يوم بَدِّن بصيف قار

خاص- ثقافات

*الاطرش بن قابل

 

أيام تتلفظ بأنفاس النار، لا يكاد المرء يشرب الماء حتى يأكل العطش أحشاؤه، فلا ينتبه إلّا والإناء يرتطم بشفتيه مرات ومرات، حتى تهترئ عضلاته ويلين قوامه من كثرة تركيزهم بالماء، وينتفخ البطن حتى يفقد الحراك، وإن تحرك فمغصوبا في أغلب الأحيان، يتقاذف الماء بطنه كأنه إناء محمول انتقص امتلاؤه.

وبما أن المصائب كما قيل، لا تأتي فرادا، تتعطل الكهرباء في الحي من حين إلى آخر وتتوقف أجهزة التبريد، وتدخل الحرارة منعرجا جديدا، فيصبح الجو أكثر توحشا وانتقاما، يضيف إلى كل ما سبق اختناقا شديدا تكاد تسمع في أذنك تهديدا بالقتل مكرر لعدة مرات وبلغات العالم لكنه بالطريقة نفسها كل مرة، ويذكرك التعرق الشديد بما شربت من ماء فبعد بعض البرودة التي كانت تحتبسه ولا تترك لهروبه مخرجا يجد منفذا عبر الجلد الذي ملأته الشحوم، فتلتصق ثنايا الجسم مُعلنة بداية روائح لا تمحوها ألاّف المستحضرات ، ونودع تقاليد الاستحمام المفعم بالراحة فالماء غير مباح ولا ينزل كما كان من زمن غير بعيد، عندما كان يحركه ضغط مضخة الماء.

و في كل هذا المعترك تستنفر بعضا من قواك للخروج فيعانقك ريح قد شبعته حرائق غابات المدن المجاورة لصهد جنباتك، فتتساوى حرارة الاستنشاق بحرارة الزفير بل يُصبح نفسك أقل حرّا مما يجود به عليك  هذا الهواء.

و لأن الحياة لا تنتظر ومسؤولية العائلة كذلك، فلا بد من الاعتمار الى الحوانيت لقضاء حاجيات البيت، وعند الوصول لأول وجهة خمنت في الذهاب إليها، ترى وجه صاحب المحل، قد ملأته الكآبة بعد أن بدأت تذوب معروضاته من الأيس كريم الذي كان سيجني منه مالا وفيرا مع هذا الحر، ويلوح إليه بعضه وخاصة الذي قد تجولت الشوكولاطة في أحشائه، ينادي إلى اغتنامه قبل أن تذيبه الدقائق ويتساوى مع هذا اليوم.

تكاد تكون هذه الفرحة الوحيدة بل أمنية كل فرد عايش لفح اليوم، فلا وقت إلى حمية ما دام الجو بركان منصهر متنقل، والحرارة تتقاذف الجميع إلى البحر والجبل كل حسب تضاريس مدينته، لكن المدينة التي يسكنها قد استعرت من قديم الأزل فلا وجود لوادي ولا سفح جبل، ولا بحر يثبط بعضا من سخونتها بقّر نسائمه، فبدايتها كنهايتها منبطحة مستعدة للتوقد، يشتعل ترابها، ويستوي ركوب السيارة بالسير مادام يعتنقك سواد القار ماشيا، ومحرك السيارة حيث لا ينفع مكيفها إلا في زيادة استهلاك البنزين.

العجب عندما يصل إلى بائع الخضر ،يريد شراء بعضا مما أكسدّه سعير هذا السبت من خضر وينتابه شعور بأنه سيزيد من حرارة هذا الكوكب إن أشعل النار ليطهوها، فينجو بنفسه وقبل أن يخرج ينحني على بطيخة كبيرة بحجم الكرة الأرضية ويأمل أن يثلجها البراد لمعانقة بعض حلاوتها.

وفي العودة يكاد كرشه ينزل على ركبتيه بعد ثقل ما يحمل وبخطى متثاقلة تستهلكه كبطارية هاتفه الذي يستعصم عن الرنين اليوم فهو يعلم أن احتكاكه على أذنه قد يفقد بعضا من أحشائه من عرق التلاصق، لكن هذا لم يمنع قبل الخروج من إلصاقه بمأخذ الكهرباء عسى أن تفاجئه في آخر عمره.

يصل إلى حافة الباب وقد صهر الحر قواه فيدخل ليجد الكهرباء مازالت أهم الغائبين وجل العائلة تفترش الأرض تنثر بعضا من حر أجسادها على صفائح البلاط شبه المشتعل.

ويمضي النهار متثاقلا في عطلة نهاية الأسبوع بكل ما سبق ليضاف إلى ليله سهر غير مبرمج كل يخيم عليه قلة النور، فشمعة يمكن أن تولد حرارة تكفي لقضاء شتاء حار بوهج الشمس في سيبيريا، ويأتي الفجر ببقايا نسيم جرفته المدن الساحلية أو سمحت بمروره تحشما، ربما ليغمض أول جفن لصبية مازال حراكهم جليا بأصوات الصراخ فهذا اليوم أقسم أن لا يخلد أحد للنوم قبل الفجر ، ويرفع أذان الفجر معلنا الصلاة فالنوم، غدا قد يسترق صيف هذا العام يوما من شتاء يناير، يوزع علينا بعضا من حنان صقيعه.

غدا يوم جديد، وأول ما يذكر قبل النوم اللهم أجرنا من حر جهنم فهذا من بعضه، وينير ضوء المكيف معلنا عودة الكهرباء، ولا يغص في أعماق النوم يرن مُنبه الهاتف معلنا بداية يوم عمل.

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *