جسيم غامض يفتح آفاقاً لفهم تركيب «المادة المُظلمة»

واشنطن- لم ترها عيون العلماء بل عجزت أجهزتهم أيضاً عن رصدها، فسمّوها «المُظلمة»، إلا أنّها لا تكف عن مفاجأتهم منذ مطلع القرن الجاري الذي شهد تكريس «وجودها» المُخاتل. وعبر تجارب مضنيّة، استنتج العلماء أنها مُكوّنة من تركيب أساسي مجهول، بمعنى أنه يغاير كل ما عرفوه عن التراكيب الأساسيّة للمادة وذرّاتها، بما فيها تراكيب المادة- المُضادة «أنتي- ماتر»Anti- Matter. ولإنّه تركيب مجهول، سمّاه العلماء «الجُسَيم إكس» Particle- X، تميزاً له عن جُسَيمات المادة ومُضادها (إلكترون، بروتون، نيوترون، نيوتريون، بوزيترون، كوارك، بوزون…).

وتعبّر «المادة المُظلمة» عن نفسها عبر قوّتها بالأحرى جاذبيتها، على رغم أنها تعمل بطريقة غير مألوفة أيضاً.

وفي لقاء لـ «الحياة»، مع عالِم الفضاء اللبناني جورج حلو، الذي يعمل في وكالة «ناسا»، أعرب حلو عن اعتقاده بأن «المادة المُظلمة» ربما تغيّر جذريّاً نظريات الفيزياء الكونيّة، بما فيها نظرية النسبية التي وضعها آلبرت إينشتاين. (أنظر «الحياة» في 23 كانون أول – ديسمبر2011).

ووفق علماء جامعة «ساوثهامبتون» البريطانية تبيّن أن «الجُسَيم- إكس» يتمتّع بغموض وإبهام فائقين. إذ توصلوا إلى تحديد كتلة «الجُسَيم- إكس»، مقدّرين أنه يصل إلى 0.22 في المئة من كتلة الإلكترون، وهو المكوّن الكهربائي الذي يدور حول نواة الذرّة. وشدّدوا على أنّ وجود ذلك الجُسَيم لا زال تخمينيّاً Hypothetical، بمعنى أنه يستند إلى معادلات في الرياضيّات والفيزياء، مع الإشارة إلى أن خفّته الفائقة تزيد في تعقيد الصورة العلميّة عن المادة المُظلمة.

وفي عام 2015، نُشر تقرير علمي بريطاني عنه في مجلة «التقارير العلميّة» Science Reports، كما وضعت صحيفة الـ «إندبندنت» ملخَصاً عنه على موقعها الشبكي.

وآنذاك، صرّح البروفسور جايمس باتمان، من قسم الفيزياء والفلك في «ساوثهامبتون»، أن «الجُسَيم الذي اكتشفناه يبدو «جنونيّاً» في خفّته الفائقة، لكن لا نملك معطيات ولا قياسات كي نستخدمها في دحض وجوده الخفيف تماماً».

وحتى الآن، لم يتمكن العلماء من رصد «المادة المُظلمة» بصورة مباشرة، ما يتيح مجالاً للقول إن الخفّة الهائلة لمكوّنها الأساسي، أي «الجُسَيم- إكس» ربما كان سبباً في ذلك الخفاء المثير.

تجوّلٌ في كونٍ فائق الضخامة

لأخذ فكرة أوسع عن الموضوع، يكفي القول إن علماء الفيزياء يظنون حاضراً بأن كل ما يمكن رؤيته من كواكب ونجوم ومجرات وسواها، يشكّل 4 في المئة من الكون.

وكذلك تشير ملاحظات مختصّي الفيزياء الذريّة إلى أن «المادة المُظلمة» تمثل قرابة 23 في المئة من الكون، فيما الجزء الباقي يتكوّن من «الطاقة المُظلمة» Dark Energy، وهي القوة التي يُعتَقَد أنها تتسبّب بتوسع الكون المتسارع، مع الإشارة إلى صعوبة التفريق بين «المادة المُظلمة» و «الطاقة المُظلمة»!

وثمة مشكلة اخرى قوامها أن المكونيّن السابقين لا تصدر عنهما أشعة إلكترومغناطيسية كما يحدث في النجوم والكواكب، بل لا يمكن «رؤيتهما» إلا عبر تأثيراتهما، خصوصاً قوة الجاذبية.

وبسبب خفائها ومكوّناتها، يميل علــماء كـــثر إلى الاشتـــباه بأن «المــادة المُظلمة» عبارة عن جزيئات كبيرة ضعيفة التفاعل، ما يجعل دراستها أمراً عصيّاً.

ويعرف علماء الفيزياء حاضراً أنّ اصطدام جزيئات كبيرة ضعيفة التفاعل بجزيئات مُضادة لها (وهو يُعرف باسم «الاندثار» أو «التلاشي»)، يصدر عنه مُخلّفات يتكوّن معظمها من جزيئات «كوارك» ثقيلة وجزيئات «ليبتون». وكذلك يعرفون أنّ تصادم الـ «كوراك» والـ «كوارك المُضادّ» Anti Quark، ينتج دفقاً من جُسَيمات، لكنه يحتوي فوتونات تؤلّف الضوء.

وفي تجربة «جامعة براون»، عمد كوشياباس وغيرينغر- سميث أساساً إلى السير رجوعاً في مسار التفاعل التسلسلي للاندثار. إذ اختارا سبع مجرّات قزمة تظهر مراقبتها أنها مليئة بـ «المادة المُظلمة»، بمعنى أنه ليس من الممكن تفسير حركة نجومها استناداً إلى قياس كتلتها وحدها. ولا تحتوي تلك «المجرّات القزمة» على غاز الهيدروجين وغيره من المواد العاديّة، ما يعني أنها توفر خلفيّة خالية تتيح مراقبة «المادة المُظلمة» وتأثيراتها.

وأشار كوشياباس إلى تلك الميزة بقوله: «إن نسبة الإشارة أعلى كثيراً من نسبة التشويش. إن تلك المجرّات القزمة هي نُظُم نظيفة حقاً».

وفي السياق، حلّل الباحثان بيانات «أشعة غاما» التي جمعها «مرصد فيرمي» خلال السنوات الثلاث التي سبقت الدراسة، عبر رصد مجموعة من مجرّات قزمة. وتوصّلوا إلى تحديد عدد الفوتونات في تلك المجرّات. واستناداً إلى عدد الفوتونات، استطاع باحثان من «جامعة براون» من تحديد معدل إنتاج الكوارك، ما أتاح لهما معرفة حدود كتلة جزيئات «المادة المُظلمة» والمعدّل الذي تندثر به.

وأنذاك، لفت كوشياباس إلى أنّها المرة الأولى التي أُجريت تجربة من ذلك النوع، مع استبعاد الجزيئات الكبيرة الضعيفة التفاعل، التي ربما هي المُكوّن فعلياً لغالبية «المادة المُظلمة» في الكون.

وكذلك ذكر الباحث النيويوركي غيرينغر- سميث، أنّه وضع إطاراً لعمل إحصاءٍ مهمّته تحليل البيانات. ثمّ طبق مُعطيات الإطار على الملاحظات المتعلقة بالمجرّات القزمة. وقال: «يبدو أننا نعيش وقتاً فائق الإثارة في مجال البحوث حول «المادة المُظلمة». بات في حوزتنا كثير من أدوات الاختبار، بل إنها تواكب الأعمال النظرية عن حقيقة «المادة المُظلمة». وبقول آخر، شرعنا في اختبار تلك النظريات».

والطريف أنّ ما توصّل إليه علماء «ساوثهامبتون» في 2015، أدّى إلى الإطاحة بالمعطيات التي توصل إليها غيرينغر- سميث نفسه، ولم يمض عليها سوى أقل من سنتين!
________
*الحياة

شاهد أيضاً

كيف تعلمت الحواسيب الكتابة: تطور الذكاء الاصطناعي وتأثيره في الأدب

كيف تعلمت الحواسيب الكتابة: تطور الذكاء الاصطناعي وتأثيره في الأدب مولود بن زادي في كتابه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *