كان محمود درويش صادفت الذكرى التاسعة لرحيله، الأربعاء الماضي، قارئ رواية من طراز رفيع عربياً وعالمياً، وحياته كانت رواية متنقلة من عاصمة إلى عاصمة.. من حيفا إلى القاهرة إلى بيروت إلى تونس، إلى العاصمة الأردنية عمان، وأخيراً إلى رام الله، وهو قال ذات مرة، إنه كان يأمل أن يكتب رواية أو يكتب مدنه والبيوت التي عاش فيها في هذه المدن.
محمود درويش ناثراً هو عادة ما لا يتعرض له من يكتبون حول صاحب «محاولة رقم 7»، وهي بالمناسبة من أجمل مجموعاته الشعرية، بل يمكن اعتبارها انعطافة بالغة الأهمية من شعره، وكان قد كتب هذه المجموعة وفق بعض المصادر في باريس لينحو بعد ذلك إلى شعر خالص متحرر من الظلال الأولى الكثيفة التي عرت مجموعاته المبكرة.
محمود درويش سردي ملحمي في شعره.. أي أن النثر موجود في قصيدته، ولكنه بالطبع النثر الموزون، ومن المعروف أنه لم يتخل في أي وقت من الأوقات عن الوزن، ولم يكتب قصيدة النثر، غير أن نثره الفني مشبع بالشعر وأكثر من ذلك تحمل نثريته فضاءات حوارية مثل تلك الحواريات الموجودة في فن الرواية.
يحملنا هذا الكلام إلى العودة إلى كتاب قديم لمحمود درويش صدرت طبعته الأولى في العام 1973 بعنوان: «يوميات الحزن العادي» وتكررت طبعات الكتاب الذي يعتبر بحق روح محمود درويش النثرية أو السردية، مع ميل حميم إلى الحوار، والكتاب مجموعة مقالات كان نشرها في إحدى المجلات الأسبوعية السياسية، وكانت تلك المجلات العربية المهاجرة إلى باريس ولندن في سبعينات وثمانينات القرن العشرين تهتم آنذاك بالصفحات الثقافية.
محمود درويش الحواري الناثر تتجلى في هذا النموذج من مقالة له بعنوان «القمر لم يسقط في البئر» في كتاب «يوميات الحزن العادي» يقول:
ماذا تفعل يا أبي؟
أبحث عن قلبي الذي وقع في تلك الليلة.
وهل تجده هنا؟
أين أجده إذن! أنحني على الأرض وألتقطه حبات حبات كما تجمع الفلاحات في تشرين حبات الزيتون.
ولكنك تلتقط الحصى!
شيء كهذا يمرن الذاكرة والبصيرة..
يمضي محمود درويش في هذه الحوارية العذبة بين أب وابنه على شكل سؤال وجواب بينهما حتى آخر المقالة الطويلة التي تبدو وكأنها قصة قصيرة أو بذرة رواية.. وسوف يكتب درويش بعد سنوات طويلة على هذه المقالة قصيدة عن أب وابنه.. يسأل الابن أباه قائلاً:
لماذا تركت الحصان وحيداً؟
(ويجيبه الأب…)
لكي يحرس البيت يا ولدي.. (وإلى آخر القصيدة التي كأنما ولدت من ضلع المقالة القديمة التي كتبها درويش في سبعينات القرن العشرين.. في حين كتب مجموعة «لماذا تركت الحصان وحيداً» في التسعينات.
محمود درويش الناثر لا يقل شفافية وبراعة وتمكناً أدبياً عن محمود درويش الشاعر، ولكن هذه النثرية الدرويشية الجاذبة لم تستدرجه إلى كتابة الرواية وظل محمود درويش الشاعر وقد احترم الشاعر في داخله ورباه وأسقاه ماء عذباً بيدين من برتقال وزعتر.
شاعر كبير ممتلئ بعظمة الشعر.. عالمي وإنساني ويشع غيابه بالحضور ثم الحضور.