على أنها قادرة على احتواء علم الاجتماع في داخلها. إن الراوي ينظر إلى نفسه على أنه متخلف من العالم الثالث، وأن جسده منفي في أمريكا الشمالية حيث يعيش، ويريد أن يحلق في فضاء الكفرون بعيداً عن حضارة أمريكا المتوحشة ” أنت أيتها الحضارة المقنعة أرفضك.. أعلنك هزيلة وحقيرة ” (ص153). وكان الرحيل إلى ضيعته الكفرون، كأسماك السلمون، ليجد الراحة. ولكن لا مهرب، فالموت يزنر الرواية، من موت الأب إلى موت طائر الحوم إلى موت الروح البطيء في عالم تغتال فيه الأزهار البرية.
رواية ” طائر الحوم ” كتبت لاستعادة التوازن في حياة مؤلفها حليم بركات، خاصة وأنه كتبها في زمن كان يعاني فيه من أزمة حادة مما حدث لأمه قبل وفاتها، إنها رواية سيرة ذاتية لعالم اجتماع يعيش في أمريكا حيث الحياة ليست سوى كابوس متواصل. وفي عودته إلى طفولته في قرية الكفرون نسمات أمل يقاوم بها حليم بركات يباس الروح في المنفى. وذاكرة الراوي تحمل أسى عميقاً، ليس من أحداث طفولته المستعادة، بل من أحداث حياته المعاصرة في أمريكا، حيث القوى الاجتماعية في ذلك البلد الامبريالي لا تترك له، وهو عالم الاجتماع العربي التقدمي، مجالاً لحياة كريمة، حتى أنه، وهو في قمة توحده مع الطبيعة الأمريكية الجميلة، يهرب إلى طبيعة الذاكرة _ طبيعة قرية الكفرون. وفي هذا الهرب علاج، فالعربي في أمريكا، مهما كبر (الكاتب دكتور وعالم اجتماع يدرس في جامعة جورج تاون في أمريكا)، ليس أكثر من منفي، لا حقوق مواطنة له إذا أراد أن يعيش بكرامته ” أريد أن تعرف إنني تجاوزت الخمسين من عمري ولم أنتخب مرة واحدة في حياتي، هذا هو تعليقي الوحيد على الديمقراطية ” (ص137). وينعكس حزن وأسى حليم بركات على تشبيهاته ” واد أخضر كجرح عميق ” (ص25)، ” الزمن الطويل كخيوط الهم، وأودية عميقة كهموم القلب ” (ص26). بهذا الأسى العميق كتبت الرواية، ولا عجب أن تبدأ بالموت، موت طائر الحوم الذي ظلت صراخه تلاحق حليم بركات في غربته، ويظل الموت يحوم في فضاء الرواية حتى النهاية. ” أقول لنفسي أن أهم ما يجب ان يتعلمه الإنسان هو أن يعرف متى وكيف يموت. هل أعرف كيف أموت في المستقبل ” (ص49)، وحتى يهرب من الموت يلجأ إلى ذاكرة الكفرون.
ورغم أن الحنين من أمراض الشيخوخة، فإن حنين حليم بركات إلى جذوره في قرية الكفرون هو بسبب رتابة الحياة في الغربة التي بدأت تأكل روحه. فحياته في المنفى، أمريكا، تتكرر بلا جديد، أيام تذهب وتعود لتزيد الروح إرهاقاً ويأساً ” هنا الحياة تهدم الإنسان. الوحدة تأكله من الداخل.. نحن آلة.. يجب أن تحافظوا على ثقافتكم “(ص38)، هذا ما تقوله عاملة شركة الطيران، وهو ليس كلام مجنونة كما يريد أن يقنعنا المقال الروائي، إنه حسب المقال الفكري للكاتب توصيف واقعي للحياة الأمريكية، وكلامها ينطبق على حياة حليم بركات في أمريكا. ففي داخل حليم بركات ما تزال تعيش ثقافته، حتى إنه ما زال يحمل فلكلور قرية الكفرون في روحه وعقله، وتكون الذكريات ملجأ (وهي دائماً ملجأ في غربة الروح والجسد). وما يزيد الراوي غربة، على غربة آلية الحياة في المنفى، إنه يعيش أخبار موت الوطن ” مزيد من المآسي، من التفتت حتى يتقاتل الإنسان مع نفسه، إذا لم يجد من يتقاتل معه، من الكفاح العبثي، من الانهزامات التاريخية ” (ص32). وينتقل حليم بركات من الخاص إلى العام باستمرار، من عجز الطب عن شفاء والدته المريضة، إلى مجموعة ذئاب تهاجم عجلاً، الأم وحدها تدافع عنه والثيران تراقب دون تدخل، إلى حالة الوطن العربي في مواجهته العاجزة للتحديات المصيرية التي تواجهه ” أواجه العرب كما واجهت الله والطب: فلسطين تسقط فريسة، بيروت تتساقط، البصرة مهددة بالسقوط، الجنوب اللبناني محتل. لماذا الأم وحدها تقاوم، أيتها العواصم العربية الثيران. تشمخين بقرونك مذهولة تراقبين وجلة. تتناطحين، تتناكحين سراً في الدهاليز.. آه من المأساة المهزلة “(ص36). ولأن الحاضر العربي لا يسر الخاطر، يتم استعادة الزمن الضائع، زمن الطفولة والطبيعة والثقافة الشعبية، الميجنا والعتابا. إن حليم بركات يغرف من حكمة الكفرون ليواجه وحشاً ” أرهب من حوت هي مدينة نيويورك ” (ص40).
ولأن حليم بركات يعيش في أمريكا فإن إسرائيل تواجهه دائماً كعدو. إن اليهود جزء من حياة أمريكا، وعندما تراه سيدة عجوز يكتب في الطائرة تسأل ” تكتب العبرية ” (ص42). ثم يكتشف الراوي أنها صهيونية، تجمع التبرعات لإسرائيل، ولا تحب فاغنر لأنه نازي (توفي فاغنر قبل أن يولد هتلر بست سنوات). وفي شارع يتقدم منه رجل أسود، يقصده بالذات ويسأله ” أنت يهودي ” (ص45). وفي هذه الظروف فإن الهوية تلتصق بالراوي، ويصبح الهم القومي طاغياً على الرواية، ولذلك لا يتردد الراوي بإلقاء الضوء على نضال العالم الثالث، وخاصة الوطن العربي، ويزعجه أن ” قوى الاستعمار حتى الآن ما زالت تستعمل شعوب العالم الثالث ضد بعضها البعض ” (ص52). وفي بحثه عن مخرج، وهو هنا عالم اجتماع لا روائي، يتساءل ” هل يحق للشعب أن يلغي الحكومات، هل يحق له أن يلغي الأنظمة. وفي الوقت الحاضر هل يحق لمجتمعات العالم الثالث أن تصنع مستقبلها “. إنها أسئلة محرمة في أمريكا، كما في العالم الثالث، ولكنها تطارده كظله، وما يحرق تفكيره أنه يعرف، كعالم اجتماع، كيف يعمل الوحش الأمريكي على جعل العالم الثالث، وخاصة العالم العربي، مصلوباً مؤبداً دون دفن، خوف أن ينهض ويزلزل أسس الأنظمة المستبدة.
كما أن حليم بركات، كعالم اجتماع، يعي بشدة الوضع الطبقي في الوطن العربي، ومن طفولته وعى أن هناك عالمين: عالم الفقراء وعالم الأغنياء. ففي قريته الكفرون عانى من وضعه كفقير في أوساط الأغنياء في المدرسة ” وبحكم عمل أمي، لم أرتح يوماً لعلاقاتي بالأغنياء، أحسست أن علاقتي بهم كانت في أساسها مبنية على الإذلال خصوصاً عندما تتم باسم الرحمة ” (ص143). وفي أمريكا، بلد الديمقراطية، لا يتخلص من الشعور بأن هذين العالمين (العالم الغني والعالم الفقير) لا يلتقيان إلا في الخطابات السياسية، ويتأكد أكثر فأكثر أن على العالم الثالث، وخاصة العالم العربي، أن يخوض نضالاً طويلاً قاسياً ليحصل على حريته وحقه في حياة كريمة.
يؤمن حليم بركات بالإنسان، وهو يردد أكثر من مرة مقولة فاغنر ” إن الآلهة وممثليهم على الأرض خطاة وإن الإنسان هو الذي سينقذهم “(ص43، 9)، ورغم شعوره الدائم أنه في بطن الحوت، فإن ثقته بالإنسان لا تهتز. وهو كأي إنسان نبيل مسكون بالسياسة، بالمعنى الأخلاقي، ورغم أنه في الكفرون كانت له آراء في السياسة ” تجادلنا في السياسة والدين فاعتبرتني متطرفاً واتهمتها بالوعي المزيف ” (ص66)، لكن حياته في أمريكا جعلته ينكفئ على نفسه سياسياً، وينكب على حياته الأكاديمية وكتابة الروايات، لكن السياسة كموقف أخلاقي ظلت تسيطر عليه ” اشتركنا في نشاطات الحقوق المدنية للسود، وحركة الاحتجاج ضد حرب أمريكا في فيتنام ” (ص67). وهو يحلم، كإنسان، بإقامة مجتمع ديمقراطي حقيقي في العالم، وخاصة في العالم العربي، وهو على يقين من النصر ” عميقاً في قرارات نفسي أؤمن إننا سننتصر يوماً ما “. لكنه يعرف أيضاً أن النضال صعب، فأبواب أمريكا موصدة في وجهه وفي وجه كل عربي سياسياً “، وفي الأزمات كنا نحاول أن نفهم الناس القضية الفلسطينية، إنما دون جدوى.. حاولنا الدبكة لنعرف بتقاليدنا الشعبية.. إنما أيضاً دون جدوى ” (ص69). إنه على قناعة، وهنا مأساته، أن أمريكا لا تهتم بالإنسان، وخاصة الإنسان العربي، وكل ما يهمها من العرب أن يبقوا تحت السيطرة حتى تظل تتحكم بخيرات العالم العربي التي ليس أهمها النفط. إن ما يهم أمريكا داخلياً وخارجياً هو ” ضبط الرعاع ” كما يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي.
وحتى يهرب حليم بركات من المأساة المهزلة التي تغلف حياته في أمريكا _ المنفى، يلجأ إلى الحب، حب الإنسان وحب الطبيعة، ويلجأ أيضاً إلى الذاكرة، فهي التي تعطي لحياته معنى في غربة الروح والجسد. ” أعيش بعيداً منفياً بلا جذور. لا. لا. النفي لا يعني إنني بلا جذور” (ص93)، ” ما أكثر الأشياء التي أضعناها، لذلك أتمسك بذكريات الطفولة ” (ص87). وتلاحظ زوجته تعلقه المرضي بالماضي، وتطلب منه أن ينسى الضيعة ويعيش حاضره في أمريكا وأن يتمتع بما يملك. ” أصبحت تلعب الطاولة وتحمل مسبحة وتريد منقلة. مستقبلك أمامك. غداً تدخن نرجيلة “(ص31)، وتكمل الزوجة ” ستنتهي سلفياً ويجيب لا سمح الله ” (ص117). والزوجة لا تعيش أزمة حليم بركات، لقد تكيفت مع الحياة في أمريكا وهو لم يتكيف. لقد رفض التدجين، وظلت علاقته مع أمريكا علاقة رفض، علاقة قهر وظلم وسيطرة ومطاردة وحصار واستغلال ” وكما قتلوا الهنود مرتين، مرة برصاص بندقهم ومرة برسم صورة سلبية لهم كي يسوغوا القتل.. يقتلون العالم الثالث مرتين كل برهة ” (ص118). وفي هذا الجو المعادي يناضل حتى يهرب من الإحساس بالمطاردة، ويدرك أنه كإنسان شريف لن يرتاح إلا تحت صفصاف الكفرون. ومعاناة حليم بركات لا تختلف عن معاناة روائيين آخرين في غربة أوروبا، وما قاله جبرا إبراهيم جبرا في كتابه ” ينابيع الرؤية ” عن حالته في أوروبا ينطبق على الآخرين، خاصة حليم بركات ” أتمنى لو كنت شحاذاً في القدس، ولا أميراً في انكلترا “.
تقول الزوجة ” إن الطبقات الحاكمة في العالم الثالث أكثر جشعاً وتخمة من أغنياء أمريكا “. ويجيب الراوي بأسى ” تعرفين إنني أكثر قسوة في نقد بلادي ” (ص119). لكن البلاد وإن جارت عزيزة، وأمريكا لم تترك له إلا نافذة صغيرة تطل على الهاوية، فهو لا يقدر أن يهرب من قدره كعربي، ويسأل نفسه: ” لماذا أنا مليء بالغضب، لماذا أفكر بهذه القضايا وأنشغل بهذه الهموم وسط الأجواء _ الأمريكية _ الساحرة ” (ص154). إنه تساؤل عابر، لكن في أعماقه يتدفق شلال ذاكرته المحب للإنسان الفقير لأنه يدرك ” إن التاريخ صراع.. وإن الضعفاء يقاومون عندما يهددون في صلب كرامتهم، وإنهم يصنعون من موتهم تاريخهم ” (ص134).
يقول حليم بركات في رواية ” طائر الحوم ” هذا هو حليم بركات ” عالمكشوف ” (ص7)، ويقول أيضاً ” طائر الحوم هو أنا “، وطائر الحوم طائر مهاجر، معرض للقنص دائماً حتى الانقراض، ولكنه لا يكف عن الحوم. وحليم بركات كإنسان يعيش في الغربة _ المنفى، في أمريكا، وهو رغم الضغوط، لم يدجن لأن جذوره ما تزال قوية في أرض ضيعته الكفرون (وحنينه إلى الكفرون ليس روائياً، ويعترف في رواية ” المدينة الملونة ” ما أن اشترينا قطعة أرض في جبل السيدة في الكفرون حتى نبتت لي جذور جديدة ” (ص533)، ولأنه ما زال يؤمن بالإنسان، ويحلم بذلك المجتمع حيث يخرج الإنسان المقهور من الرماد، رماد المنفى الداخلي والخارجي، ويبني حياته على أساس الحرية والعدالة الاجتماعية.
المدينة الملونة:
أصبح الروائي حليم بركات يتعامل مع الرواية كبحث اجتماعي على خلفية أنه عالم اجتماع، كما أصبح أيضاً يتعامل مع سيرته الشخصية _ العائلية بعد أن جف النبع الروائي في داخله كما رأينا في رواية ” طائر الحوم “، وفي رواية ” المدينة الملونة ” يتعامل أيضاً مع سيرته الشخصية العائلية، كما أنه يحول الرواية إلى بحث في علم الاجتماع، ففي رواية ” المدينة الملونة ” يطغى عالم الاجتماع على الروائي، كما يطغى المقال الفكري على المقال الروائي.
يتساءل حليم بركات في رواية ” المدينة الملونة “: ” لماذا يستمر كل هذا التعلق بالقرية والجبل والحنين الدائم الذي لا ينضب ” (ص21)، وفي هذه الرواية يبحث حليم بركات أيضاً عن الجذور لكن في بيروت الخمسينات والستينات، إنه يبحث عن الزمان الضائع (زمن الفتوة والشباب)، ويبحث أكثر عن المكان الضائع (مدينة بيروت: الشوارع والبيوت والمقاهي، البحر..) كما يستعيد الشخصيات (الأم، الأخ، الأخت، الصديق عادل، جبران، أنطون سعادة، سعيد تقي الدين، أدونيس، شارل مالك، يوسف الخال، صباح محي الدين، الشيشكلي، عدنان المالكي، شمعون، عبد الناصر، وأيضاً شخصيات شعبية غريبة مثل المجنون حنا النونو..) التي رافقت تلك المرحلة، إنه يبحث عن بيروت ملعب صباه وشبابه بعد الحرب الأهلية وقد تحولت ” إلى ركام مترهل هزيل ” (ص 71)، عبر رحلة أرادها سندبادية لاكتشاف مدينة ضائعة عبر الذاكرة، ولاكتشاف نفسه أيضاً. إن ما يريده حليم بركات هو خلق الوعي الإنساني لدى القارئ عبر بحثه عن جذوره من خلال ربطه الواقع كعالم اجتماع بالخيال كروائي، ذلك أن الرواية شاءت، أو أنه شاء أن تكون الرواية ” تاريخ حياتنا اليومية وأسطورة تربطنا بما غاب وبما حضر ” (ص 9).
لقد انتقل ” نادر الكفروني ” مع عائلته إلى بيروت عام 1942 من بيت كبير واسع في قرية الكفرون إلى ملجأ صغير تحت الأرض أشبه بالكهف. ذلك الكهف هو أول ما يبحث عنه في بيروت التي كانت كالأساطير وهمية وحقيقية، ثم تتوالى الأمكنة التي تسترجعها الذاكرة من بيروت الخمسينات (بيروت زهرة المدن وزهرة الشرق التي دمرتها الحرب كما دمرها الزمن أيضاً) كما لو أنه يتفرج عليها في صندوق الفرجة، وهي ذكريات مزعجة تثيرها الرواية ولا يثيرها التاريخ الرسمي، وكأنه يبحث من خلال بقايا الدمار ليس عن بيروت القديمة وإنما عن دماره الخاص (ص 59).
إن حليم بركات لم يعد عالم الاجتماع المغترب والمأزوم في رواية ” طائر الحوم إنه في رواية ” المدينة الملونة ” عالم اجتماع يلقي نظرة باردة ولكن حزينة على المدينة التي كانت حلم الشرق، أن عين حليم بركات في رواية ” المدينة الملونة ” عيناً سياحية ترصد الدمار كما ترصد تغيرات المدينة وليست عيناً روائية، ربما يعود السبب في نظرة حليم بركات تلك إلى أنه كتب الرواية وهو في الشيخوخة وفي المنفى، ويريد أن يفهم مصيره ومصير بيروت، ولذلك غلبت على المقال الروائي رؤية عالم الاجتماع والسياسي على الروائي في رواية ” المدينة الملونة “، في حين طغت رؤية الروائي على السياسي وعالم الاجتماع على رواية ” طائر الحوم “. إنه ينظر إلى بيروت وكأنه أصبح جزءاً من الدمار، أو كأن الدمار أصبح جزءاً منه، ويخرج من عالم الدمار كما خرج أبو العلاء المعري من الجحيم أو كما خرج دانتي من المطهر (ص 72).
يتسكع حليم بركات في أزقة الزمان وأزقة المكان، يتسكع في أزقة الرواية قليلاً وفي أزقة علم الاجتماع وأزقة السياسة كثيراً، يتسكع في أزقة نفسه وأزقة بيروت وأزقة الوطن، لكن تظل بيروت هي محور تسكعه، إنه يستعيد حياته في بيروت، منذ هاجرت أسرته بعد وفاة والده بسبب الفقر حتى تؤمن الأم مستقبل الأولاد. وإذا كانت رواية ” طائر الحوم ” عن الطفولة في الكفرون فإن رواية ” المدينة الملونة ” عن زمن الفتوة والشباب في بيروت، زمن الهجرة من الكفرون إلى بيروت، زمن كفاح الأم من أجل الحياة الكريمة للعائلة، زمن تفتح القلب والعقل، زمن الصداقة، زمن صبا ورؤى، زمن الحياة الفكرية والأدبية، زمن قراءته جبران الذي علمه التمرد، زمن قراءة أنطون سعادة الذي وجد فيه لغة سياسية جديدة، زمن انتسابه إلى الحزب السوري القومي، وكيف ظل محافظاً على حريته ككاتب لأنه لم يستسغ الأدب الحزبي، زمن تجربته السياسية ضمن الحزب وتأرجح تلك العلاقة حتى ترك الحزب، زمن الدراسة والرحيل إلى ميشيغان للحصول على الدكتوراه، زمن الزواج، زمن الانقلابات والاغتيالات، زمن الوحدة والانفصال، زمن لبنان وفلسطين وسوريا والسياسات الإقليمية والعالمية، إنها باختصار أزمان اليتم والانتماء والعشق والحرب والدهشة واكتشاف الذات والوطن والنفور من أهل السلطة والثراء والدين.. إنها أزمان الحنين والخيبة والأمل. إنها أزمان نادر الكفروني الذي تجمعه مع حليم بركات الكثير من الخصال، ومحاولة حليم بركات فصل السيرة الشخصية عن السيرة الروائية غير مجدية.
تتشكل لجنة لبحث مصير بيروت، وتجتمع في ” منزل مهجور ومعتم في محاولة لتحديد هوية المسؤولين عن الدمار ” (ص490) وتتراوح الإجابات بين العدو الخارجي ( الهيمنة الأمريكية التي حولت العالم إلى غابة ) والعدو الداخلي (ما نعتبره خارج نفوسنا هو في صميم داخلنا) وبين العدو الداخلي الخارجي (نعيش في عالم تتداخل فيه شؤون الداخل والخارج) (491ص)، ولأن حليم بركات يعرف ” أن التاريخ مفتوح على مختلف الاحتمالات ” (ص 48) لكن نادر، حليم بركات يقتنع ” أن التنين تعبير عن الجشع داخل نفوسنا، وقبل أن نعترف بهذه الحقيقة لن نعرف سر الفارس الغريب الذي سينقذنا ” (ص 93).
إن حليم بركات عالم الاجتماع يطغى على حليم بركات الروائي وحتى على كاتب السيرة الذاتية، حتى أن الجزء الأول ” استكشاف مدينة من خلال دمارها ” والجزء الثالث ” خاتمة المطاف وبداية مطاف آخر ” أقرب إلى تأملات عالم اجتماع، لكن الجزء الثاني ” يقظة الذاكرة من رماد الفجيعة ” هو ذكريات بين الفتوة والشباب رغم أن عالم الاجتماع لا يغيب عنه. إن حليم بركات لا يوصف كتابه (رواية أو مذكرات) لكنه في كتابه ” الاغتراب في الثقافة العربية ” يقول ” واكتشفت بيروت من خلال دمارها في روايتي المدينة الملونة ” إنها طريقة حليم بركات في كتابة الرواية بعد أن جف نبع الإبداع الروائي كما تجلى في رواياته وخاصة رواية ” المدينة الملونة “.
يمكن القول إن أحداث ” المدينة الملونة” تنتمي إلى السيرة الذاتية للمدينة أكثر مما تنتمي للسيرة الذاتية للروائي، ولذلك هي مسرودة في الكتاب كسرد تاريخي أكثر منه كسرد روائي. كما يمكن القول أن الروائي حليم بركات لا يؤمن أن على الروائي أن يكون خفياً كما يفضل فلوبير وأنجلز، لقد أصبح وجود عالم الاجتماع، الذي كان يخدم الشخصية الروائية في الروايات الأولى وكان ما يزال محتملاً في رواية ” الرحيل بين الوتر والسهم “، طاغياً في الروايات الأخيرة خاصة في رواية ” المدينة الملونة”، حيث أصبح عالم الاجتماع هو الذي يتحكم في الرواية، وفي محاكمة حليم بركات للواقع المتخلف اجتماعياً، وفي قلب حليم بركات حزن عميق من تخلف المجتمع العربي، ما جعله يمشي خلف عالم الاجتماع حتى على حساب السيرة الذاتية، ولننس الشخصية الروائية، إنه يبحث كعالم اجتماع عن المكان الضائع والزمن الضائع، عن الحياة الاجتماعية الضائعة، وفي النهاية لا يرى غير الخراب والدمار.
يقول إريك هوبسباوم ” لا يفتقر الروائيون الطموحون إلى الموضوع أبداً. وحين لا يجدون ضالتهم في العالم يلجؤون إلى العائلة والسيرة الذاتية “، وهذا ما فعله حليم بركات في روايته، السيرة الذاتية ” طائر الحوم “، في روايته، السيرة الذاتية ” المدينة الملونة ” وفي روايات أخرى أيضاً ” اكتشفت أنني لست بحاجة لكي أخترع أحداثاً من صنع مخيلتي، فليس أغرب من قصص المخيلة سوى قصص الواقع ” (ص489)، وخاصة قصص السيرة الشخصية. ويجب القول إن السيرة الشخصية لا تضر الرواية إذا عرف الروائي كيف يسيطر عليها ويستخدمها لصالح الرواية، لكن أن تتحول الرواية إلى بحث في علم الاجتماع فهذه يجعلها تقترب من المقالة، والمقالة لا يمكن أن تنسجم مع الرواية.
___________________
المراجع:
1_ طائر الحوم / حليم بركات / دار الأهالي / ط2 1999.
2 _ المدينة الملونة / حليم بركات / دار الساقي ط1 2006.