هناك مطالع قصائد نكاد ننسبها إلى المتنبي، وتمنعنا عن ذلك معرفة أصحاب القصائد وظروفها. هذا ليس حديثًا عن سرقة شعريات موسومة بالحكمة، فقصائد العرب القدماء تزخر بتلك الأوسمة، لكن عن تغلغل نموذج المتنبي كعلامة عابرة جامعة للمجد الشعري من أعماقه وأطرافه، بحمولات شتى: جمالية وموضوعية. أبو البقاء الرندي يحضر، هنا، على ذكر كلمة سرقة لكن بالمعنى البريء من أسلوب الصناعات الشعرية؛ رغم القول بتأثر الرندي في مطلع قصيدته الشهيرة في رثاء الأندلس بـ”نونية البستي”، لصاحبها أبو الفتح البستي القائل:
زيادةُ المرء في دُنيـاهُ نقصـانُ وربْحُهُ غَير محض الخَير خُسرانُ
وكُـل وِجـدانِ حَظٍّ لا ثَبـاتَ لَـهُ فـإنَّ مَعنـاهُ في التَّحقيق فُقْـدانُ
وإنما يحضر أبو البقاء الرندي، في فضاء الخسران، بالمعنى المشتبك مع تركة ضياع عتيق لذات جمعية؛ تجد سلوى فنية وجمالية في نموذجها الأعلى وهو المتنبي، أو في نموذج شعر الحكمة؛ حيث يقول مطلع قصيدة الرندي في رثاء الأندلس:
لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ
وناقصًا سيكون الحديث عن شعر الحكمة كسلوى للأفئدة، دون ذكر نموذج أعلى مواز وهو أبو العلاء المعري، صاحب هذه الأبيات من اللزوميات:
سَمِّ الهلالَ، إذا عايَنتَهُ، قمرًا إنّ الأهِلّةَ، عن وشكٍ، لأقمارُ
ولا تقولَن: حُجَينٌ، إنه لقَبٌ وإنّما يَلفِظُ، التلقيبَ، أغمارُ
هل صحّ قولٌ من الحاكي، فنقبَله، أم كلّ ذاك أباطيلٌ وأسمارُ؟
ويمكن اعتبار بيت معاينة الهلال، في الشاهد السابق، معارضة فحواها محايثة ملغومة، دون إسقاطات تاريخية، أو بإسقاطات منا، لبيت الرندي الذي ما ارتقى رتبة الحكمة إلا أسى.. وبغض النظر عن المعلومات التي توثق ميلاد ووفاة وأحزان وأفكار المعري، قبل مجيء الأندلس وزوالها والرندي ووفاته بزمن بعيد. وهذا بيت من سقط الزند:
كَلِفنا بالعراق ونحنُ شَرْخٌ ولم نُلْمِمْ بهِ إلا كُهولا
ما يهمنا، في هذا المقام، هو الفضاء كساحة معنى. وقال أبو العلاء في قصيدة يرثي فيها أباه:
سأبكي، إذا غنى ابنُ ورقاء بهجةً وإن كان ما يعنيه ضدّ ما أعني
رمزية الهلال
أمام بيت معاينة الهلال تودّ العينُ لو تخرج عن سياق هذه المقالة وتتوّرط في تتبع رمزية الهلال عبر التاريخ الوثني؛ نظرًا لوفرة الرموز الفلكية في عالم شاعر المعرة الذي “انتعل الهلالا”، وأما المتنبي فقد انتعل عين الشمس: “أتتركني وعين الشمس نعلي؟”؛ وقد كان الشعراء القدامى علماء بمنازل القمر والنجوم.
الشواهد كثيرة وجليّة في أشعار المعري، على سبيل المثال:
فكأن الهلال يهوى الثريا فهما، للوداع، معتنقان
مشيرًا إلى اجتماع الهلال والثريا في برج الحمل. ثم ها هو يقول في موضع آخر متقدم في “سقط الزند”:
والثريا رهينة بافتراق الـ شمْل حتى تعد في الأفراد
لكن يغرينا البيت التالي، من “سقط الزند”، المُؤسّس، دون إفصاح مباشر عن السماويات، على جدلية الاستواء والاعوجاع الناهضة، أصلًا، على الاستقرار وعدمه؛ والتي تتكرّر وتتنوّع في آثار الضرير الذي سيبدّل الثورَ السماويّ بالظبيّ الصحراويّ عند حديثه عن قلق الإقامة فوق ظاهراتية استواء المُستقرّ:
في بلدةٍ مثل ظهر الظبي بتُّ بها كأنّني فوق رَوْق الظبي من حَذَر
نذكر أن لهذا البيت صيغة متقدّمة وناجزة في معلّقة أبي بصير، صنّاجة العرب، الأعشى:
وبلدةٍ مثل ظهر التُّرس مُوحشةٍ للجنّ بِالليلِ في حافَاتِها زَجَـلُ
لا يتنمّى لها بـالقـيْــظِ يـرْكبُـها إلا الذين لـهمْ فيما أَتـَـوْا مَهَلُ
البلدة عند الأعشى، كما هي عند المعرّي، هي الأرض العراء المستوية، لهذا فهي معيبة “لا يسموا لركوبها إلا الذين لهم فيما أتوا مهل وعدة.. يصف شدّتها. والمهل: التقدّم في الأمر والهداية قبل ركوبها”. هذا الاستواء أو الاعتدال نقيضه تركيز المعري لاحقًا على الالتواء والتعرج ومحمولات الهلال والخيل أعوج.
وعند العودة إلى فضاء مقرون بعمر الهلال كلمحة متمنّعة أو بروْقٍ أي قرْن هو موطن قلق؛ ستبينُ نظرة المعري، لوهلة أولى، عن تفاؤل وفرصة ممنوحة، وعن طمأنينة ظاهرة في استعجال تسمية الضرير الكمالَ قبل بلوغه:
سمّ الهلال إذا عاينته قمرًا إن الأهلة عن وشْك لأقمار
هذه العجلة ليست من طبع شاعر، همّه التروّي والزهد والعدم، يقول: “تقنّع من الحياة بلمْح”. فليس من طبعه تعقّب الكمال؛ أللهم إلا إذا كان ذلك الاستدراج أمارة على نظرة قصاص أو نظرة شكّ. فإذا كان الأعشى، الذي يزخر معجمه بالغزل ومديح الرؤساء والملوك، بشعر قويّ نوافذ، من أجل المال؛ إذا كان الأعشى قد استعار أداة حرب حامية وهي التّرس وشبه بها البلدة المكشوفة العارية، فإنّ المعرّي، في موضع آخر، قد شبّه القمرَ مكتملاً بالدرع. والأخيرة هي عند الأعشى “بيضاء كالنَّهْي”، أي تترقرق كأنها الغدير، متموجٌ بريقها. صناجة العرب يمدح، هنا، قيس بن معد يكرب الكندي. وها هو في مديح آخر له يقول، مبرزًا تحمّل مشقّة الوصول إلى ممدوحه، وهو على ناقته في الصحراء:
بهماء موحشة رفعتُ لعِرْضِها طرفي لأقْدِرَ بينها أميالَها
والمعرّي، الناقم الهجّاء لزمانه، لا مديح رأسماليّ الهوى في طبعه. لم يشرب الماء من إناء الذهب أو العاج. وما من قمر عاطفيّ المذاق عنده، ما من ثمار طريّة أو عسل لأجل المرأة. لقد ضرب أشدّ الحرمان حلقةً على نفسه. في خطبة “سقط الزند”، كتب يقول: “ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طالبًا للثواب، وإنما كان ذلك على معنى الرياضة، وامتحان السوس – أي الطبيعة”. يخبرنا أنه كان يتدرّب وحسب “في ربّان الحداثة، وجُنّ النشاط”. وفي الحاشية نقرأ “سَمّى أبو العلاء كتابه “سقط الزند” لأنّ السقط ما يسقط من النار عند القدح، وذلك على تشبيه شعره بالنار، وطبعه بالزند. وقد جعل شعره سقطًا لأنه أوّل ما سمح به طبعه في ريق شبابه، كما أنّ السقط أوّل ما يخرج من الزند عند القدح به”.
القدْح وما نتج عنه هو، بعبارة أخرى، احتفاء المعرّي بذاته ووعيه بفنّ الشعر، ليس على نحو نرجسي، كيف ذلك وهو مصاب بالنقصان؟
غزارةُ الشرر في الفضاء، من كثرة القدح، ربما انطوت على استعارة السماويّ أو محاكاة لطبع الفلك. طبعه الناريّ هذا أضاء مجاله الحيوي على الأرض في المحبس؛ فكان علامة عظيمة ضاقت عليها حجرتُه؛ فخرج الضرير مَجازًا من المكان إلى الزمن، رغم لزومه البيت ورغبته عن الترحال. وقال في قصيدة بديعة “مدح وتهنئة” عنوانها “اسم الأمير فال”:
أما الأعشى، الذي نقارنه بالمعرّي، جدلاً، لقربه المنقوص من الأخير بما يخصّ غياب حاسة البصر؛ فقد كان كثير التنقّل والسعي بنفسه كعلامة مدوّية جهارًا نهارًا بالغزل وبالمديح شأنه شأن شعراء عظام أوائل. لذا سنجده ينسب القدحَ، عن طبع شخصيّ ممنوح للآخرين، للرؤساء والملوك. هذا البيت هو من قصيدة يمدح فيها قيس بن معد يكرب الكندي:
ولو رُمْتَ في ليلةٍ قادحًا حصاةً بنبْع لأَوْرَيْتَ نارَا
وقد مسّنا، في هذا البيت، شعرٌ جميل. لكننا ألّفْناهُ بقراءة عفوية، قبل النظر في حاشية التفسير. ففي أوّل لقاءٍ لنا بهذا البيت فهمنا فهمًا شائعًا أنّ “نبْع” هو نبع ماء. ربما غرّر بنا أو أغرانا الحديث عن طبع النار عند المعري؛ فقرأنا، لإذكاء التقابل، بيت الأعشى على النحو التالي: قدْحُ حصاةٍ بنبْع ماء يُوقد نارًا.
في طوية هذا الإغراء الأولي، كانت تجلّت فينا رغبة التمتّع بصناعة التلّقي؛ أي شحذ حدّي الشعريّة المُعيّنة؛ كلّ حدّ على حدة: بطبع النار وبطبع الماء. لكن تدخّل الحاشية أفسد القراءة الأولى، فقد قرأنا فيها أن كلمة (نبع) هي اسم شجر صلب. ومهما يكن من صلابة، فإنّ حدّ النار سيأكل بنت الماء الصلبة. هذه الصورة التي عناها الأعشى جميلة، ولكنها تقوّي المديحَ كغرض؛ أكثر مما تثري ذوق قارئ الشعر ومُؤوّله كما سبق. لكن، وعلى أية حال، أن يحيط قارئ بتاريخ وبيئة وظروف الشعر القديم هو شرط لفهم أمور كثيرة.
لزوميات مثقلة بالوجوديّ
عند المعري تتخفّف اللزوميات من الحسّ القوميّ، فهي مثقلة بالوجودي. ربما نما غرورنا على وجود ذلك الحسّ الموصوف بالقومي في قصيدة “الأعوجيات لنا عدة”؛ حيث الرثاء والمديح والفخر أغراض “سقط الزند”. أيّ في حداثة وشباب وجُن نشاط صاحب الأثر. ولكنها أغراض جاءت بطرق قول ضاربة في جذر الشعر، خطفت ألباب الشعراء، فأقام الضريرُ في كلّ شاعرٍ وكلّ قارئ قيامة نبراس.
وعلى ذكر الفخر، في “سقط الزند” هذا البيت من قصيدة “عاند من تطيق عناده”:
وما نَهْنَهْتُ عن طلَبٍ، ولكن هي الأيامُ لا تُعطى قِيادا
هل يحقّ لنا النظر إلى هذا البيت باعتباره مُحرضًا لأحمد شوقي؛ ناظم بائيته الشهيرة؟ ومنها البيت هذا:
وما نيلُ المطالب بالتمني ولكن تُؤخذ الدنيا غِلابا
لكن المحرّض في هذا البيت، أعلاه، من وجهة نظرنا، هو ليس بحر الوافر. المُحرّض هو كلمة (طلب) في بيت المعرّي؛ الكلمة التي سيجعلها شوقي في بيته (مطالب). انطلاقًا من هذه الكلمة كمادّة معنى، ستكون البطولة، هنا، لحرف (الباء) الذي سيختاره شوقي رويّا لقصيدته.
ففي مقصد تبكير المعرّي واستعجاله نمو الهلال فخ تجميل للنقص، واستثمار للأخير على نحو وجودي جمالي، لا كعاهة منكرة، أو خوف منها.
وباتت تراعي البدرَ، وهو كأنّه من الخوف لاقى عند الكمال، سِرارًا (السِّرار هو المحاق).
خشية من ذلك، ومن “عدو يعيبُ البدر عند تمامه”، يقول من عرف غاية بدرها لما رأى هلاله، في موضع آخر:
ولا زلتَ بدرًا كاملًا في ضيائه على أنه عند التّمام هلالُ
النقص أو العوج ظاهرة فكرية وجودية، قارّة، مُتذرعٌ بها في تجربة المعري. سنفشل في تحييدها عن الطابعين: الشخصي والنفسي. البرهان على ذلك أصالة النقص والعوج كاسم، لا كصفة، كان منحه وأصّله مصيرٌ غابرٌ ألمّ بطفل الخيل. وهذه ذريعة من ذرائع كثيرة ظاهرها احتفاء المعري بالنقص والعوج، وفي الوقت ذاته إضماره لمعانٍ تخدم نكوصه وسقمه وشكّه ونظرته العدمية؛ من طريق اهتمامه بإلمْاح واعْوجاج الهلال ككائن سماويّ. لكنه في “سقط الزند” زيّن غناءَه بمدْح الخيل الأعوجية العربية، فقال: “الأعوجيات لنا عدة”. لكنه سيقول، أيضًا، إنه نسي أباه كما نسيت إبلُه أجود ما فيها فحل يسمى: الجديل، تنسب إليه الإبل الجدلية؛ وكما نسيت الخيلُ أجود ما فيها وهو أعوج:
نسيتُ أبي، كما نَسِيَتْ ركابي وتلكَ الخيلُ أعوجَ والجديلا
كأنّ جيادَنا في الـدار، أسـرى، سكوتًا لا وجيفَ ولا صهيلا
وهو القائل في مواضع شتّى:
وما يكفّ، أذاة عنك، حلفُ ضنى، وقد يشجّك عودٌ مسّه عوج
وإن نال منك السقم حظًّا، فطالما رأيتُ الهلالَ في الأفق وهو سقيم
وفي طباعك زيغٌ والهلالُ، على سموِّه، حلفُ تقويس وتعويج
وعن الدنيا:
وقد خُلقت عوجاء، مثل هلالها يكون وإيّاها، القيامة، معوجا
في ضوء شواهد كثيرة عن العوج اللقب أو النعت يصبح هو الاسم تأصيلًا عند المعري. والذي في الاسم هو المعنى. ويضمر انشغال المعري بالهلال سخرية في إهاب محاججة ملتبسة تكشف عن تقلب الشاعر بين الشك واليقين، وميله الخلاق على جنب الشك؛ سخرية كاملة مغمورة في مسبح العدم، مطعمة بأمل، حتمًا، إلى زوال؛ في ضوء منازل القمر وغبنه للمستأنسين به. فهو القائل في بيت آخر:
لا يعجبنك، في جنح الدجى قمرٌ فإنّ عقبى محاق غاية القمر
أيضًا:
وإن بلغ المقدارُ لم ينجُ سابحٌ ولو أنه في كبّة الخيل أعوج
وأما أعوج، شاغل المعرّي شغل الهلال له، فهو فحل قديم، وأشهر خيل العرب قاطبة. سُمي أعوج لعوج أصاب ظهره وهو صغير. كبر معه وتميّز به كعيبٍ فاتن، نافع وجميل، عن سائر الخيل كافة. من كتاب “نسب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها” لابن الكلبي، ننقل عنه هذه الرواية:
“زعم محرز بن جعفر عن أبيه عن جده، قال: ليس أعوج بني هلال من بنات زاد الراكب، هو أكبر من ذلك، هو من بنات حوشية وبار، وإنما أعوج الذي كان ابن الديناري فرس لبهراء، سمي باسم أعوج. وكان لبني سليم بن منصور، ثم صار إلى بهراء. فأما أعوج الأكبر فإن أمه سبل بن حوش وبار، وأبوه منها. قال: وحدثني أبي عن أبيه أن أم أعوج نتجته وهي متبرزة من البيوت. فنظر شيخ لهم إلى فرس إلى جنب سبل قد حاذت جحفلته بحجبتها فقال: أدركوا الفرس لا يبتسر فرسكم. فخرجوا يسعون، فإذا هي قد نتجت. ووافق ذلك اليوم نجعة فساروا من بعض يومهم أو ليلتهم، وأصبح أعوج مع أمه لم تفتْه. فلمّا كان في الليلة الثالثة، حملوه بين جوالقين وشدّوه بحبل فارتكض فأصبح في صلبه بعض العوج فسُمّي لذلك أعوج، فمنه أنجبت خيول العرب، وعامة جيادها تنسب إليه”.
___
*المصدر: ضفة ثالثة