الملك السرّيّ للفلسفة

*ترجمة: حسّونة المصباحي

في الوقت نفسه الذي احتفل هايدغر بعيد ميلاده الثمانين، احتفل أيضاً بمرور 50 عاماً على توليه مهنة أستاذ الفلسفة. وقد قال أفلاطون ذات يوم: «ذلك أن البداية هي أيضاً إله ينقذ كلّ شيء بقدر ما يمكث بين الناس».

فليسْمَحْ لي إذن أن أبدأ من البداية. وأنا لا أقصد من هذه البداية سنة ولادته (1889) في «ماسكيرش»، وإنما سنة 1919، أي سنة تعيينه أستاذاً للفلسفة في جامعة «فرايبورغ»، ودخوله إلى الحياة الأكاديميّة الألمانيّة. ذلك أن شهرة هايدغر كانت أقدم من كتابه الشهير: «الكائن والزمن» الصادر سنة 1972. بل إن في استطاعتنا أن نتساءل ما إذا كان ذلك النجاح الغريب للكتاب – ليس الانطباع الذي أحدثه فور صدوره، لكن بالأحرى تأثيره الخارق على المدى البعيد، والذي لا يضاهيه فيه سوى عدد قليل من المؤلفات في هذا القرن- ممكناً لولا النجاح الأكاديمي الذي سبقه، والذي جاء الكتاب الآنف الذكر ليؤكده في أذهان طلبة تلك الفترة.

المجد الأول
لقد حدث شيء غريب في فترة المجد الأول، ربما أكثر من ذلك الذي أحدثته شهرة كافكا في العشرينيات، أو براك وبيكاسو في فترة لاحقة. فهؤلاء أيضاً (كافكا وبراك وبيكاسو) كانوا مجهولين من قبل الجمهور، في المعنى العادي للكلمة، إلاّ أنّ تأثيرهم رغم ذلك كان خارقاً. أمّا بالنسبة لهايدغر فلم يكن هناك شيء يستند إليه للحصول على الشهرة. ولم يكن قد كتب مؤلفاً واحداً، مقتصراً على بعض الملاحظات المسجّلة خلال المحاضرات، والتي كان يتداولها الطلبة. وكانت تلك المحاضرات تعالج نصوصاً معروفة عالميّاً، ولم تكن تنطوي على أيّة نظريّة خاصّة. ولم يكن هناك غير الاسم، وهذا الاسم كان يسافر عبر ألمانيا بأسرها مثل خبر الملك السريّ. ولم يكن ذلك يعني مطلقاً تلك «الحلقات» المركزّة على «مُعلّم» يقودها ويوجّهها (مثل حلقة الشاعر ستيفان غيورغ). ومثل الحلقات المعروفة جيّداً من قبل الجمهور، كانت تحتمي من هذا الأخير مُتَخفية وراء هالة من غرابة يزعم أصحاب الحلقة أنهم وحدهم العارفون بها. في ما يخصّ هايدغر، لم تكن هناك غرابة ولا مريدون، والذين بلغهم الخبر كانوا يتعارفون دونما شك لأنهم طلبة. والبعض منهم تصادقوا. وفيما بعد، ظهرت هنا وهناك بعض الزمر المتحمسة لما يرد في محاضرات هايدغر، لكن لم تتأسّس أبداً على قاعدة حلقة. كما لم يكن هناك شيء باطنيّ أو سريّ.

المتمرّد

من هم الذين كان الخبر يصلهم؟ وماذا كانوا يقولون؟

في تلك الفترة، عقب الحرب الكونيّة الأولى، كان يهيْمن على الجامعات الألمانية شعور، لا بالتمرّد، وإنما بالانزعاج الشديد. وقد طغى هذا الشعور على جميع المؤسسات العلميّة من دون استثناء، وعلى جميع الطلبة بمختلف مستوياتهم، وأيضاً على الجهاز التعليمي. ولم تكن الفلسفة توفر مهنة تساعد على العيش، بل إنها كانت الاختصاص الذي يختاره أولئك الذين يعرفون أنهم سيلاقون متاعب كثيرة في حياتهم. وكانت طرق تدريس الفلسفة متخلفة للغاية، بحيث إنها لم تكن تفي بحاجة من يريد إدراك الأشياء والعالم الذي من حوله. وكانت الدروس الفلسفيّة حول المعرفة، وحول الجمال والمطلق، مضجرة إلى أبعد حدود الضجر. ولمقاومة هذه الوضعيّة المأساويّة، ظهر قبل هايدغر بعض المتمردين. وبحسب التسلسل التاريخي يمكن أن نذكر هوسرل، ونداءه من أجل «الذهاب إلى الأشياء ذاتها». وهذا كان يعني: لنترك النظريّات والكتب ولنتناول الفلسفة كما لو أنها علم دقيق يحظى بمكانته إلى جانب العلوم الأكاديميّة الأخرى. وكان مثل هذا الكلام جدّ ساذج، وخالياً من أيّة دعوة إلى التمرد، غير أنه كان على أيّة حال شيئاً استند إليه شيلار ثم هايدغر في ما بعد. بعد ذلك، في هايدبيرغ ظهر أحد المتمردين الفعليين، وهو كارل ياسبرز الذي كانت تربطه بهايدغر، كما نحن نعلم، علاقة صداقة امتدت إلى فترة طويلة، والسبب هو أن مشروع هايدغر كان يتضمن هذا «التمرّد» الذي كان ياسبرز يرى فيه شيئاً فلسفيّاً راديكاليّاً وسط الثرثرة الأكاديمية حول الفلسفة.

ما كان يجمع بين عدد قليل من الفلاسفة – لنستعمل هنا كلمات هايدغر نفسه- هو أنهم تمكنوا من أن يميّزوا بين «الشيء المراد به المعرفة الدقيقة والشيء الذي نفكر فيه». وقد اهتموا هم بالأمر الثاني، أما الأول فلم يبالوا به (…) وشيئاً فشيئاً انتشر الخبر القادم من فرايبورغ والذي يقول بأن هناك رجلاً توصّل بالفعل إلى الأشياء التي كان هوسرل قد أعلن عنها، وهو يعرف أنها ليست من المهام الأكاديميّة، وإنما من مهام الرجل الذي يفكر. وهذا الأمر ليس في الحقيقة وليدَ الأمس أو اليوم، وإنما هو قائم منذ البداية، كما أن هذا الرجل يؤكد أنه بإمكانه أن يكتشف الماضي من جديد حتى لو أن الحبل السريّ مع التقليد القديم قد قطع بالنسبة له تماماً. وهو يقول – مثلاً – إننا عوض أن نتحدث عن أفلاطون، وأن نعرض نظريّة أفكاره، علينا أن نقيم لمدة فصل دراسيّ كامل، حواراً يتواصل خطوة خطوة حتى تغيب تماماً تلك النظريّة التي عمرها ألف سنة، فلا تتبقى منها غير إشكالية حاضرة بعظمة وجلال. إنّ مثل هذا الأمر يبدو لنا الآن عادياً ومألوفاً. كثيرون ينهجون اليوم مثل هذا المنهج، لكن قبل هايدغر لم يكن هناك أحد على الإطلاق. والخبر يقول أيضاً بكلّ بساطة: إنّ الفكر استعاد حيويّته. إنه يتحدث عن تلك الكنوز الثقافية في الماضي، والتي كنا نعتقد أنها ماتت وتلاشت. وها هي تعود على لسان الرجل لنقترح أشياء جديدة مخالفة تماماً لما كنّا نتصوّره، ومنها كنّا نحترز ونحذر. هناك معلم. وجائز أن نتعلم منه كيف نفكر.

سرّه في فِكرِه

الملك السريّ إذن في مملكة الفكر التي هي من هذا العالم، ومع ذلك متخفية فيه إلى درجة أننا لا نستطيع أن نتأكد من وجودها أم من عدم وجودها على الرغم من أن سكانها أكثر عدداً مما نتصور، وإلاّ كيف يمكننا أن نفسر التأثير الفريد من نوعه، «والجوفيّ» أحياناً، لفكر هايدغر ولتحاليله للنصوص الفلسفيّة التي تتجاوز كثيراً حلقات طلبته، وأيضاً ما نحن نعنيه عامة بالفلسفة. ليست فلسفة هايدغر في رأيي- من حقنا أن نتساءل مثل الفرنسي جان بوفري إذا ما كانت هناك حقاً فلسفة لهايدغر- ولكن فكره هو الذي ساهم بطريقة حاسمة في تحديد لمظهر الفكري لعالم القرن العشرين، وهذا الفكر يتميّز بصفة الاختراق، وهي صفة خاصة به، ولا تضاهيها في ذلك صفة أخرى. وقوّة هذه الصفة تتمثل في فعل «فكّر». إنّ هايدغر لا يفكر «في»، أو «حول» الشيء، وإنما هو «يفكر الشيء» (نحن مضطرون هنا إلى جعل فعل فكر متعدياً لتقريب مفهوم هايدغر لمعنى الفكر- المترجم). وفي هذا النشاط البعيد عن كلّ شكل من أشكال التأمل، يغوص في الأعماق، غير أنّ هذا لا يعني أنه يغوص بهدف الكشف عن أرض نهائية مُطَمْئنة، وإنما لكي يفتح، وهو مقيم في الأعماق، طرقاً جديدة، وأن يضع «علامات» (Wegmarken – وهو عنوان مجموعة من المقالات التي كتبها بين 1929 و1962).

إن الفكر كما يراه هايدغر، يمكن أن يقترح لنفسه مهامّا، ويمكن أن يشدّ إليه «مشاكل». وهو بطبيعة الحال، يملك شيئاً خاصاً يهتمّ به، أو بالأحرى، يحرضه ويحثّه على العمل. إلاّ أننا لا نستطيع أن نقول إن لمثل هذا الفكر هدفاً،، وهو دائماً في حالة عمل. حتى فتح الطرق صالح بالأحرى إلى فتح بُعْد جديد عوض تحقيق هدف حُدّد من قبل. يمكن أن تكون لطرق هادئة (طرق الغابات مثلاً- Holzwege وهو عنوان مجموعة النصوص التي كتبها بين عام 1936 وعام 1946). ولأنها تقود إلى هدف محدد خارج الغابة، و«تضيع فجأة في ما لم تطأه قدم بعد»، هي أروع بكثير بالنسبة لمن يحب الغابة، من تلك المشاكل المخطّطة بدقة وعناية التي تتهافت عليها أبحاث المختصين في الفلسفة والعلوم الإنسانيّة (…).

تهديم الميتافيزيقيا

وقد أقام هايدغر في هذا البعد من العمق الذي فتحه بفكره وحده، شبكة كبيرة من طرقات هذا الفكر. وبطبيعة الحال، النتيجة الوحيدة والفوريّة التي أخذت بعين الاعتبار، وأسست مدرسة هي تلك التي أدّت إلى هدْم الهرم الميتافيزيقي القائم، حيث لم يكن يشعر فيه منذ زمن طويل أنه مرتاح البال. وهذه عمليّة تاريخيّة، وربما تكون من الصنف الأول. إلاّ أنّه ليس علينا أن نهتمّ بذلك كثيراً نحن الخارجين عن كلّ اختصاص، بما في ذلك اختصاص التاريخ. وإذا ما كان كانط قد سُمّي على حقّ، وفي أفق معنيّ: «المُقَوّض»، و«الهدّام»، فإنني أعتقد أن مثل هذه الصفة تنطبق على دوره التاريخيّ، وليس على ما كانه بالفعل. أمّا بالنسبة لهايدغر، ولدوره في تهديم البناء الميتافيزيقي الذي كان على أيّة حال وشيك الوقوع، فإن في مكاني أن أؤكد أنه علينا أن نشيد به وحده لأنّ الهدْمَ تمّ بطريقة مناسبة لما سبق، وأنّ الميتافيزيقا حلّلت في كلّ أبعادها، ونتائجها «نهاية الفلسفة» كما يقول هايدغر، إلاّ أنّها تشرّف الفلسفة التي هيّأها من هو متعلق بها أشدّ التعلّق، أي ذلك الذي اتخذ طوال حياته في دروسه وفي محاضراته، نصوص الفلاسفة كمنطلق لعمله، وأبداً لم يعتمد على نصّ من نصوصه إلاّ في فترة الشيخوخة!

تهديم مناسب

في ما يخص تهديم البناء الميتافيزيقي علينا أن نشيد به وحده لأنّ الهدْمَ تمّ بطريقة مناسبة لما سبق، وأنّ الميتافيزيقا حلّلت في كلّ أبعادها، ونتائجها «نهاية الفلسفة» كما يقول هايدغر، إلاّ أنّها تشرّف الفلسفة التي هيّأها من هو متعلق بها أشدّ التعلّق، أي ذلك الذي اتخذ طوال حياته في دروسه وفي محاضراته، نصوص الفلاسفة كمنطلق لعمله. وأبدا لم يعتمد على نصّ من نصوصه إلاّ في فترة الشيخوخة!

صائد العلامات

هايدغر لا يفكر «في»، أو «حول» الشيء، وإنما «يفكر الشيء». وفي هذا النشاط البعيد عن كلّ  شكل من أشكال التأمل، يغوص في الأعماق، غير أنّ  هذا لا يعني أنه يغوص بهدف الكشف عن أرض نهائية مُطَمْئنة، وإنما لكي يفتح، وهو مقيم في الأعماق، طرقاً جديدة، وأن يضع «علامات» (وهو عنوان مجموعة من المقالات التي كتبها بين 1929 و1962). إن الفكر كما يراه هايدغر، يمكن أن يقترح لنفسه مهامّاً، ويمكن أن يشدّ إليه «مشاكل». وهو بطبيعة الحال، يملك شيئاً خاصاً يهتمّ به، أو بالأحرى، يحرضه ويحثّه على العمل.

أسلوب

يقول هايدغر إننا عوض أن نتحدث عن أفلاطون، وأن نعرض نظريّة أفكاره، علينا أن نقيم مدة فصل دراسيّ كامل، حواراً يتواصل خطوة خطوة حتى تغيب تماماً تلك النظريّة التي عمرها ألف سنة، فلا تتبقى منها غير إشكالية حاضرة بعظمة وجلال.
___
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *