بدأ العام الدراسي، وبدأت معه ذكريات أيام خلت تمر كشريط قطار بخاري قديم، رأيت طفولة بعيدة لم تكن سوى ماض جميل لن يعود، معه الطيبة والبساطة، ومرت معه أشياء كثيرة اختفت من حياتنا لتحولها كعود قصب جف ماؤه، وبدا ممصوصاً لا يصلح إلا للحطب والنار.
قبل سنوات، كان اليوم الأول من العام الدراسي، وكانت أمي ترفض أن أرتدي مريول المدرسة الجديد الذي خاطته جارتنا الطيبة البدينة لنا، وترى أن اليوم الأول في مدرسة تابعة « للأونروا» سيمر في التنظيف وسيعلو الغبار، فلا أحد يهيئ الصفوف للتلاميذ سوى أنفسهم، وكنا فعلاً نقضي أول أيام العام الدراسي في إزاحة المقاعد الخشبية المتآكلة والمتهالكة وتنظيفها ونفض الغبار عنها، ثم نقوم بسكب كميات كبيرة من الماء ونبدأ بمسح الأرضية وتتسخ ملابسنا بسبب ذلك، وبسبب بعد نظر أمي فهي كانت تصر أن أرتدي المريول القديم في اليوم الأول للمدرسة.
وكنت أبكي بحرقة لأني أريد أن ارتديه وأتعجل اليوم الدراسي الأول لكي أختال به أمام زميلاتي الصغيرات، وكان هذا الأمر حدثاً مهماً بالنسبة لي وكان أبي ينهرني بإيعاز من أمي وأذهب إلى المدرسة بالمريول القديم ودموعي تسيل على وجهي ولكن أبي وهو يصحبني يشعر بالسعادة لبعد نظر أمي، وحرصها على عدم اتساخ المريول الجديد فهو يعمل مدرساً في إحدى مدارس «الأونروا»، والتي كانت فصولها مهدمة الجدران وسقفها عبارة عن قرميد مهشم، ويعرف ما ينالها من أوساخ وغبار خلال الإجازة الصيفية، علاوة على أن أبناء المخيم المحيطين بها كإحاطة السوار بالمعصم يقومون بتحويل فصولها لأماكن لعب ولهو، وتدخين السجائر خلسة بعيداً عن آبائهم.
وهكذا كنت أصل إلى المدرسة وأقف في ساحتها وأنا أشعر بالخجل حتى تهل صديقتي المفضلة والمقربة وقد ارتدت مريولها القديم وتسوق لي على عجل وبعينين منكستين في الأرض السبب الذي بررت به أمي حرصها على عدم ارتدائي المريول الجديد، وأضع يدي في يدها ونبدأ في اللعب واللهو وتفقد مرافق المدرسة والتي نجدها كما هي لم تنلها يد الإصلاح ولا الترميم، وخاصة دورات المياه، فنبدي تأففاً واضحاً، ونصارح بعضنا البعض بأننا لن ندخل دورات المياه طيلة العام مهما ألح علينا نداء الطبيعة.
وفي اليوم التالي من العام الدراسي، أكون قد حصلت على تصريح من أمي فأرتدي المريول الجديد وأطير به إلى صديقتي ولكني اكتشف أنها قد وصلت بمريولها القديم ويتكرر ذلك في الأيام التالية لأكتشف دون أن تبوح لي أنها لا تملك مريولاً جديداً من الأساس بسبب فقر عائلتها وكثرة عددهم، وهكذا قررت أن أعود لمريولي القديم والذي أصبحت أجد متعة وراحة في ارتدائه وبررت هذه المرة أمام أمي السبب بأنه يحوي عدة جيوب بعكس المريول الجديد الذي لم تضع له الخياطة سوى جيب داخلي واحد.
تلك الذكرى التي لا تنسى تمر وتنبض في عقلي وروحي وأنا أطالع الجروبات النسائية على «فيسبوك»، وحيث تقوم الأمهات الشابات بنشر صور مراييل بناتهن، وكذلك الزي المدرسي الذي اشترينه للأولاد، وأسماء المحلات الشهيرة، وكل واحدة تقوم بعمل «شير أو تاج» لكي تضمن أن تراه جارة أو قريبة، وتتباهى بأنها أنفقت مبلغاً كبيراً من المال في شراء مستلزمات المدرسة ويتداولن نكتة سخيفة عن زوجة كتبت على حسابها لتستشير صديقاتها قائلة: هل أطلب من زوجي ملابس المدرسة أم مدارس العيد أم أطلب الطلاق؟، وهي تعرف أن الزوج المغلوب على أمره سوف ينصاع لها ويقترض ويدخل في متاهة من الأزمات المالية المتلاحقة من أجل ألا تطلب الطلاق، ولكي تبدو زوجة قوية ومسيطرة أمام صويحبات الـ»فيسبوك» والـ»أنستجرام» والـ»واتس آب».
مرت الأيام الجميلة التي كانت فيها الحياة بسيطة كما أسلفت، وأصبحت كل مناسبة بمثابة المعضلة، وأصبحت المناسبات فرصة للتباهي والتفاخر، وفرصة لإظهار ما تملك هذه من مال وما تملك الأخرى من إمساك بزمام البيت، وينشأ الصغار على خطى الأمهات ويتعلمون منذ صغرهم هذه العادات والصفات المقيتة والسيئة فيدلون ألسنتهم لأصحابهم الفقراء، ويتفاخرون على حساباتهم على «فيسبوك» بدورهم بأن «ماما» قد اشترت بدلاً من الزي المدرسي اثنين، وبدلاً من الحقيبة حقيبتين، وبأن ملابس العيد سوف تأتي وبأن الأب سوف يدفع وبأن السعادة بل قمة السعادة هي أن تملك كل شيء وغيرك يتحسر ويبكي.
_____
*الأيام الفلسطينية