اعتاد جارنا السيد فهيم أن يمارس رياضته الصباحية بعد أن أجبره طبيب الأسرة على ذلك، نتيجة لوعكة صحية ألمت به فصل الشتاء الماضي .
روتين حياته اليومي ذو قوانين صارمة، السير ، الإفطار، قراءة الصحيفة، الهواية الفيسبوكية في التلصص على أخبار الأصدقاء، التحدث هاتفياً مع ابنتيه معلمتي الصفوف الدنيا الساعة العاشرة والربع، الذهاب للمقهى المجاور، انتظار جارته التي تعود ظهراً من مكان عملها، يبتسم لها كعادته يعرض خدماته وإمكانيات المساعدة، تصدّه كعادتها بجفائها غير المحتمل.. لكنه يعاود بأساليب مختلفة التحرش الأخلاقي ذاته.
ستزوره بعد أسبوع ابنة صديقه التي تعمل مهندسة في مجال التكنولوجيات الحديثة، اقترح صديقه استقبالها في بيته الرحب الجميل والذي يحوي مدخلاً منفرداً للضيوف إذ يستقبل معظم أيام الصيف أحفاده وأصدقائهم القادمين من القدس.
موعد استقبال المهندسة آتٍ لا محالة، لم يرضَ والدها صديق طفولته أن تنزل ابنته القادمة من السويد في أحد الفنادق، أذهله ذاك التعصب ، ألم تتربى في دولة غربية وتقاليد منفتحة؟؟ .. لم يكترث للأمر .. ‘بطيخ يكسر بعضه’ قال لنفسه وذهب للتسوق لاستقبالٍ يليق بالضيفة .
اصطدم بجارته المتيم بها أثناء التسوق، أراد وبصدق أن تساعده بأولويات المشتريات .. تكلم بالخليوي مع صديق طفولته والد المهندسة مرحباً بها.
الجارة التي بدت هجوميةً وفظّةً طيلة الوقت نظرت إليه هذه المرّه بنوع من التراخي مستفسرة إن كانت الضيفة حفيدته؟
لأول مرة تبادر هذه الجارة المتعجرفة بالتساؤل أو الاستفسار!!
رد بكبرياء مصطنع ” ابنة صديقي، مهندسة غاية في الجمال والأناقة من السويد، ستزورني لا أدري كم يوماً ربما بعض الأشهر”
‘أيُّ كاذب محترف أنا’، قال لنفسه، ‘لا أدري إن كانت تلك المهندسة جميلة أم قبيحة، وأعلم جيداً انها ستبيت عندي يومين فقط للمشاركة في مؤتمر خاص باكتشاف قامت به الشركة التي تعمل بها، إذ خوّلت من قبلها بنقل فكرة ذاك الاكتشاف الذي شرحه له صديقهُ ألف مرّة ولم يفهم منه شيئا على الإطلاق.. ما يهمه الآن ليس الضيفة ولا شيء سوى الاهتمام غير الاعتيادي من قبل الجارة.
‘هل لديك صورتها؟’.. سألت الجارة بنوع من الغيرة الملغومة.
ربما.. أجاب ببرود ، وبدأ يبحث عن إحدى جميلات العائلة ، وجد إحداهن يبدو انها فعلاً جميلة، اقترب إلى حد الالتصاق بها، ها هي توافق، اقترب أكثر قائلاً.. ‘هذه هي صورتها ، اليوم هي أجمل بكثير’ . تمنى بتلك اللحظة أن يتوقف الزمن هنيهة ليسترجع ما قرأه ليلة أمس عند وليم فوكنر في ‘موسيقى سوداء’، “سأكون أنا هذه المرة، دون التأثر بأي مادة قرأتها، ماذا ينفعني إن تقمصت دور بطلته وكانت بطلتي رقيقة بهذا الشكل”، ابتسم بحذر في داخله، ثم قال لها :
” هل لي أن أطمع ببعض الاستشارات؟ لأني والله لا أدري ما يجب شراءه، ماذا أطهو لها، محتار جداً ، وخجل من نفسي أن أطلب منك مساعدتي لعبور هذا الامتحان الصعب..
“ولا يهمك جاري العزيز، الجار للجار .. ولو .. أقل ما فيها” ، فتح فمه مذهولاً لبعض الثواني أو ربما بعض الدقائق إلى أن شعر فجأة بجفاف فمه وقال بصوت متحشرجٍ :
” لا أريد أن أغلبك معي، في الواقع أنا خجل من نفسي” ، لم ترد عليه ، أخذت منه سلّة المشتريات وبدأت تضع بها كل ما طاب لها وهو يتبعها كالظل ويحاسب حتى دون أن يسأل ويستفسر كما كان يفعل بإلحاح وبدقة نكدية حينما يقرر أن يقتني احتياجات لبيته، يفضل الأكل بالمطاعم الشعبية كل يوم على أن يطهو . لكنه الآن مرغم، أجل مرغم بكل الحب والتفاني من أجل طبخة .. يا إلهي السلة ممتلئة، ‘وعلى قلبه زي العسل’، ‘لتشتري كل السوق، ما يمتلكه يمكنه شراء جميع الأسواق ولكن هل سأشتري قلبها؟؟’ قال لنفسه وهو يمشي خلفها كالطفل الذي يخاف التيه عن والدته. انتهت المشتريات وذهبا لمنزله ولا زال يتفحص أن كان ما يعيشه الآن حلماً أم واقعاً.
اتصل فجأةً صديقه من السويد ليعلمه بأن ابنته لن تزوره لسبب وعكة صحيةٍ المت بها، وبأن الشركة أرسلت بديلاً عنها للمؤتمر، كان السيد فهيم يرد بصوت خافتٍ، وأكمل مسرحيته بحذرٍ شديد أمام جارته التي فتحت قلبها العنيد له ليشعر وَلَو لمرة واحدة بعد عشرين عاماً من فقدان زوجته بأن له قلباً ينبضُ حباً.