ثقافة التّقريد

*خيري منصور

أجرى أحد العلماء تجربة على طفل دون الخامسة وقرد، ورصد قدرتهما على المحاكاة، ووجد أن القرد كان متفوقا حتى بلغ الطفل الخامسة، وعندئذ توقف القرد عن النمو وواصل الطفل نموه.
ولم أجد مفردة أدق من التقريد للتعبير عن أقصى ما يمكن أن تبلغه المحاكاة، كما أن التقريد يعني أيضا إعادة الكائن البشري ملايين الأعوام إلى الوراء، لكن خلال أقل من نصف قرن، وهذا ما أنجزته الثقافة التي أفرزها ثالوث الباترياركية والأتوقراطية والثيوقراطية في العالم العربي، وهناك نظم شبه شمولية أو توتاليتارية حولت هذا الآدمي إلى فأر أبيض في مختبراتها الإعلامية والإعلانية والاقتصادية، بدءا مما سمي الاشتراكية الصادرة بطبعة عربية منقحة، حتى القطاع العام الذي انتهى إلى العرض في مزادات الخصخصة، بعد أن حول ملايين البشر إلى ما يشبه قطع الغيار المتشابهة والأقرب إلى المسامير التي لا حول لها ولا قوة وهي تنجذب نحو حجر المغناطيس ومجاله المدجج بالعسس وسماسرة البروبغاندا الذين احترفوا التبرير والتزوير من أجل التمرير حتى لو كان هذا التمرير لقطيع فيلة من ثقب إبرة.
ثقافة التقريد نزعت عن الآدمي امتيازه الوجودي، وحوّلته إلى رقم أصم في إحصاءات الديموغرافيا أو في مخيمات المشردين، كما اختزلته إلى بُعد واحد هو البعد البيولوجي بحيث يعيش ليأكل وليس العكس، ثم ورّطته بما يسمى سايكولوجيا المتسول الذي لا يفكر بما هو أبعد من الوجبة المقبلة، وكأن لهذه الاستراتيجية تكلفة باهظة، خصوصا في الإعلام الذي يصطف وينحاز للرب والقيصر في اللحظة ذاتها، ويتبنى مقولة تشرشل المعروفة الساخرة عن حاجة الحقيقة إلى جيش من الأكاذيب المسلحة كي يحرسها.
ورغم أن القرد اهتدى إلى ما يسمى الاستبصار، أو أدراك العلاقات بين الأشياء، كما في تجربة بافلوف الشهيرة، حين تم تجويعه ثم علقت موزة من السقف، ووضعت بجوار القرد عصا رفيعة وأخرى مجوفة تتسع لها، واخيرا اهتدى القرد بفضل الجوع أولا إلى إدخال العصا الرفيعة في العصا المجوفة واستطاع أن يُسقط الموزة. وهناك نظم في هذا العالم تستفيد من منجزات تجارب العلماء على الحيوان وعلى سبيل المثال يتم تدريب الكلاب على السباق بأن يربط الكلب إلى ذراع مروحة بعد تجويعه ثم تربط بذراع آخر منها قطعة لحم، بحيث تبقى المسافة ثابتة بين اللحم والكلب وينتهي المشهد إلى إغراق ذراع المروحة باللعاب لكن بلا طائل.
فلسفة التجويع تفضي بالضرورة إلى استراتيجية التركيع، بحيث تتأقلم الضحية مع ظــــرف شاذ وطارئ، لكن البشر في النهاية ذوو إرادة ولهم تاريخ يتراكم، لهذا أدى التجــــــويع إلى ثورات دمّرت قصورا كما حدث في الباستيل، حين قالت لهم ماري أنطوانيت يمكن لهم أن يستعيضوا عن الخبز بالبسكويت وهذا ما تكــــرر مرارا، ويروي أندريه مالرو أن ماوتسي تونـــغ اصطحبه ذات يوم إلى منطقة في الصين تبدو أشجارها أشبه بالرماح لأن الجياع أكلوا حتى الجذوع والجذور، ثم كان ما كان. وأحيانا يتحالف التقريد الثقافي بالمعنى الواسع للثقافة مع تقريد منهجي في التعليم، خصوصا التعليم الذي يتأسس على الترديد الببغاوي والتلقين والحفظ بمعزل عن الفهم والاستيعاب، والنتيجة لهذا التحالف وجود كتلة ديموغرافية معطلة ورهينة للغرائز وما يسميه علماء الأحياء الخلايا الزواحفية في الدماغ.
وهناك ظواهر في واقعنا العربي لا يمكن فهمها بمعزل عن التقريد، حيث لا بد من تجريف الوعي أولا ثم إفراغ الكائن من آدميته كي يتحول إلى مادة خام يفصّل منها النظام ما يشاء، ويخيط منها أكفانا أو رايات هزيمة وأثواب زفاف أو حداد.
كيف نفهم مثلا أن أكثر من ثلث مليار عربي هزموا عدة مرات خلال ستة عقود أمام عدو لا يزيد تعداده عن سبعة ملايين؟ بحيث تكون حصة الفرد الواحد من الأعداء خمسين أو ستين عربيا من مختلف الشرائح، بينهم فلاحون وأطباء ومهندسون ومثقفون ووزراء دفاع ومتعهدو أوسمة انتصار في ذروة الهزائم؟ وثم يريدون منّا أن نصدق بأن النظم التي تستثمر التخلف وتعتبره ثروة لصالحها وضمانة لاستمرارها تسعى إلى محاربته أو الحد من الأمية المتفاقمة التي تغذيه؟ فكيف يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه او للحرامي أن يكون حاميا أو قاضيا؟
لقد أدت إفرازات التقريد إلى كوميديا متعددة الألوان، رمادية وحمراء وسوداء وبنفسجية أيضا، وهي بانتظار من يكتبها على غرار الكوميديا الإلهية لدانتي أو الكوميديا الأرضية لبلزاك، لأنها غير مسبوقة على الأقل من حيث ما يدبّج من مدائح لثياب الإمبراطور وهو في الحقيقة عار كما في قصة أندرسون الشهيرة، وبفضل التقريد أيضا أصبح لكل دون كيشوت في السياسة والثقافة تابع من طراز سانشوا أو قفة في مسرحية أبو جناح التبريزي، يروي أنباء انتصاراته على الطواحين وعلى رعيته أيضا.
إن كل قراءة غير أفقية لما انتهى إليه هذا الواقع بمعزل عن ثقافة التقريد هي مبتدأ بلا خبر.
___________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *