*د.شهلا العجيلي
لعلّها المرّة الثانية التي أشير فيها في كتابتي بإعجاب مفرط إلى كتاب أورهان باموق (إسطنبول / الذكريات والمدينة)، والذي أجده أهمّ من أعماله الروائيّة التي نال عنها نوبل في العام 2006. حين أعربت عن ذلك لصديقة أثق في رأيها قالت إنّ الكتاب بالنسبة إليها بسيط وعاديّ وكئيب!
لا شكّ في أنّ مستويات التلقّي تختلف وتعتمد على عوامل كثيرة، فـفيما عدا الخبرة، هناك الموضوعات الراهنة التي تشغلك، وعلاقة إيقاع الكتاب بإيقاعك الشخصيّ، واللحظة التاريخيّة التي تنتمي إليها…و أنا لا أصادر على القارئ ما يسمّيه مانغويل (القراءة الخاصّة) تلك القراءة التي نجد فيها أنفسنا، مهما كانت قراءات الآخرين مختلفة وشائقة وغنيّة، وتلك غالباً تكون قراءتنا الأولى للنص، وعلينا، كما يشير، أن نحتفظ بحقّنا فيها قياساً على حقّنا في الليلة الأولى.
قرأت كتاب باموق في العام 2010، ولم أنهه على غير عادتي، بسبب ظرف صحيّ، لتأتي قراءتي الثانية هذه بعد سبع سنوات، جرت خلالها مياه كثيرة تحت الجسور، مياه آسنة وأخرى عذبة. بقي العمل كما هو، لكنّ النصّ تغيّر بتغيّر القارئة. أشير إلى أنّ أورهان باموق معماري وابن لمعماريّ، وأنا أعشق من الفنون المكانيّة العمارة، وكنت قد درّست مساق تاريخ الفنّ وعلم الجمال، وقبل ذلك، كبرت في ورشة جماليّة، كما أسمّيها، لأنّ أبي معماريّ عتيق، اكتشفت من خلاله طرائق في تلقّي الجماليّات، والعلاقة بين العمارة والهويّة، ولاشكّ في أنّ نظريّة الفنّ واحدة، وفي أنّ الحركات الكبرى تشمل الفنون جميعاً وتعود إلى الفكر، لتأخذ أشكالها التعبيريّة وفاقاً للمادّة التي تتعامل معها، وهنا أحيي أستاذي البروفيسور حسين الصدّيق، أستاذ نظريّة الأدب وعلم الجمال في جامعة حلب، الذي دلّنا على طريق الشغف بالنقد الجماليّ في محاضراته ومؤلّفاته!
يتساءل باموق في كتابه عن مصدر الحزن الذي يلفّ إسطنبول، والذي اكتشفه منذ من خمسينيّات القرن العشرين، إذ تشكّل وعيه، ورافقه دائماً، ذلك الحزن الذي يلفّ الأكواخ، والمساجد ،والتكايا، والكنائس، والقصور على حدّ سواء، بما فيها قصر توب كابي، حيث تلفيه في نيشان طاش، وجيهان جير، وتقسيم، وهاس كوى… وينفي باموق أن يكون مصدره فرديّاً، إنّ مصدره جماعيّ ينعكس على الفرد ويغلب على مزاجه، ثمّ يقود الجميع إلى غابته ويتركهم هناك بلا دليل. يحلّ الحزن على العلاقات الأسريّة، والنزاعات السياسيّة، والكتابة، والرسم، وعلى تدوين التاريخ أيضاً. سنستنتج فيما بعد أنّ مصدر هذا الحزن هو التحوّلات الموجعة للهويّة، التي تسبب الاغتراب، والتي تصنعها سيرورة تراجيديّة خارجة على الإرادة الذاتيّة، ومواجهات مع السلطة الاجتماعيّة والسياسيّة، تجعلنا رهائن الجغرافيا السياسيّة، وتشكّل الدراميّة بين الفرد والمكان، وهو يشيرهنا إلى تأرجح المدينة بين البعد الإسلاميّ والتغريب، كما هو بين الجنّة العثمانيّة بقيمها التقليدية وانكشاريّتها البائدة، وبين الأتاتوركيّة وانكشاريّتها القوميّة، حيث التحقيب الزمنيّ درسيّ وانتقائيّ، لكنّه مرهق إنسانيّاً، إذ أنّ أعباء المواجهات تلك ستقع في النهاية على كاهل الفرد وحده.
تبدو الهويّة مكانيّة تتجلّى في طرز العمارة، وشكل السفن في البوسفور، وتبدو زمانيّة أي تاريخيّة طبقيّة، تفرز الأعراف والتقاليد والمفردات والعلاقات، وهي أيضاً حكائيّة ترتبط بالذاكرة، أي بالحكايات عن ذلك كلّه، حكايات الأماكن التي تُمسح من الوجود، وعن الأحوال التي استحالت أخرى، ذلك يمنح كآبة وأسى، مثل الحكايات التي تحكيها جدتك عن العسل والسمن الذي كان يتدفّق أيّام جدّك من براميل بحنفيّات، في حين أنّك الآن لا تستطيع شراء كيلو تفّاح! تأتي أهميّة الحكاية من الإيمان الجمعيّ بها، ويأتي ذلك الحزن العام من تلك التراجيديا الجماعيّة، ويصير مقاماً لا حالة على حدّ تعبير المتصوّفين: «وكانت سوداويّة هذه الحضارة المحتضرة تحاصرنا، وكلّما عظمت الرغبة في التغريب والتحديث، عظمت الأمنية البائسة في التخلّص من كلّ الذكريات المريرة عن الإمبراطوريّة المنهارة، مثلما يلقي عاشق مهموم ملابس حبيبته الضائعة وأشياءها وصورها. وكانت الدفعة القويّة للتغريب مع عدم وجود شيء غربيّ أو محلّي يملآ الفراغ، تساوي تقريباً محو الماضي، وكان التأثير على الثقافة مختزلاً ومعوّقاً، ممّا جعل عائلات مثل عائلتي، وقد رحّبت بالتطوّر الجمهوريّ، تؤثّث منازلها وكأنّها متاحف. وكان ذلك ما عرفته فيما بعد بالسوداويّة والغموض اللذين يلفّان الجميع، وهو ما شعرت به في الطفولة بوصفه كآبة وسأماً.».
يخيّل إلينا أنّ الذاكرة تصير مع الأيّام انتقائيّة، إنّها إحدى آليّات التكيّف، لكن فجأة ينفتح ذلك الصندوق الأسود الذي نركّبه في أقصى الدماغ، أو في أقصى القلب، وبعضهم يشعر به أقصى الكبد، لنخرج منه العكر، والقمامة، والتفاهة التي تنام إلى جانب الألم، والتجارب القاسية، تلك التي نستدعيها عند الكتابة، وتخرج رغماً عنّا عند القراءة، بفعل المشاركة الجماليّة، ومع أنّ الوعي يزيح الجماليّات الفطريّة، فإنّه يحلّ محلّها جماليّات جديدة.
جاءت (الرقّة) هكذا، حدّ البكاء، مع كتاب (إسطنبول) لتشكّل قراءتي الخاصّة له! قد يقول قائل ثمّة فرق شاسع بين المكانين :عاصمة إمبراطوريّة، ومدينة صغيرة محاصرة وآفلة! نعم هناك جلال الإمبراطوريّة والبوسفور، وهنا جمال الانكسارات والفرات! ينقل باموق عن جون راسكن في المصابيح السبعة للعمارة: «لا يوجد مشهد رائع في مبنى جديد يحتاج لمصطلحات خاصّة به، لا يصبح مشهداً رائعاً إلا بعد أن يضفي التاريخ عليه جمالاً عرضيّاً، ويمنحنا منظوراً عرضيّاً جديداً. ينبثق جمال المشهد الرائع بطريقة لم يتنبّه إليه مبدعوه، من التفاصيل التي لا تظهر إلاّ بمرور السنين، من اللبلاب والأعشاب والمروج الخضراء التي ستحيط به، ومن الصخور البعيدة، والسحب في السماء، والبحر متلاطم الأمواج.».
هذا ما كنت أراه في مدينتي، في الرقة القديمة حيث أمشي من بيتنا في رافقة المنصور، عبر السوق العتيق نحو السور العبّاسي، إلى المنطقة الصناعيّة، وبعدها تلّ البيعة و دير زكّا، والمدينة الأقدم توتول، فتحيط بي البيوت ذات الجدران الفخاريّة وسقوف العمد، والشبابيك المقنظرة بلا أباجورات بقضبانها الحديدية المزخرفة والصدئة، سيفاجئك الاخضرار النابت من قلب الشقوق والانكسارات، والذي يؤكد على قوة الحياة، وسيمنح التناوب بين لوني الطين والعشب الأخضر وزهر الرمّان لون المكان، لون السور القديم، وباب بغداد الذي ألف خطوات هارون الرشيد وحكايات زمانه! وحين أقف على سطح أيّ بيت من بيوت المدينة القديمة، حيث يمنع أن يعلو ارتفاع أبنيتها على ثلاثة طوابق، أرى الفرات شريان حياة يمكن أن يشفي أيّ قلب معتلّ!
قد يمتّ الأسى الذي أشعر به عند قراءة تاريخ الرقّة بسبب إلى تلك الأبّهة العتيقة التي تلاشت عن العيان تدريجيّاً، وانسحقت أخيراً لتجعلنا في عزلة مؤلمة عن جغرافية سوريا وتاريخها أيضاً، تلك الأبّهة التي لايمكن أن أشرحها لأن أحداً منكم لم يرها، وربما ليس مهتما برؤيتهاً، ممّا يزيد في الأسى الذي أشعر به. ربّما يساعدني باموق حين يحكي عن مدينته فيقول: «هل هذا سرّ إسطنبول، تحت تاريخها العظيم وفقرها الحاليّ، وآثارها التي تتطلّع للخارج، ومناظرها الطبيعيّة السامية، يخبّئ فقراؤها روح المدينة في شبكة هشّة؟ لكنّنا وصلنا هنا إلى دائرة مغلقة، لأنّ كلّ ما نقوله عن جوهر المدينة يعبّر أكثر عن حياتنا وأفكارنا، ليس للمدينة مركز غيرنا.».
___________
*القدس العربي