في يوم الأب: أبي بمداده الحيّ

*منصف الوهايبي

الأب موضوع فرويدي بامتياز، وهو بمثابة قانون أساسي في سياق أوديبي، أي تحريم سفاح القربى أو ارتكاب المحارم. وكان ذلك محاولة منه في وصف انتقال الإنسان من الحياة الحيوانيّة إلى العالم الإنساني؛ أي لحظة ولادة الكائن البشري في إنسانيّته الخالصة وظهور الثقافة.
وهو بذلك يحرّر أسطورة يمكن أن نسِمَها بـ «التأسيسيّة» تسلّط الضوء على هذا الانتقال؛ وقاعدته التي ينهض عليها، أنّ الكائن البشري «انصار»( وهذا اشتقاق خاصّ بي ، من الفعل صار) أو هو درج في العالم الإنساني، بواسطة «قتل الأب».
وقبل هذا الزمن الحسّي لا التاريخي، لم يكن هناك أيّ علاقة مُؤنسنة بالآخر، ولا أيّ مجال للعيش معا، وإنّما هناك عالم العشيرة أو القوم الرحّل؛ حيث سلطان الذكر الذي يزيح أو يقتل كلّ من يتهدّد سلطته، أو ينافسه على ملكيّة الإناث. هذا الأب «الأوّلي» يتجلّى في كامل قوّته أو قدرته، ولا قانون يحتكم إليه سوى متعته اللامحدودة الملغزة اللامتوقّعة، أو الكيفيّة التي يبسط بها سلطانه. وهو مصدر نفسه أو أصل نفسه أو هو قانونه الخاصّ. إنّ «أبا العشيرة» ليس أبا؛ أو هو»أب» ينفي أن يكون «ابنا»، أو هو يتمثّل صورة الأب الذي لم يكن ابنا؛ ويزعم أنّه أصل الكائنات والأشياء. وهذا ما يجعل موت الأب أي « أبُو العشيرة» في المنظور الفرويدي الأسطوري هو الذي يؤسّس الفضاء الإنساني، حيث الذات لا تتجلّى إلاّ في صورة الابن؛ أو لا يكون أبا إلاّ إذا كان ابنا. ولا أحد بمقدوره أن يكون له الصدر دون العالمين، إلاّ إذا ادّعى أنّه «أبو العشيرة» أي الذي لا ينتمي إلى عالم البشر، ما دام يعتبر نفسه مصدر نفسه.
وعند فرويد فإنّ موت الأب أو قتله؛ ممّا يصعب على الأبناء قبوله، فهم بعد إزاحته، يقيمون طوطما أو رمزا أو وثنا يتمثّله، ويقدّمون له النذر وطقوس الفداء. والطوطم هو الصورة المثاليّة لـ»الأب» الذي نخضع له ونخلص له، رجاءً في أن نسلبه قوّته أو نستحوذ عليها؛ كما هو الشأن عند أكل الطوطم. وفي هذا المجال يضع فرويد المعتقدات الدينيّة في صورة «الإله ـ الأب» من حيث هي طرائق في رفض المنزلة الإنسانيّة، والاعتقاد في سلطة تمتلك ما نحن محرومون منه. والأمر يتعلّق بتحويل «أب العشيرة» إلى أب مثالٍ أو أيقونة
٭ ٭ ٭
اليوم،عندما أزور البستان الذي وقفت عليه أمّي شبابها وبعضا من طفولتها (وهي التي تزوّجت ولم تتخطّ الرّابعة عشرة من عمرها)، اسأل نفسي أيّ طينة من النساء كانت؛ فأنا لا أذكر وقد رافقتها حتى ساعاتها الأخيرة في الحياة وساعاتها الأولى بعد الحياة، أنّها اشتكت عوزا أو مرضا أو ضيقا. ويعلم الله كم هي عسيرة فترات الضّيق والعوز والحزن التي مرّت بها، ولكن قلبها كان يسع ذلك كلّه دون عناء كثير أو هكذا أتصوّر. اليوم عندما أعود إلى تلك الغرفة الوحيدة المطلّة على بستان أمّي، يخيّل إليّ أنّي أرى أبي يأخذ ضيفا له بعيدا بين أشجار الزّيتون واللوز والتّين. يخيّل إليّ أنّي أسمع ضيفه بلهجته الجريديّة يقول:» يا سي مختار هذه وديعة استودعها عندك فلا تسلّمها لأحد غيري. أني أرى أني أمنت شرّهم.. فلقد مرّت ثلاثة أيام ولم يلحق بي أحد منهم، وأعتقد أنّهم يأسوا من العثور عليّ، ولو إلى حين. لذلك سأسافر غدا إلى القيروان عساي ألحق بسي علي قبل أن يعود إلى تونس».
وما كنت لأسترق السّمع حتى أسمع أبي، فقد كان صوته دائما مجلجلا كما ضحكته: «سأرافقك حتـّى الهوارب، حيث لك أن تستقلّ الحافلة وإن شئت رافقتك حتى القيروان». دوّن أبي في أوراقه أنّ الرّجل أخرج من خُرْجِهِ كرة من الشمع لفّها في خرقة وهو يقول: «هذه وديعتي عندك». ويقول أبي في روايته إنـّه رافق ضيفه في الهزيع الأخير من الليل، خشية العيون، وإنـّهما بلغا دشرة الهوارب والفجر لم ينبلج بعد. ويقول:»كنت قد توجّست خيفة من تلك الرحلة، لا على نفسي وإنّما على ضيفي؛ فقد كان قلبي يحدّثني أنـّنا مقدمان على أمر جلل، ولكنـّي كرهت أن أجاهره بحديث قلبي، فألححت عليه أن أرافقه حتى القيروان، متعلّلا بأنّ ركوب الإبل خير من ركوب حافلة كثيرة الأعطاب والعطل. ولكنـّه امتنع قائلا: «كفاية عليك كلّ هذه المشقـّة»، وترجّل عن الناقة فربطت عنانها إلى عنان ناقتي وودّعته وانصرفت.
كان فجر ذلك اليوم يبطئ متعمـّدا، وكأنّ شمسه لم تحسم أمرها بعد أتبزغ أم لا تبزغ؛ وكأنـّني نمت أو هكذا تخيـّلت، ولكنّ الناقتين جفلتا ولم أسمع صوت الطلق النـّاري. إنـّما سمعت الوادي يردّد صداه كأنـّه طلقة إثر طلقة إثر طلقة، أو كأنـّه طلقة واحدة لا تنتهي. وخزت ناقتي وعدت على أعقابي. كان هناك ثلاثة رجال وامرأة وصبيّ ينتظرون الحافلة. عرفني الرّجال فساروا نحوي وحدّثوني كيف مرّت السيّارة، وتجاوزتهم؛ ثمّ عادت وأطلق أحد ركّابها النار على الغريب، ثم نزل فحشره في المقعد الخلفي، ثمّ مرقت السيارة لا تلوي على شيء. يقول أبي: «لا ادري ماذا فعلت بعد ذلك، فقد اعتكفت على نفسي أيّاما طويلة، وألمّ بي حزن شديد؛ ولم أَكُ أعرف الحزن والهمّ والغمّ «. أقول وأنا أقلّب أوراقه «لا بدّ أنّه كان محقّا في ذلك»، إذ لا أذكر وقد عاشرته حتى ساعاته الأخيرة في الحياة وساعاته الأولى بعد الحياة، أنّي رأيته حزينا أو مهموما، فقد كان أكثر ما يصيبه حالات من الغضب العارم، سرعان ما تزول لتترك مكانها لإقبال عجيب على الدنيا كأنه يشكّلها عجينة بين يديه.
٭ ٭ ٭
منذ سنوات قليلة، بدأت أتفطّن للتّجاعيد الخفيفة التي أخذت تتشكّل حول عينيّ وعلى جبيني؛ ولم أهتمّ للأمر كثيرا، فأنا من سلالة تكاد لا تهرم، فلم أر للزّمن أثرا على وجوه أهلي، حتّى خيّل إليّ أنّهم لا يموتون، لولا أنْ فعلها أبي، وبعده أمّي؛ بشهرين. ومن قبلهما جدّي؛ وإن كنت أشكّ أنّهم ماتوا بفعل الزّمن، وأرجّح أنّ والدي ووالده ماتا لأنّهما كانا، كعهدي بهما طلعتيْن، يريدان أن يغيّرا رتابة الحياة؛ وأن يذهبا ليكتشفا عالما آخر، يسمعان عنه، فلا يصدّقان، ولا يكذّبان. كان جدّي، وهــــو على فراش موته (1975)، يفتح عينيه، وينظـــر في الواقفين حول سريره، ويهمس: »لا تجـــــزعوا! إنّها إغفاءة قصيرة، ثمّ أنهض! الموت ليس من عاداتنا.. عائلة الوهايبي» ووالدي يعلّق بفرنسيّته: «نحن نمرض ونعتلّ.. مِسْقامون..»مالاديف Maladifs

«مثل كلّ البشر.. ولكنّنا قلّما نموت»

على أنّني أعود إلى كرّاسات أبي (1951). يقول أبي يوم عرف أنّ ابن عمّه علي اختلس محفظة أحد وزراء الأمين باي: يا علي يا ابن عمّي، كان أهلك على فقرهم وعوزهم أشدّاء مكابرين، ولكنّهم لم يكونوا سرّاقا ولصوصا. هل غيّرت تونس من طباعك فأصبحت قاطع طريق؟ ويحتجّ علي: «لا تقل هذا يا مختار. أنا استردّ ما سرقه اللصوص منّي ومنك ومن أهلنا جميعا. هذا لحمنا.. دمنا.. وعرقنا. هؤلاء ليسوا أخوتي. هؤلاء أعدائي وأعداؤك. فلماذا تريد أن أكون بهم رحيما؟ اسمع يا مختار.. لماذا لا نؤسّس لأنفسنا إمارة.. مملكة صغيرة تمتدّ من وادي مرق الليل إلى تخوم سيدي بوزيد أو أبعد قليلا.. إلى ما وراء قفصة والرديف مثلا؟ هل ترى مولانا الأمين باي أو الفرنسيس يغضبون أو يعارضون؟ ما أظنّ. سنخفّف عنهم العبء ونريحهم من بلاد معوزة فقيرة. سنريحهم من البطالة وطلبات العاطلين والجياع، وسنترك لهم تونس ومدن الساحل بزرعها وضرعها. فهل استكثروا علينا فقرنا وفاقتنا؟ ثم ما أدراك يا مختار لعلنا نفوز ببئر نفط أو غاز، فيتسارع إلينا المستثمرون من كلّ حدب وصوب، ونصير في حماية الأمريكان، ويلجأ إلينا الطليان والألمان والفرنسيس. ربّما نطالب في ما بعد بمنفذ إلى البحر نسوّق منه نفطنا. فلا بد من موانئ ومرافئ. لا تخف فلن يرفض لنا أحد رغبة أو طلبا. أنسيت أنّنا في حماية الأمريكان؟».
ويقول أبي» يا مسكين يا علي. هؤلاء جاءونا من قرنين من الزمن وما زالوا. شبابنا يلجأ إليهم في قوارب الموت وهم يأتوننا مبجّلين مكرّمين. يا علي يا ابن عمي.. أعــــــد إلى الوزير حافظة أوراقه وأرحنا من البليّـــة وابحث لنفسك إن شئت عن فريسة على قدر شدقيك وأنيـــــابك. ويضحك علي الساسي ساخرا متهكما: «يا مختار.. لا تخف.. هؤلاء قطط تحكي صولة الأسود.. لو رأيت وزيرك هذا عاريا مرتعشـــا متعثّرا يبحث عن نظارتيه لأشفقت عليه ورثيت لحاله. هؤلاء لا أنياب لهم. نحن أنيابهم ومخالبهم».

________

*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *