خاص- ثقافات
*مريم لحلو
الاستعداد : واقفة أنا أمام المرآة. أمشط شعري ، والحكايات تتكاثر في ذهني إلى ما لانهاية ..في المرآة لا أرى أثاث الغرفة الثابت ورائي وإنما أرى عالما كبيرا متحركا يعج بالحركة وبالألوان ، وبالعصافير الرمادية التي لا أحد يهتم بشأنها .. وأراني بينها أحاول الطيران بأجنحة خالية من الريش وبوجه بالأبيض والأسود ..المرآة كانت كبيرة جدا تبتلع كل الذين يقتربون منها .. هي مرآة “الموبليس ” * كما تنطقها جدتي بإعجاب . .. يتزامن ، دوما نطقها لهذه الكلمة الرنانة مع وقوفي أمام المرآة فيلتبس علي اللفظ الجديد مع لفظ آخر رسب في ذهني أيام الكُتّاب المعدودات، وهو لفظ “إبليس” ألأن الكبار الحكماء أكثر من اللازم ،كانوا يرون المرآة بابا من أبواب إبليس للإغواء والوسوسة ؟ فقد كانت جدتي تنهاني بغموض عن مداومة النظر إلى وجهي فيها. وعندما تتوالد أسئلتي لمعرفة السبب تلوذ بدرعها المتين ” ماشي مْليح ” مما كان يؤجج فضولي فأطيل النظر إلى عينيّ بالتحديد حتى أرى إبليس متوهجا فوق جمرته بقرنيه الصغيرين … كان من المفروض أن أخاف، ولكنني، كنت لا أخاف حتى عندما تلفح وجهي حرارة جهنم المنبعثة من ركن في المرآة بل كنت أواصل مشط شعري بالمشط الرجالي الدائري الشبيه بيد تمسح ظاهر الرأس بحنان طاغ ..وكان ذلك لا يروق لأمي فقد كان للنساء مشطهن الخاص..المشط الطويل ذو الأسنان الحادة التي تعض فروة الرأس عضا فيصير تمشيط الشعر شبيه بعذاب يومي. وينمو داخلي سؤال : هل الألم ميراث نسوي؟
الطريق : رغم أنه اليوم الأول في الدراسة.. ورغم أنه بمثابة عيد حيث كنا نلبس الملابس الجديدة فإنني سأحمل فوق رأسي “وَصْلَة” الخبز الثقيلة إلى الفرن ..ثم أتابع السير إلى المدرسة وحيدة دون مرافق معتمدة تمام الاعتماد على نفسي..وعلى أي فهذا المكان كنت وأترابي نتجاوزه بكثير حفاة شبه عراة أثناء اللعب الذي لايدري الأهل عنه شيئا. ولكنني هذه المرة سأتجاوز ، بالنعل الجديد ،البوابة الحديدية الأنيقة ،بوابة مدرسة ابن بسام للبنات إلى الساحة العابقة برائحة التراب المبلل.. وسأذوب في المكان الساحر الجمال حيث الأشجار والأزهار من كل لون ، ولن أحتاج لسرقة زهرة برية ناعسة فكل هذه الحدائق أصبحت لي …حتى الجرس النحاسي الكبير صار لي و تخيلتني متعلقة بحبله ووجهه الشامخ يتحرك من فوق إلى تحت كأنه يقول لي وهو يدق بوقار: نعم …نعم…
كنت أهوى المدرسة لا من أجل الدراسة بل لأنني كنت كائنا بلا لسان و بآذان وعيون كثيرة لا تهدأ… فقد كنت أتأمل بتمعن كل شيء رغم مظهر اللامبالاة المرتسم على وجهي .. النوافذ الطويلة العالية ..ستائرها الزرقاء بنقط صغيرة بيضاء ..النخلة الكبيرة وسط الساحة .. خزانة القسم المليئة بالقصص وبالدفاتر والأقلام الملونة ..المسطرة الغليظة .. الثوب الأسود الذي يغطي السبورة الصغيرة وتلتصق تلقائيا على سطحه الصويرات… الخيط المطاطي حيث تقف الخشيبات .. ضفائر رفيقاتي وأسراب “الصئبان” ..الصور الموزعة على جدران القسم …الجزار والإسكاف والصياد وغيرهم… أتأمل كل صغيرة وكبيرة وأنا أنتظر بشغف طقوس المعلمة عند كل دخول إلى القسم .. فبعد أن تتحدث قليلا مع معلمة أخرى (وكنت أسمع الحديث كله ولا أفهم أكثره ) تنزع جلبابها المغربي الأصيل ولثامها المطرز فيظهر الفستان “الرومي” ،وقصة الشعر القصيرة ،والجوارب الشفافة ،والوجه اللامع الصقيل …ثم أتأمل المعلم الأنيق الذي يدخل عنوة إلى القسم لغرض من الأغراض فتعلو دقات قلبي مع دقات كعب حذائه اللامع و مع رائحة عطره الفواح ،ورائحة سيجارته الشقراء التي تملأ قسم البنات رجولة فنتشممها،كجراء مغمضة العيون بتلذذ كبير…
بعد انقضاء فترة من الزمن، تقترب مني المعلمة فأشعر بحرارة غير مألوفة أفهم فيما بعد أنها حرارة الخجل. تخاطبني بوداعة وتسألني، ربما لتجعلني أستأنس بالمكان، عما أحضرت للاستراحة أخرج بفرح من جيب فستاني الجديد كاغدا ،أفتحه فتظهر قطعة الخبز الفطير. تأخذ قطعة صغيرة بين إبهامها وسبابتها كأنها تقرص بلطف خدي وتضعها في فمها. من وقتها أحببت المعلمة ،وأحببت أكثر الخبز الفطير…
العودة : كنت في انتظاري .. وجدتني في مرآة ” الموبليس” الذي لم يتزحزح عن مكانه ..نظرتُ إلي بنفس الدهشة القديمة.. من وراء ضباب الغموض الحلو لم أر هذا الجسد المتقادم إلا غلالة لذلك الجسد الغض ..مازلت عالقة في تلك المرآة أحاول الطيران بجناحين يأبى ريشهما الظهور أحكي لكم وقائع يومي الأول في المدرسة من هناك.
*Meuble