في ليبيا اتهم خطيب جامع من على المنبر الكاتب وعازف العود الليبي خليل الحاسي بأنه “كافر شيعي” وطالب المصلين بالابتعاد عنه بسبب ما يكتبه.
ولا ننسى الضجة التي رافقت رواية “وليمة لأعشاب البحر” للكاتب السوري حيدر حيدر، بعد حوالي 17 عاماً من تاريخ صدورها، وكانت عبارات وردت على لسان أبطال الرواية سببا في اتهامه بالتطاول على الدين الإسلامي، وعبر البريد الإلكتروني تلقى الشاعر المصري أحمد الشهاوي تهديدا من جماعة تسمي نفسها “أنصار الله”، تتهمه بالكفر، بعد صدور ديوانه “الوصايا في عشق النساء”، وفي اليمن صدرت فتاوى بإهدار دم الروائي اليمني علي المقري والسبب رواية “حرمة”.
وأكد أستاذ الأدب العربي بجامعة أسيوط الدكتور أحمد الصغير على خشية المبدع من الاضطهاد السلفي. لذلك يحاول المراوغة من خلال اعتماده على الحديث اللامباشر الذي يعتمد على الرمزية. وعليه فالكثير من الشعراء يختفون وراء نصوصهم، مخيرين ألا يتصدروا صفوف المواجهة حتى لا يتعرضوا للتكفير والذبح والإرهاب.
تورط المثقف
يوضح رئيس تحرير مجلة “المستقل” الإلكترونية الليبي عبدالمنعم المحجوب أن المد السلفي ومنتجاته ومشتقاته بمختلف أطيافه المعتدلة والمتطرّفة هو حالة رجعية لها أسبابها التي يجب أن تُدرس جيداً، بعمق وواقعية، للخروج بما يناسبها من علاج. ويقول علاج لأنها، في رأيه، تمثّل حالةً مرضيّة استشرت وما زالت تتفاعل في المجتمع العربي أكثر من أي وقت مضى. لا معنى لأن يسمح المجتمع للمدّ السلفي بأن يستشري ويتغلغل في الأوساط الاجتماعية إلا معنى واحداً بالنسبة إليه وهو هشاشة وتآكل البنية الثقافية التحتية للمجتمع. أما أصوات المثقفين والمبدعين التي يفترض جدلاً أنها تقف ضد مثل هذه الظواهر فإن دورها جذري وحاسم، لأن هذه الأصوات تمثل الحالة المقابلة للتخلّف والتردّي الثقافي الذي يقوده التيار السلفي”.
ويتابع ضيفنا “أن نجد أصواتاً تراوغ فذلك يعني أنها ليست أصواتاً جذرية في فهمها للحياة وتحمّل القيام بالدور الذي ينتظره المجتمع منها. هل هناك في زمننا هذا تعريف للمثقف ينأى به عن دور كهذا؟ الإجابة في اعتقادي هي لا، فالمثقف يكون مثقفاً عضوياً بتعبير غرامشي، أو لا يكون، المثقف إنسان متورّط بتعبير سارتر، متورّط في الوقوف ضد الظواهر التي تسعى إلى مصادرة حرية الآخرين، متورّط في النضال ضد تنميط الآخرين ونسخهم عن نموذج خيالي لا يوجد إلا في أوهام السلفيين والمؤدلجين دينياً أو سياسياً”.
ويرى المحجوب أن المجتمع العربي في حاجة إلى أصوات مبدعة تؤدي دوراً قاسياً لمواجهة استشراء المدّ السلفي، أصوات مثل محمد أركون، ونصر حامد أبوزيد، والعفيف الأخضر. هؤلاء رحلوا عن عالمنا الآن، ويجب أن نعيد قراءة ومناقشة الآثار الرائعة التي تركوها لنا. يجب أن يقف المثقفون العرب على سطح الأرض إذا أرادوا أن يؤدوا دوراً حقيقياً يحترمهم الآخرون من أجله.
يشير الناقد الأردني سمير الشريف إلى أن الأدب ما زال ينحو منحى الترميز وتوظيف الاستعارة والمجاز والتورية لتمرير مضامينه، احتراما لذائقة وعقل المتلقي وإشراكا له في الوصول إلى المضمون بطريقة غير وعظية أو تقريرية مباشرة، ولما ارتفع قلم الرقيب الأحمر في وجه الإبداع قديما وما زال، لجأ الكتّاب إلى المراوغة والالتفاف الفني لتمرير مضامينهم.
ويضيف الناقد “أمام هجمة التكفير والتخوين وكل اليافطات التي تنتصب أمام المبدع قد يضطر البعض، وكل حسب قناعاته ووعيه، إلى البحث عن طرق متباينة للهروب من مواجهة الهجمة والانحناء لتمر عاصفتها التي نراها تتسع ويشتد تأثيرها، على الجميع أن يتنادوا كتابا ووزارات إعلام وثقافة ومنابر في شتى الاتجاهات للتصدي لهذا الفكر بدحضه ومواجهته وتعريته وبيان خطئه وخطره، لكي يفهم من يتبنونه ممن غُرر بهم أن ما يحملونه لا يمت إلى الإسلام الصحيح بأدنى علاقة، الحديث النظري حول هذه الآفة لن يمنع من تمددها واستفحالها، ودور الكاتب يتعاضد مع المنابر والوسائل الأخرى في التصدي والتعرية والنقض والتصحيح”.
الماضي والمستقبل
يقول الكاتب المغربي عبدالرحيم جيران “إذا كان المبدع لا يجعل من الحرية مبدأ في الكتابة فهو غير محسوب على الإبداع، ربما قد يكون مكتتبا لا غير. ويترتب على هذه المقدمة قيد أخلاقي ماثل في حس المسؤولية تجاه الكتابة؛ ومن ثمة ينبغي على المبدع أن يقبل تبعات هذه المسؤولية، وفي مقدمتها معارضة الرأي العام له، قبل أي معارضة أخرى تأتي من هذا التوجه أو ذاك. ومن ضمن هذه التبعات المحاكمة، والاتهام بالهرطقة، والتكفير. إن المبدعين الأصلاء تعرضوا عبر تاريخ الكتابة لمثل هذه التبعات، ويكفي ذكر فلوبير حين أصدر روايته ‘مدام بوفاري’، وما واجهه من تبعات مكلفة”.
ويضيف “يحتاج المبدع اليوم أكثر مما مضى إلى الشجاعة الفكرية كي يخدم عصره بمناهضة كل فكر متخلف يحول دون تقدم مجتمعه، ودون جعله يتحرر من كل الأفكار الماضوية التي تكبله، وتمنعه من معانقة الحرية، ومن الإنتاج الفني الحقيقي”.
وجهت للروائي الجزائري عزالدين جلاوجي تهمة المروق والعبث بالمقدس، بسبب رواياته “سرادق الحلم والفجيعة”، و”الرماد الذي غسل الماء”، و”حائط المبكى والعشق المقدنس”، ويعتبر جلاوجي المد السلفي صناعة حضرت في مخابر غربية، ووجدت الحماية في محاضن بعض الدول العربية التي أريد لها أن تقوم بهذه المهمة، فتوفر هذا التيارُ على الأموال الطائلة، والمنابر الإعلامية، وتم تلميع أقطابه وأتباعه، حتى صاروا رموزا يعود إليهم الناس، ويتبعون آراءهم القشرية، ثم تبنتهم دول عربية وإسلامية أخرى لأغراض سياسية منها شق المعارضة الفعلية وتهديدها. لا شك أن المخابر الغربية قد درست التاريخ الإسلامي جيدا، وأدركت أن التدمير الذاتي هو الطريق الأيسر لتشويه العدو وتشويه موروثه ودينه وهزيمته دون خوض معركة، كون الاستعمار المباشر يخلق حالة من العداء للغرب، ويصنع رموزا لهذه المقاومة، كما وقع خلال الاستعمار التقليدي للعالم العربي.
ويتابع ضيفنا “لما كان أخطر سلاح عند هؤلاء هو التكفير، ثم إصدار فتوى القتل بعد ذلك ضد مخالفيهم، أفرادا وجماعات ومذاهب منذ العصر العباسي، والجميع يعلم ما وقع لآلاف المثقفين وعلى رأسهم المعتزلة، فإن المخالفين من المثقفين المبدعين سيكونون الفريسة الأولى، لأن المثقف بطبيعته تنويري عقلاني يلتفت إلى السلف ويستفيد منه بقدر ما يدفعه قدما إلى المستقبل وهو ما فعلته كل الشعوب الحية اليوم، في أوروبا والصين واليابان، وعلى الكتّاب ما داموا تنويريين أن يحملوا الرسالة بقوة، وأن يدافعوا عن النور بكل ما أوتوا من قدرة، طبعا أنا أقصد بالتنويريين أصحاب المشاريع الثقافية والمعرفية الكبرى، وأصحاب الأقلام المسؤولة التي تدرك عمق المأساة”.
ويقول جلاوجي “أنا لا أدعو إلى مواجهة ذلك بالكتابة الإبداعية فقط، بل أدعو المثقفين إلى إنقاذ المساجد من هذا النوع من الخطاب المتخلف، لأن المساجد هي التي مازالت قادرة على حشد الآلاف من الناس. قدر المثقف عموما والمبدع على وجه الخصوص أن يحمل بيده دوما مصباح التنوير ليرتقي بالمجتمع، وقدره أن يكون منسجما مع ماضيه متطلعا إلى مستقبله، وستتجاوز الأيام هذا النوع من التيارات السلفية لأنها تعيش في كهوف الماضي، ولأنها لا تنظر إلى الواقع والمستقبل إلا من نافذة الماضي، ولأنها اعتقدت أن حلول المستقبل دينية ودنيوية موجودة في الماضي، وأعتقد أن المراحل ذاتها مرت بها أوروبا، من عصور وسطى منحطة تتحكم في الكهنوت والكنيسة، إلى عصر تنويري نهضوي يحتكم إلى العقل والعلم”.
______
*العرب