تموج العنوان وانسيابية المعنى في عنوان ديوان” أغسل وجه الماء ” للشاعرحسن اعبيدو

خاص- ثقافات

* فتح الله اسعاف

غريب هو ذلك الشعور الذي يسطو بصورة فجائية على ثنايا ذهنك حين يأسرك ديوان شعر من عنوانه ويدفعك إلى التيه في غياهب الأسئلة باحثا عن طوق إجابة يشبع فضولك. هو التساؤل دائما ما يخلق الفرق بين العناوين والنصوص، فكلما كانت هذه الأخيرة تطرح في ذهن القارئ دهشة السؤال ولهفة تحري إجابة تشفي الغليل، كلما ارتقت في مدارج السحر والوهج الأدبي. وهذه الغاية لا يدركها إلا كاتب طوى اللغة في جبه، وصيرها بين كفيه طينة لينة يشكل بها ما شاء له التشكيل. وإن كان “ملارميه” قد وصف نفسه بقوله « أنا مركب» لإدراكه تركيبية ذاته بتركيبية الوجود والأسئلة التي تسيج محيط العالم ككل، فإن جزءا غير يسير من هذه التركيبية تلمس صورته في ديوان ” أغسل وجه الماء ” للشاعر حسن اعبيدو. ذلك أن هذا الشاعر صنع من نسيج اللغة العام لغة خاصة به تشكك بانتمائيتها إلى نسق بعينه، فكلما اعتقدت أنك اقتربت من الإمساك بتلابيب دلالتها كلما أفلتت منك كما يفلت الماء بين اليدين.

” أغسل وجه الماء “عنوان لا يسلم نفسه للقارئ بيسر وبساطة، بل يدخله في لجج التساؤل، لما يحمله من تموجات دلالية تؤسس لخصوبة معناه. ونحن إذ نتساءل مع القارئ هل للماء وجه حتى يغسل؟ وكيف يمكن أن نغسل وجهه إن سلمنا جدلا بوجوده؟ وبماذا يمكن أن يغسل؟ ومن يملك سلطة هذا الأمر؟  نجد أنفسنا نصارع تموج العنوان للاقتراب مما يحمله من تموج في المعنى.

 فعلى مستوى التركيب نحن أمام جملة فعلية مكونة من فعل مضارع (أغسل) والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا والمفعول به (وجه) وهو مضاف والماء مضاف إليه، وهي جملة على قدر كبير من المقبولية والبساطة على مستوى التركيب، لكنها مراوغة وكتومة على مستوى المعنى. أما إذا نظرنا في بنيتها البلاغية، فإن ملامحها الاستعارية واضحة فقد أنسن الشاعر الماء إذ جعل له وجها، وحمل نفسه مسؤولية نظافته، فالمستعار منه كائن حي له ملامح خاصة تميزه وتحدد هويته، ويمكن أن نعتبره (الإنسان بشكل عام و الشاعر حسن اعبيدو بصورة خاصة) وهذا الاعتبار لنا فيه مأرب سنوضحه في حينه، والمستعار له هو الماء.  فهذه البنية  تتنافى مع المنطق السليم الذي يفترضه الفعل أغسل في القائم به من قدرة على أداء الفعل، وأدوات له، ونية مسبقة محددة بأهداف ومرام بعينها.

    إن هذه البنية الاستعارية تنوسم بحضور جدلية الماء/  الإنسان التي تؤسس لطبيعة الوجود وتشكيل الحياة بميسمها المتوهج الجميل حينا، والمدلهم المتوحش حينا آخر؛ وكلاهما نسق حاول الشاعر حسن اعبيدو أن يخلقه بأناه، مسندا ذلك لفعل يمارس عملية التطهير لما يفترض فيه أن يمارس عليه هذا الفعل ويمارسه على ذاته (الإنسان /الشاعر)، إزاء ما يفعل به في الأصل. وهنا يتضح أن انصهار ذات الشاعر في ذات الماء في بؤرة واحدة هو ما كفل تقبل ذلك. فالأصل هنا أن وجهي ( أنا حسن اعبيدو) هو وجه الماء، كلانا يدثره شقين متضادين أحدهما متسخ عكر دنس، والآخر نقي طاهر صاف، فإن حملنا سمات الجانب الأول صارت هويتنا مشوبة بالسوداوية والقتامة، قتامة الروح التي لا يمكن أن تصفو إلا بعد أن تتطهر من أدرانها، وهذا أمر ليس باليسير إذا لم تمنح هذه الذات نفسها قابلية تلقيها لهذا الأمر، وتبحث بسعي حثيث عن أسباب تمظهر ذلك على مستوى الواقع. أما إذا أخذنا ملامح الجانب الثاني،  فإن ذاتينا ستشعان إشراقا وجلالا ومهابة، وينجح تفجرنا التماعا ليغطي طفولة الأسى والفجيعة فينا. هذا التعالق بين ذات الشاعر والماء هو تعالق نابع من تشكل الذات الإنسانية جسدا قبل ضخ الروح فيها، يستحيل انسلاخهما عن بعضهما البعض، فقد كان الماء منذ البدء عنصرا رئيسا في خروج الإنسان من العدم إلى الوجود وبذلك صارت حياته على الدوام مرهونة بوجود أحد مسببات تشكلها الجوهرية (الماء). إلا أن هذا العنصر لم يكن دائما مساهما في بنية الخلق والحياة، إذ أنه كثيرا ما كان « الماء دعوة إلى الموت »[1]، بل « مادة الموت الجميل »[2] على حد تعبير “باشلار”، وكأن هناك موت آخر قبيح يمارس طقسه بحضور مادة أخرى مختلفة عن الماء. هذا التصور للماء تصور رمزي ممض وشديد الخصوبة، إذ يدفعنا إلى التساؤل لماذا يغسل حسن اعبيدو وجه الماء وجهه إذا سلمنا بانصهار ذاته في الماء ؟ هل يمارس طقس الهروب من نعش الحياة العقيمة والمأساوية أم يحاول نفض غبار الفجيعة عنها؟

   مهما كانت طبيعة الجواب عن ذينك السؤالين يبقى اندغامهما (الماء /الشاعر) نهرا يتفجر دلالات رمزية ووجدانية وروحية ونفسية . رمزية بما يحمله الماء من معنى يحيل على الخصب والنماء وعلى سيرورة الحياة واستمرارها وتجددها الدائم في أحيان كثيرة، واحتضان الموت حين يأتي كسيل هادر لا يوقفه شيء أحيانا أخرى. ووجدانية روحية حين نلامس وجه الصوفي في الشاعر متطهرا به فلا يتواجد في جبته إلا الله على حد تعبير الحلاج، ونفسية لما يمنحه فعل التطهر من طمأنينة طافحة بالسلام والهدوء للذات. فإن كانت هذه الرؤى الأولى حول دلالة الماء، هنا تنبض ببعض مما تتسم به ذات الشاعر على مستوى الواقع، فإننا نجده بعد أن تجاوز « البهو الذي ندلف منه إلى النص»[3] في القصيدة الأخيرة من ديوانه، يتخذ من المطر مرادفا للماء :

    ها يدي

    تغسل وجه المطر

هنا يصير التحديد أكثر دقة وعمقا بممارسة يد الشاعر شعيرة التطهير آنيا، دون انتظار لاحتضان الأرض للمطر، بل ربما خوفا من طبيعة هذا الاحتضان، حتى لا يزيد وجه المطر اتساخا نظرا لقدسيته عند صاحبه. لأن طهارته من طهارة ذاته يستحيل فصلهما فهما معا يسعيان لخلق مدى فسيح، ثري بالخصوبة، تتناسل فيه ذرى الحياة مغمورة برعشة التجلي ومنقوعة فيها إلى القرار، وهو أمر يقرره الشاعر حين يقول :

   ها أحمل قلبي فانوسا

   وأنير للشمس السبيل

   ها خضر يانع

   يجري بين سبابة وإبهام

   يسقي هذه الأرض البيضاء

   تنبت أشجارا من حاء وباء

   أنزل من سماوات اللغة

مائدة من مجاز

   تكون من أول السطر

إلى آخر الدهر

 هنا يتجلى انغماس الشاعر حسن اعبيدو في أعماق الحياة والكون لزحزحة تفاصيل الشقاء والشجن، وخلخلة متون الفجيعة والعذاب، مطوعا حروف اللغة لخلق رؤى تثير في الذات جذوة التسامي المطلق لتبني بسحرها الطري طريقا معبدا بالدفلة واللازورد متموجا بالغبطة والسرور، تموج عنوان ديوانه وتموج معناه بانسيابية ساحرة.

fahallahisaf@gmail.com

[1]  غاستون باشلار الماء والأحلام ، دراسة عن الخيال والمادة ترجمة علي نجيب إبراهيم ، تقديم أدونيس المنظمة العربية للترجمة 2007، ص: 89.

[2]  نفسه ص :253

[3]  هذا القول للكاتب الأرجنتيني “خورخي لويس بورخيس”  ذكره شعيب حليفي : النص الموازي في الرواية  إستراتيجية العنوان ، مجلة الكرمل ، العدد 36،1992، ص 82.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *