إسرائيل ولعبة تلميع الذات

*د. رزان إبراهيم

مرت سنوات عديدة والعالم يرقب بردود فعل متفاوتة ما ترتكبه إسرائيل من جرائم مجانية ضد شعب أعزل؛ تهدم وتجرف ما شاءت من أراضيه – دون أية مبالاة- بغرض بناء المستوطنات عليها، ولا مشكلة إذ يقومون بتعطيل حركة أبناء هذا الشعب بين مدنهم وقراهم المحتلة، فالحجج التي تعينهم أمام أنفسهم حاضرة في كل وقت، فهم شعب الله المختار المخلوقين على شاكلته، لذلك ترخص أرواح الفلسطينيين الذين لا يعدو الواحد منهم أن يكون فردا من قطيع يتعاملون معه بوحشية مفرطة. هذا على مستوى الإقناع الذاتي، ولكن ماذا عن العالم الذي نعيش فيه؟ كيف تحاول إسرائيل السيطرة على عقول البشر وإقناعهم بمشروعية احتلالها؟ أقول تحاول، لأن هناك من يؤمن أن إسرائيل تشكل خطرا كبيرا على العالم بأسره، منهم نعوم تشومسكي- على سبيل المثال- الذي يحذر في كتابه ” المثلث المصيري” العالم كله من أن إسرائيل قد تقود العالم إلى حرب نووية مهلكة.

واحدة من أهم الاستراتيجيات المتبعة تتمحور حول فكرة قلب الحقائق، وهي استراتيجية كولونيالية معروفة تعيد ترتيب التفاصيل بما يخدم مصالحها الخبيثة، وعليه كان الحديث في عصر الكشوفات الجغرافية عن تجربة نهضوية مثيرة اكتشفت عالما جديدا، بعيدا عن منظور سكان المناطق المكتشفة التي لم تكن من منظورهم جديدة، لأنهم بكل بساطة كانوا فيها منذ سنين يبنون حضارتهم ويصنعونها، والصحيح أن ما يدعونه اكتشافاً هو في الصميم من حركة استعمار غربي خبيث.

إذن ما أسهل أن تتآكل الحقائق على نحو بطيء لتصبح نسياً منسياً! ما عليك سوى أن تردد الأكذوبة مرة إثر الأخرى، لتنزرع بعدها رزمة من الألاعيب المحملة بوهم وتضليل تقف وراءهما قوة تحرص على امتلاك سلطة الحكي.

من خلال ما تقدم من لعبة قلب الحقائق نستذكر كيف يتحول الفلسطيني بقدرة قادر إلى إرهابي أو نازي، كما كان من أمر الحاج أمين الحسيني، ردا على تحالفه ضد سياسة بريطانيا الداعمة للصهيونية، حيث تم إدراجه في الموسوعة الإسرائيلية الأمريكية للهولوكست، لتكون المادة التي كتبت عنه هي الأطول، بعد الحيز المخصص لهتلر مباشرة. بل ويذكر إيلان بابيه في كتابه” فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة أن بن غورين لم يتردد عام 1956 من مساواة جمال عبد الناصر بهتلر، وجعله طاغية لا يقل خطره على اليهود من خطر هتلر عليهم في أوروبا.

وبالمثل كان من غير الصعب عليهم توجيه تهمة النازية إلى عرفات خلال حرب لبنان عام 1982، فكانت بيروت حين حوصرت شبيهة برلين، وأصبح نص ميثاق منظمة التحرير شبيها بكتاب ” كفاحي” الذي وضعه هتلر.

ما من شك أن ” الصهاينة” امتلكوا من الجرأة ما جعلهم يقلبون من الحقائق ما يصعب حصره،  فمرتفعات الجولان هي ” قطعة من الأراضي المتنازع عليها بين سوريا وإسرائيل”، متناسين هم ومن يردد هذه العبارة أن قراراً بالإجماع صدر عام 1981 عن مجلس الأمن الدولي يدين احتلال إسرائيل لها.

أمر لم يعد محصوراً على الجولان وحسب، فكثيرا ما اندرج هذا التوصيف على كل المناطق المحتلة، لتصبح ( فلسطين) مجرد أراض متنازع عليها رغم كل القرارات الدولية، وليصبح جدار فصل اخترق المناطق المحتلة معطلا حركة أبنائها قاطعا عنهم الهواء مجرد حاجز أمني، ضاربين بذلك قرارا للمحكمة الدولية عدته إجراء غير مشروع. والمشكلة الكبرى أن العالم في البداية يصرخ ويرفض، وما هي إلا أيام حتى يبدأ بالتقبل وكأن شيئاً لم يكن.

بات واضحا أن إسرائيل تقوم بتكريس المؤسسات والأجهزة بكل أنواعها لغرض واحد، وهو تبرير نزعتها التوسعية والعنصرية، ومن ثم العمل بجد واجتهاد على طرد العرب من الضفة الغربية، وإنشاء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى في قلب القدس، لذلك ما أسهل أن تجد حتى في كتب أطفالهم صورا نمطية لعرب يظهرون على صورة أشرار ووحوش أغبياء، بنهايات سعيدة تطمئن أطفالهم بأن العربي لا بد من أن يخضع لغطرسة البطل الإسرائيلي المتفوق.

ويبدو أن الإسرائيليين مهما اختلفوا في قضاياهم الأخرى يظلون على قلب رجل واحد في ولائهم لمشروعهم الصهيوني، وفي نظرتهم العدائية للفلسطينيين وانحيازهم للثقافة الصهيونية. ومن هذا الباب يخصص إيلان بابيه في كتابه الآنف الذكر فصلا يحدثنا فيه عن جوائز ثقافية بملايين الشيكلات تخصصها إسرائيل لكل من يخدم المشروع الصهيوني، ويؤكد فكرة عودة الشعب اليهودي إلى أرضه التاريخية. فلا عجب إذ تمنح رقصة ” ميلاد العنقاء” جائزة قيمة، بما توحيه من بعث وتجدد لشعب الله المختار، وكذلك ” قصة حب في أرض إسرائيل” التي تناولت حرب ال 48 باعتبارها حرب تحرير ضد همجية عربية، وهو ما يندرج على كل فعل ثقافي فني يحمل رسالة صهيونية، كما تلك القطعة الموسيقية التي استحقت الجائزة بسبب عنوانها ” نحن شعبك” الذي يتضمن إحياء للمعاني الوطنية الصهيونية.

من خلال ما تقدم نخلص إلى أن إسرائيل تحتفي بكل ما من شأنه أن يعزز الرواية الصهيونية، تبذل من أجل هذا الغالي والرخيص، فما تحتاجه بالذات الآن وعلى نحو ملح هو تلميع صورة إسرائيل بجهودها التي بذلتها من أجل تحسين الوضع الصحي والبيئي والتكنولوجي والثقافي، وكذلك الترويج لنفسها حاضنة لمعالم فلسطين التاريخية والدينية، بما في ذلك الحائط الغربي وكنيسة القيامة، ومعبد البهائيين. أما حديث الديمقراطية والعيش المشترك، فحدث بلا حرج.

وكثيرا ما تعتمد المؤسسة الصهيونية أساتذة جامعيين من داخل إسرائيل يعتمدون ثقافة الكذب التشويه والفبركة، وهو ما يتفق وسياسة تكثيف حضور إسرائيل على منصات التواصل الاجتماعي تتصدى لكل ما يبدو معاديا لها، بما يمكن اعتباره في الصميم من خطة استراتيجية طالما آمنت أن حشدا في الرأي العام يتطلب جهدا كبيرا يفوق ما يمكن أن يبذل في حرب المعارك للدفاع عن شرعيتها ومبرر وجودها في فلسطين.

ما دامت إسرائيل تمتلك كل هذه القوة لزعزعة أمن العالم كله، وما دمنا بعد سنوات طويلة من الحرمان والشتات عاجزين عن الوقوف في وجه إسرائيل كما يقتضي الحال، وما دام هؤلاء المستوطنون العابرون أو ما افترضنا فيهم أن يكونوا عابرين في كلام عابر قد صاروا مع الوقت يعتبرون أنفسهم هم الأصل، وما دامت إسرائيل ترسم لنفسها صورة مؤداها أنها واحة أمان في المنطقة، ما دام الأمر على هذه الصورة، فالعقل يفتضي منا إعادة تعريف أنفسنا. وإلا دخلنا في اللامعقول حيث تطمس الحقيقة ونرضخ لصور مقلوبة في عالم مقلوب تصبح معها- والقول هنا لمريد البرغوثي- سهام  الهنود الحمر هي المجرمة الأصلية وبنادق البيض هي الضحية الكاملة، أما غضب السود على الرجل البيض فمجرد فعل وحشي، وما أسهل أن نقوم بتحميل غاندي مآسي البريطانيين، ليصبح المجرم ضحية والعكس صحيح، فالأمر لا يعدو أن يكون حيلة لفظية خبيثة تغير الترتيب لتنقلب الحقيقة رأساً على عقب.
___
*الحدث

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *