*هاجر خنفير
من الأسئلة التي كانت نوال السعداوي ترفض الإجابة عنها: سؤال “أنت مؤمنة أم لا..” ولم يكن رفضها هروبا أو خوفا بل لإدراكها أنه يحتمل جوابين يختزلان صورة المثقف ويخدمان نفوذ السلطة الأبوية:أولهما أنها ترفض الإجابات النمطية والمسلمات التي تحد من حرية التفكير وتحنط العقل النقدي في سبيل التحالف مع المنتصرين وذاك طريق مثقف السلطة، والثاني أن الجهر بنفي الإيمان يختزلها في تلك الصورة الإعلامية المشوهة التي سوقوها لتخويف الطبقات المحكومة البسيطة من خطورة فكرها على منظومة الأخلاق والهوية الإسلامية. وكان جوابها على تلك الأسئلة المستفزة لمخاوف الناس بالتنبيه إلى فعل الكذب والتضليل الإعلاميين وضرورة العودة إلى كتبها لبيان مواقفها من قضايا المرأة والجنس والدين والسياسة، وبناء على هذا الرد الذي كانت تردده في جل حواراتها يتبين لنا وجه المثقف الحقيقي الذي: “يقف بالضرورة على الضفة المقابلة للسلطة، يقف بسلمية وحيدًا بصدره العاري، يصرخ في وجهها ـ السلطةـ بالحقائق التي لا تعجبها ولا تعجب جمهورها الذي ينساق خلف دعاياتها المضللة” مثلما وصفه إدوارد سعيد. وبالنظر في المدونة الضخمة التي أنتجتها السعداوي يتجلى لنا سلاح هذا المثقف في وجه الأنساق المتسلطة فهي تؤمن بقوة الكلمة التي “كانت أداة للخلق في يد الآلهة ووسيلة لتغيير العالم في يد الإنسان”. ولقد بينت الكاتبة في جوابها عن سؤال يتعلق بالجوائز التي تحصلت عليها أن سعادتها الحقيقية تتمثل في لقاء شباب يعترف لها بأن كتاباتها قد غيرت حياته، أي من كانت كلماتها كفيلة بتحريره من هيمنة السلطة وأيديولوجياتها وبمنحه القدرة على استعادة دوره التاريخي. فإلى أي مدى كانت تجربة الكتابة عند نوال السعداوي قادرة على التأثير في أتون هذا الواقع الاجتماعي المنخرم؟
إن نظرة على العناوين التي تجاوزت الخمسين تكفي لفهم دور الحرق المسند لكتابات السعداوي، ذاك الحرق الذي يؤلم ولكنه يشفي ويطهر، ذلك هو أثر تعرية وجه المرأة العربية والحفر الباحث عن الأصول الأنثوية للحضارات البشرية والتفكيك لطابو الجنس عند الرجل والمرأة. ويقوى فعل الحرق عندما تطاول الكتابة دفائن النساء تلك التي يراها القارئ البسيط فضيحة وتراها الكاتبة اعترافا وبوحا بشهادات ممضة مضنية تقدمها السجينات المنبوذات والمريضات نفسيا فتكشف عن الرغبات المقموعة حينا والمكبوتة حينا آخر وتفضح ذاك العنف الهادئ حينا والصاخب حينا آخر والذي يشرع له بمسميات مختلفة كالعفة والشرف والحشمة والأدب وتجمعها الكاتبة في دائرة النفاق الاجتماعي والازدواج الأخلاقي الذي لا يمكن أن ينتج سوى كائنات مريضة ومهزوزة تفتقد السعادة وعلاقات نفعية لا سوية تقوم على الخيانة والاستغلال والبرود ومجتمعا موبوءا عديم القدرة على الإنتاج والعطاء سمته الجهل والكذب والخمول..
وتمضي السعداوي بالكتابة الحارقة حدودا لا متناهية الدقة وهي تفصل الحديث في سياسات الجسد التي أنتجتها المجتمعات الطبقية الرأسمالية لخدمة مصالحها الاقتصادية باعتبار تلك الأجساد وسيلة إنتاج تقتضي التنميط والاختزال بواسطة نظام قهري يصم ويروض ويراقب ويعاقب ليصير الجسد الأقوى هو الجسد الأكثر إنتاجا. ومن آليات التنميط ظاهرة الختان للجنسين التي كشفت الكاتبة عن مضارها بما هي خصاء نفسي للذكر وجنسي للأنثى ومفهوم العذرية الذي يؤرق الأنثى ويبعث فيها الخوف من جسدها ومن الآخر. ومنها أيضا الحجاب والنقاب فكلاهما علامة على محاولة قهر الجسد وسحقه ليكون مفوضا فقط لتقديم خدمات جنسية تفضي إلى الأمومة وما يتبعها من مسؤوليات ويتصل مفهوم العورة بهذا الهدف أيضا إذ أنه يحمل رمزية النقص الجزئي في الرجل والكلي في المرأة وإذا سعت المجتمعات الأبوية إلى منح الرجال احتمالات ورهانات الكمال بثقافة الفحولة فقد أبّدت نقص النساء وحملهن لإثم الخطيئة الأولى.
تفضح السعداوي ارتهان نجاح هذه السياسات الجسدية بمصادرة العقول أو تدجينها، وقتل الذكاء وترويج ثقافة الاستغباء. ولعل في المشهد الذي انتقدته في أحد لقاءاتها الإعلامية ما يؤكد عنف التعامل مع الرؤوس لا سيما النسائية منها ويتمثل في قائمة سياسية انتخابية تظهر فيها أجساد نساء بلا رؤوس فكان علامة بارزة على هذا التوظيف الصوري للنساء إذ كنّ أجسادا غير عاقلة بل تهتدي بعقول غيرها .. وإزاء هذا الخطاب الواعي بمأسوية الوضع الذي آل إليه الإنسان وعيا حادا نقف على سمات المثقف الذي وسمه سارتر بذي الوجدان الشقي ذاك الذي لا يتوانى في إسقاط الأقنعة عن آليات الهيمنة التي توظفها الطبقة المهيمنة، وتفعيلا لتلك الإرادة في التغيير لم تتوقف السعداوي عند الخلخلة الفكرية للثوابت بل امتد إلى الخلخلة الميدانية أو بتمثل فلسفة البراكسيس التي يصفها غرامشي بأنها لا تكون إلا في صيغة نقاشات نقدية وتجاوز لنظام فكري سابق باعتبارها فكرا حقيقيا لعالم ثقافي حقيقي”. وقد تجسد ذلك في اتجاهها إلى الشباب والعمل على التنوير المعرفي في لقاءات دورية بهم وهو تحول بنيوي في خطابها يعكس الحراك الفكري الذي تشهده المجتمعات العربية بعيد الربيع العربي ويتزامن والردة الثقافية والسياسية المتمثلة في تنامي النزعات الأصولية المتطرفة. وهذا التغيير الذي تنحو إليه يعكس مشروعا إصلاحيا خطيرا بما أنه يباشر الفئة الاجتماعية الأقدر على التمرد والأشد قابلية لفعل التنوير وفي خيارها أيضا رد ضمني على النخبة المثقفة التي اختارت التفاعل مع الطبقة السياسية إذ تقول: “النخبة يتفاوضون مع القادة السياسيين مثل البرادعي واحنا قاعدين في التحرير على الإسفلت”. وفي هذا المشهد تطالعنا محاولة دمقرطة هذا الفضاء وإلغاء التمييز بين مواقع الذوات الفاعلة على أساس جنسي.
يتبين لنا إذن أن عنف الكتابة يولَد باشتداد عنف الأنساق النافذة، وأن نار التمرد المتوهجة في دراسات السعداوي كانت تجعل منها كتابة حارقة ومحترقة معا ولكنه احتراق لا يؤول إلى رماد.
لقد كانت السعداوي محمومة بذلك الجدل العميق بين نور المعرفة ونار الجهل المستشري في المجتمعات العربية وبين نور الرغبة في الحرية والمساواة الاجتماعية ونار موروث الهيمنة والظلم الثقيل. ولئن كانت قضايا المرأة العربية هي مركز هذا الجدل فإن الكاتبة تلفي نفسها مدعوة للخوض في مسائل الاقتصاد والتعليم والسياسة والدين والعلم في المجتمعات العربية وذلك لتفضح مختلف العوامل المهيكلة لأزمة الإنسان العربي المعاصر عامة والنساء العربيات خاصة . وتقوم استراتيجية الفضح بوظيفة بنيوية في براديغم المقاومة بل هي مخاطرة أقرب إلى “اللعب بالنار”، فعوض الاحتراق كجل النساء داخل أتون الغبن والأبوية المتسلطة والنظام الرأسمالي المتوحش اختارت السعداوي مواجهة النار بجرأة النقد وقوة التمرد على السلسلة الجهنمية التي تحكم العلاقة بين مختلف مكونات البنيان الاجتماعي. ولذلك كانت كتاباتها إجمالا ضربا من التحقق الفينيقي الذي سمحت به قوة نور المعرفة أو النار الأنقى وفق المصطلح الباشلاري وأذكته نار التجربة الذاتية، فهي كتابة محترقة احتراقا لا يميتها ولا يحولها إلى رماد بل هو احتراق خلاق يجعلنا إزاء تمثل أسطورة الفينيق مع بعض التفاصيل التي تمنحها سمة الواقعية ومنها أن الفينيق في هذا المقام ليس كائنا مغايرا للبشر، بل إننا نقف في جل ما كتبت السعداوي على ملامح الأنثى التي حاولوا مرارا تدجينها وهدر كرامتها بمحاولة تزويجها في سن العاشرة وترهيبها من قدر اقتران شرفها وعفتها بمعطى بيولوجي غير مضمون وهو العذرية وما تقتضيه من إجراءات الحد للرغبة الطبيعية عبر الختان مثلا ثم تعريضها لجرح التفضيل الاجتماعي عبر تربيتها على الخضوع لأحكام التمييز بينها وبين أخيها. وتتوهج نار الكتابة تحت وقع المفارقة بين واقع المؤسسة الطبية التي يتحول فيها الأطباء إلى “تجار للأجساد المريضة” وصورة الطبيب المنشودة والقيم الإنسانية التي يُفترض توفرها فيه فكان في رفضها الخضوع لإكراهات الواقع دافع إلى شقّ طريق النار وحيدة باستبطان آلام كل النساء وقد أفضى ذلك إلى تأليف كتابها “المرأة والجنس” سنة 1972 الذي نُصبت له أول محرقة خاصة بمنع نشره وبفصل صاحبته عن المؤسسات الحكومية (الوزارة والنقابة) ومصادرة مجلة الصحة التي كانت رئيسة تحريرها، ولا عجب في عنف رد الفعل إزاء أول أثر نسوي يتجرا على فضح آليات سلطة القمع الذكوري المتحكمة في تحديد المباح والمحظور ويكشف عن تورط الدوائر السياسية في التزلف لقوى التطرف الديني بمزيد الإجحاف في حقوق النساء وحرياتهن. وبلغ فعل المحرقة أوجه بسجن السعداوي سنة 1981 لجريان مقاومتها نحو مدارات سياسية خطيرة مثل نقد التطبيع مع إسرائيل، لكنها كانت تجربة هامة جدا في توسيع مدار الفضح بالاستفادة من سِير السجينات واعترافاتهن الكاشفة لأسرار القهر الدافع إلى الإجرام.
كانت تلك الشهادات قاطعة الدلالة على فظاعة الظلم الذي يلحق النساء فيجعلهن إما نساء متمردات يقبعن خلف قضبان السجن أو هن نساء متمردات عصابيات خارج السجن أو أنهن زوجات فقدن الطموح إلى الحياة فصرن أشبه بكائنات من رماد بين أسوار بيوتهن. وإن هذا الوعي بقدر النساء التراجيدي وإدراك صلابة الترسانة الأخلاقوية والدينية والتاريخية وضعف الحركة الفكرية التنويرية سياسيا أمام تنامي الإسلام السياسي هو ما دفع السعداوي إلى تكثيف الجهد النقدي ودعمه بالعمل المدني من خلال جمعية تضامن المرأة العربية التي بدورها تعرضت للإقصاء. ولا شك أن تصاعد وتيرة الاتهامات بالردة وبالتشجيع على الحرية الجنسية وتعدد قضايا الحسبة في شأنها ومنع عرض كتبها مثل “سقوط الإمام” و مسرحيتها “الاله يقدّم استقالته في اجتماع القمة” وتصدرها قائمات الموت كانت مآل المثقفة التي رددت: “فالمرأة كالرجل تحتاج لتحقيق ذاتها إلى عمل منتج في المجتمع تحتاج إلى فعل تحتاج إلى أن تفكر وأن تكون أفكارها نابعة من نفسها ولا من الآخرين”.