عن الإعلامي وابن الشارع وفي الموقف والارتهان

خاص- ثقافات

*كفاح جرار

قد أفهم وأستوعب أن يقاطع المواطن العادي السياسة وما تحمله من أرق ووجع رأس، وهو الذي يسمونه ابن الشارع، ولست أعرف بالضبط لم هو ابن شارع، وليس ابن البيت أو المكتب والحانوت مثلا، له أن ينقم ويعطي ظهره للسياسة والسياسيين، ولجميع الوعود الزائفة بعدما شبع وأتخم وتشبع زيفا وكذبا، فصارت عنده السياسة مرادفا للنفاق والدجل، وله أن يغضب ويثور ويحتج، ويأتي بألف ذريعة تبرر موقفه، فهو في النهاية الإنسان العامي الذي لا يعرف ولا يقدر أهمية وقيمة الموقف، والحق ليس مطلوبا منه أكثر من ذلك، فتلك حدود معرفته وإمكاناته، تماما كما لا يعقل أن يطلب من سائق الحافلة أن يقلع بطائرة حربية، لأنه يحمل بطاقة سائق.

وأما الذي صعب علي فهمه واستيعابه، ولم يهضمه عقلي قبل معدتي أن يقوم العامي ابن الشارع بمقاطعة الاقتصاد، معلومات وأخبار ومعارف وعمل، وكأن هذا المضمار لا يعنيه، بل إن الناس في غالبيتهم لا يقرأون في الصحيفة ركنها الاقتصادي، مع أن أهم ما في الصحيفة هو ما يتعلق بحياة الناس، أقصد قوتهم ورزقهم وما يتعلق بطرائق معيشتهم، وهذه حكمة تعلمتها من أستاذي في الجامعة، الذي شدد على أهمية هذه الصفحات وهي كذلك حقا، فقال ناصحا مرشدا ومبينا وهو يوازن نظارته فوق أرنبة أنفه، تلك صفحات تتعلق بحياتك فلا تهملها جريا وراء أخبار الساسة والأدب، فلن تطعم أطفالك آخر النهار القصائد، ولن يتصدق عليك السياسيون برغيف خبز.

ومع ذلك فليس العوام من خريجي تلك الجامعة، ولم يتسن لهم التشرف بأستاذ يعلمهم ويرشدهم ما عرفته وأدركته، وبالتالي لهم أن يقاطعوا معارف الاقتصاد والتاريخ، ويلهثوا ككلاب الصيد الفتية وراء أخبار الرياضة فتلك متعتهم الضائعة، ونشوتهم المرتقبة، وفردوسهم المفقود، كل يبحث في الصحيفة عن حاجته.

ولكن أن تأتي دعوات المقاطعة من الكتاب والصحفيين، فهذا ما لا طاقة أو قدرة عندي على فهمه واستيعابه، ومن يحتج قائلا إن هذا من باب حرية الرأي، لنا أن نشك في هذا الباب الذي يصادر الرأي باسم حرية الرأي، ويضلل الجمهور تحت يافطة لن يتغير أي شيء، فقد تخلى هؤلاء عن الصحافة ليعملوا براجات وبصارات يضربن في الرمل والخرز والصدف، ثم إن تفوه أحدهم بضرورة التغيير تجد هؤلاء أنفسهم يشهرون أقلامهم، ويثيرونها داحس وغبراء ومغبرة ووجوههم عليها غبرة، يسبون فيها الجميع إلا أنفسهم، باعتبارهم ملائكة هبطت إلى الأرض وضلت طريق العودة السماوية.

إن صمتنا قالوا متخاذلين متواطئين، وفي أحسن الأحوال انهزاميين، وإن طالبنا وتحدثنا وثرنا قالوا، دمويين متآمرين استعماريين “قابضين” مخربين.. وكما يقول المثل الشامي، احترنا يا بطيخة منين نبوسك.

ومع ذلك، هل ما زالت الصحيفة حريصة على صناعة رأي عام حر ونزيه ونبيل، وهل حافظت على كونها السلطة الرابعة، بل هل للصحفي من مواقف غير ما يطلبون منه تنفيذه؟.

الإعلامي هو موظف يتقاضى أجرا، لكنه في المقابل ليس كأي موظف، بمعنى لا يمكنه أن يؤدي عملا آليا روتينيا، كحال المدرسين اليوم، حيث تجد الواحد منهم على استعداد لتقديم الدرس وهو نصف نائم وبعينين مغمضتين، بعدما فقد العلم نكهته ولذته، وليس على الصحفي أن يحمل المطرقة والمنجل دليل ماركسيته أو محراثا اشتراكيا، وليس عليه أن يقود طائرة ويوجه قذائف مدفعية إن كان ملتزما عسكريا، فلكل مهنته وحرفته واختصاصه، وما يتوجب عليه أن يحمل موقفا يدافع عنه ويروج له، وإن عارض في ذلك خط صحيفته الافتتاحي.. ولكن.

هي الكتابة حسب الطلب حسب الوضع القائم، وبما يوافق كل الآراء إلا صوت الحقيقة، أو على الأقل ما يتناسب مع آخر الشهر، ولست هنا من المنافحين والمدافعين عن الأحزاب، كما أني لست بالناطق الإعلامي عن أي كان، ولكن هي كرامة الكلمة وصدقية الموقف، وطبيعة الالتزام الذي فقدناه مذ أصبحنا شهود زور على مرحلة نعرف أنها مصيرية، ولا تحتمل الهزل والتراخي أبدا.

وهؤلاء حالهم كما غنت الراحلة عليا التونسية، “جاري يا حمودة دبر علي يما”، وإن كان الكاتب والصحفي هو المستنجد بحمودة، فأي لوم بعدها على ابن القهوة؟.

لمن لا يعرف، نخبره بأن الصحفي ليس من واجبه ولا من حقه وهو غير مخول في القيام بمثل ذلك، هذا إن سلمنا بأن الصحافة لديها من الحرص والجدية والمهنية والاهتمام لصناعة رأي ومواقف، أما إذا كانت رهينة ومرتهنة لأشياء أخرى فلندعها مع أشيائها، وهي هنا كالمستنجدة بحمودة لكي “يدبر عليها”.

لزوم الحال يذكرني بصحفية تعتبر نفسها مشهورة، تقول وهي تلوي لسانها “أنا نادرا ما أقرأ” يعني باختصار صحفية جاهلة وبلغة ابن الشارع نفسه “حمارة”.

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *