*أمير داود
تظهر مدينة رام الله في معظم الأعمال الأدبية الأخيرة الصادرة من فلسطين المحتلة، كمدينة التحوّلات الكبرى، من “البلدة الصغيرة الهادئة” حتى قبيل توقيع “اتفاق أوسلو” مطلع تسعينيات القرن الماضي، إلى مدينة ضاجّة بالتحولات المتطرّفة على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أو ما بات يطلق عليها “العاصمة المؤقتة” للدولة الفلسطينية، بما يتصل بلقب العاصمة وإن كانت مؤقتة من ملامح جديدة، تدفع جيلاً بأكمله من كتّاب وصحافيين وفنانين إلى الوقوف أمام هذه التحولات.
في مجموعته الجديدة “شارع فرعي في رام الله” (2017) الصادرة عن “دار الشروق” في عمّان، ينشغل أكرم هنية (1953) برصد هذه التحولات، وإن كان صاحب “السفينة الأخيرة.. الميناء الأخير” (1979) لا يذهب بعيداً في تفكيك ما وراء الظواهر، إلا أنه هنا يحاول، وهو “المخضرم” كما يقول على لسان الراوي في أكثر من موضع فيها، إلى تقديم مقاربة يغلب عليها الحنين لـ”رام الله التي في البال”، في مقابل احتفاء يبدو واضحاً برام الله في صورتها الآن، ولعل الاحتفاء إياه يظهر في أكثر من مكان، من خلال سرد كرنفالي لأهمّ معالم المدينة الجديدة التي تضجّ بالمقاهي والمطاعم والمباني الجديدة.
في مجموعته التي تقع في مئة صفحة، يكتب هنية بلغة أدبية متقشّفة تتحرر من المجازات اللغوية والبلاغة، لصالح اللغة الصحافية المباشرة.
ولعل انزياح صاحب “دروب جميلة” (2007) إلى هذه اللغة، يعود إلى رغبته في المحافظة على وهج الحنين إلى أيام رام الله القديمة، بما يحتمله الحنين من بكاء على العمر الذي يمر سريعاً، ووجوه المكان التي تتبدل بسرعة، وهو ما يبدو واضحاً في أكثر من موضع من حواراتها التي اتسمت بالشكوانيّة الهامسة، لرجال منهمكين في الشأن العام، مرة على مآلات الفدائي الذي أصبح عقيداً في “السلطة”، ومرة على المشهد المروّع للطفل محمد الدرة لحظة استشهاده، ومرة حين اكتشف أنه موجود صدفة في بيته الذي صادره الاحتلال العام 1948.
ولعلّ المجموعة لا تتوقف عند التزامها الواضح بالشأن السياسي العام فقط، فثمة شكوانيات شخصية ينزع إليها الراوي في أكثر من مكان، عن هواجس الوحدة والطلاق والعلاقات وغيرها.
تنتمي هذه المجموعة إلى جنس أدبي بات يخطّ طريقه صعوداً في الآونة الأخيرة، بتحرّره من الشروط اللازمة لبناء حبكة القصة، فلا تنتهي النصوص/الشذرات عند مبتدأ النص الذي يليه، بل ثمة خيط “ثيماتي” يربط نصها الأول بنصها الأخير، وربما هو السبب خلف ترك غلاف الكتاب دون تصنيف أدبي محدد، للإفراج عن النص من حيز التصنيفات.
ولعلّ مهنة المعماري لبطل القصة، تأخذ دلالة واضحة حول رغبات لم يفصح عنها كاتب المجموعة لتقديم صورة معمارية جديدة للمدينة، مهنة عبّر من خلالها وفي أكثر من موضع، عن الصورة التي تراوده لتقديم معمار أصيل للمدينة التي تنمو وتتشكل بعيداً عن تدخلاته المباشرة التي تبدو هامشية في ظل الصعود الهائل والسريع لمعالم المدينة: “وأشرت بأسى إلى مساحات كبيرة من التلال والجبال الصغيرة، كانت خالية قبل ثلاثين عاماً وأصبحت الآن مزروعة بالعمارات السكنية”.
لا تكتفي لغة المجموعة بتحررها من المجازات اللغوية إلى درجة التقشف، بل تتعدى ذلك بعدم انشغالها أصلاً بالبحث عن “القفلات” المدهشة، أو المفارقات العجائبية لدرجة تجعل القارئ يتساءل حول الخيط الذي يفصل الجانب الحقيقي من النصوص عن الجانب المتخيّل، ثم يجعله يتساءل مرة أخرى عن علاقة مشاهدات الصحافي/ كاتب النص بالأحداث التي وقعت في المجموعة، باعتبار السياق الاجتماعي والمكاني الذي يحكم أجواء النصوص ماثلاً أمام القارئ.
“شارع فرعي في رام الله” مجموعة من 50 نصاً/هاجساً/ومضة، تسلّط الضوء على المهموس في المقاهي والسيارات في الشوارع، تقترب من المحاكمة ولا تحاكم، بل تكتفي بتأمل التحولات بالتحسّر تارة والإعجاب تارة أخرى وتعيد القراءة من جديد.
——
*العربي الجديد