المجتمع الموبوء وآفة العقل الفاسد.. ؟!

خاص- ثقافات

*عمر ح الدريسي

أو بعبارة أخرى، آفة المصائب الاجتماعية  تكمن في أفكار عقل الذوات المريضة غير المؤمنة بالمساواة وبالحرية والكرامة والقيم الإنسانية..!! سيغموند فرويد يقول، “الأفكار أوهام تخدعنا بها الرغبة الإنسانية لتصل إلى أهدافها، واجب العلم هو تعريتها من صبغة الحق التي يلصقها بها العقل المخدوع”..؟!

نعم هذا العقل المخدوع، حسب فرويد، هو سلطان هذه الذوات الموبوءة، التي تتآلف بوبائها، لتنشئ وتُشكل مجتمعا مريضا كامل الأركان، نعم هو العقل وليس غيره، وهذا معناه أن الحل بات صعبا، حيث العلاج يتطلب غسيلا جديد لخلايا وترسبات العقل المتوارثة، وهذا ليس سهلا إن لم يكن عسيرا، وحيث توجد الإرادة، لا شيء مستحيل.

الصعوبة تتجلى بجلاء فصيح، في عدم التمكن من تفكيك آليات التربية السوسيوثقافية، المعتمدة على الجاهز والنقلي والثابت الآسن قليل الخلخلة، من عقل سابق إلى عقل لاحق،  ليكون الإرث النقلي مُحنطا كما حَنّطت جثث حضارات النيل، أجساد موتى سلطات الحكم الفرعونية أنذاك، والتي بقيت إلى اليوم.. !

لكن المشكل لم يكن أبدا في التحنيط الداخلي، فهذا مُنجز علمي وحضاري مشهود وخالد لاغبار عليه،  بل بقي المشكل في التحنيط الخارجي، القائم منذ حمو رابي  والمستمر إلى اليوم، وهو عبارة عن علاقة تبادلية بين التسلط والاستبداد والفساد العقلي، والمشكلة أن هذا التحنيط  الخارجي المُعقم والمُعقد،  هو إنتاج مستمر لأفكار عقول تستلذ النمطية والنقل،  وتُرهن نفسها للخنوع والكسل والتبعية السلبية، وترنو عدم النشاط الفكري المُفضي إلى الانكفاء والتواري والجمود.

بحيث ينزع  الفرد داخل المجتمع لتنزيه الذات، للتمويه عما لحقها من الفساد العقلي، ويعمل جاهدا لتلميع صورتها، قدر ما كلفه ذلك، كان ذلك القدر بحق أو بغير حق، ويعمل بدون انقطاع وبرغبة كامنة ومُتجلية على رسم صورة زاهية مشرقة لشخصه، كأنه ليس من التسلط والاستبداد، بل من أجل أن يبتهج به الشخوص من حوله، أيّما حل وارتحل، وطمعا في أن ترمقه العيون بكثافه لتعرفه، أو لتجبرهم صنعته لصورته الزاهية على السؤال عنه، وهو يتوق وبإسرار، على خلق الحدث، بأن يحدث اهتمام وضجيج من حوله، يُشبع غروره ونرجسيته…!!

وحسبي أن هذا، هو من بين الآفات الكبرى التي لاتترك مجالا، من قبل العقل الفاسد، للاعتراف الضمنى والمضمر والعلني بـ “الاختلاف” الموجود بين نفس العقول من داخل نفس المجتمع …!؟

الاختلاف هذا، الذي هو من سمات الوجود، ومن سمات الطبيعة، ومن مكونات ثراء الحياة وتقدمها وازدهارها، حيث لامجال في الوجود، ولا في الطبيعة، لشيء اسمه الخلاف، بل الاختلاف وارد وقائم، وعليه بُني التوازن وشقت متوازيات الاستمرار، باعتماد نسبية الأضداد، لخلق ابداع أو طاقة، تعطي جديد، وليس بنفي ضد لضد أبدا.

إنن، صعوبة الاعتراف بذات الغير، بما يُراد لذات الشخص نفسه، من تلميع وصورة زاهية وعدم الإقرار بأحقية الاختلاف، بل باعتبار الاختلاف، الذي هو اساس “الخلاف”، وهذا الذي يعتبر خلافا، يكون جدارا مانعا للتفكير، وحاجبا لاستعمال العقل في صوابية الاختلاف والرجوع به، عن “الخلاف”. وهذا ما يؤدي بالنتيجية إلى إعادة انتاج الذوات الموبوءة التي كانت تشتكي في الأول من غرقها في الوباء نفسه، وبالتلي من كان مقموعا يصبح قامعا، والمُعنَف يمسي عنيفا مُتجبرا والمقهور يغدو قاهرا، والمغبون يعود مُتسلطا..!!

ذوات اجتماعية غُسلت أدمغتها عبر التدرج مرحليا بالعمر، في منظومة سوسيوثقافية متخلفة ومغلقة، ورهينة أفكار جاهزة جامدة، سدنتها لا يبتغون سؤالا من حولها وفيها ومنها، بعيدة عن الفكر والعقلنة والجدية في الصواب والمنطق المنفتح والعلم بآليات المعرفة الصحيحة.

 كارل جوستاف يونغ، في مؤلفه، “الإنسان في اكتشاف روحه”، يقول، “الوضوح لا ينتج عن ما نتخيله، ونتصوره بوضوح؛ بل الوضوح، هو اللحظة التي نعي فيها بالجانب المظلم فينا، وفي الحياة .”

 لهذا فالمنفاكتور الاجتماعي، يُعيد انتاج نفس الذوات الموبوءة، بالنرجيسية والازدراء والمراوغة على الحقيقة –النسبية- حد الفناء، فيأتي الجديد دوما في حُلة قالب المرفوض الموبوء القديم دوما، فيعود المغلوب غالبا، والسياسي انتهازيا سفسطائيا، والمظلوم ظالما، والسجين سجانا، والضحية جبارا متسلطا، والمناضل –بدون تعميم- من أجل الحقوق والحرية والمساواة والكرامة، وبعد ظفره بالسلطة، يُصبح ذات المناضل نفسه، متسلطا وريعيا وبيروقراطيا ومحسوبيا محترفا وخارجا عن مبادئه يوم كان مناضلا، أي مُنقلبا حقيقيا على نفسه، فكيف لا ينقلب على من حوله..!؟

تجربة تتكرر على رأس كل دقيقة وفي كل يوم، ما بالك في كل عقد وكل فترة حكم.. تجربة مُسرطنة، لا تتوقف عن إعادة نفس الذوات الموبوءة، فكيف ننفك من مجتمع موبوء بالعقل الفاسد، وهو نفسه من يصون مانفاكتورات إنتاج ذوات الوباء الاجتماعي…؟!

عمر ح الدريسي

للتواصل:  drissi-omar1@live.fr  E-mail :

 

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *