يبتعد الضجيج المقفّى، يبتعد المترو حاملاً وجوه الخلق الذين لا يتقنون سوى الصمت والتحديق في الكتب السميكة وصحف المساء، والرجل الذي انزلق الآن إلى عراء البنايات الشاهقة لا يجد ما يفعله سوى مزيد من التسكع، ومحاولات ركيكة لاغتصاب اللغة الغريبة. يسعفه في الوقت المواتي، القطُّ المشرد والعجوز الصماء، التي انحنت على القط تتحسس فروه المغبر بحنان.
والرجل الذي لا شيء لديه يفعله، يقف متأملاً العجوز في حياء، غير أنها تبتدره بجملة طولها فرسخ أو فرسخان، فلا يفهم شيئاً ولا يحير جواباً. كلّ الذي قاله بعض مفردات شوهاء، والعجوز تستمر في الرغاء، والرجل الذي أيقن أن القط هو موضوع الكلام، يحمل القط في حضنه تعبيراً عن التفهم ويرسم على وجهه ابتسامة خرساء، والعجوز تفضي إليه بكل لواعجها دون أن يعي شيئاً مما يقال.
تقترب المرأة التي يطفح جسدها ويفيض من فوق البنطال. تشارك العجوز الصمّاء في الحوار، يأتي رجل آخر وامرأة أخرى، وأخرى. ينعقد على الرصيف وسط صمت البنايات، اجتماع عاجل مكرس لخدمة القط الشريد، والرجل الذي أعياه التشرد بعيداً عن وطنه يصغي، ويعتقد أنه يفهم ما يقال.
تلوح على وجه المرأة الطافح لحمها ابتسامة مشفقة وهي ترنو الى القط الشريد في الحضن الشريد، والرجل يلتقط المبادرة، فيدعو المرأة بمفردات مكسرة إلى كأس من البيرة التي تصلح دواء للأبدان، والمرأة الجسيمة التي هالتها الدعوة بمثل هذا الاستعجال، تتجهم، تعتذر، ثم تلقي تحية الوداع على المجتمعين، وتمضي إلى شأنها تاركة في الفضاء رائحة لحمها الذي يفيض من فوق البنطال.
والرجل الذي أحسّ بغتة أنه ريشة تذروها الرياح أو كلب ضال، ألقى القط من بين يديه دون انتباه. ماء القط مرة أو مرتين ثم انطلق إلى حيث لا يعلم أحد، أو لعله لحق المرأة الجسيمة لأمر ما. والعجوز الصماء انطلقت وفي عينيها حزن على القط الذي غاب، والآخرون تفرقوا شذر مذر، والوحيد الذي ظلّ مسمراً في العراء، تحت صمت البنايات وبرودة الزجاج في النوافذ الكثيفة، هو الرجل الذي مات هذا اليوم، بعد المساء.
____________
*روائي وقاص فلسطيني.
من مجموعته “صمت النوافذ”/قصص قصيرة جداً/ منشورات الأهالي/ دمشق/ 1991