*خيري منصور
قد يستدعي هذا العنوان على الفور أمثولة زياد بن أبيه، لكن ما أعنيه هنا هو على النقيض من ذلك، وربما كان أقرب إلى مقولة الشاعر ووردزورث الشهيرة الطفل أب الرجل، والعلاقة بين الآباء والابناء إشكالية، لأنها ليست متماثلة أو على الوتيرة ذاتها، لهذا جاءت نظرية قتل الأب عند فرويد على درجة من التعميم والتجريد أيضا، لأن هناك أبناء لا يشتهون اليتم المبكر، خصوصا في سن المراهقة لفرط تعلقهم بالآباء، مقابل أبناء آخرين يصبح الأب بالنسبة إليهم تجسيدا لمطلق السلطة، بل التسلط، وبهذا المعنى فإن الباترياركية أو الأبوية، التي توصف بها مجتمعات محكوم عليها بالبقاء دون سن الرشد السياسية، ليست متجانسة في كل زمان ومكان، ما دام هناك باتريارك يعطي ويرعى ويحمي، مقابل آخر يأخذ ولا يبالي ويطلب الحماية من الابناء عند الحاجة .
قتل الأب كما قدمه فرويد تعبير عن البلوغ، والخروج من عباءة أو معطف الأب الذي يصادر حرية الابن، لكن ما لم يقله فرويد هو أن هناك الابن بالمعنى الدقيق والوريث، فالابن يكون مسكونا بنموذج الأب وقد يحاكيه أو يتقمصه، لكن الوريث يتعجل موت الأب، لأنه لا يرى فيه إلا ما يمتلك من مال أو عقار، ولو تجرأ الكثير من المبدعين على البوح بما اختزنت ذاكرتهم عن الآباء لقدموا قرائن للنقد تضيء مساحات معتمة في حياتهم وربما في نصوصهم أيضا.
وعلى سبيل المثال حين يقول جان روسلو في تجربته الطريفة عن ترجمة أدغار ألان بو، بأنه لعن معه أباه، فإن ذلك يعني أن الابن يبحث بين سائر الأبناء عن نموذج مطابق له، تماما كما أن بعض المبدعين، ومنهم رامبو وبودلير وهنري ميلر إلى حدّ ما، لعنوا أمهاتهم بعد أن تزوجن رجالا غير آبائهم، ما دفع بودلير مثلا إلى اعتبار زوج أمه الجنرال أوابك العدو الوحيد واللدود. أما شوبنهاور فقد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد كانت أمه كاتبة مغمورة، وحين اشتبك معها ذات يوم وصفعته بحيث تدحرج على سلالم البيت، قال لها إن التاريخ سوف يذكرها فقط لأنها ام آرثر شوبنهاور، وقد نجد شيئا كهذا عند الشاعر المتنبي الذي نسب أمه إليه وليس إلى أبيها.
والأبناء على ما يبدو نوعان أحدهما يفتتن بأبيه بحيث يحلّ فيه ويلده من صلبه، والآخر يرى في اليُتم انعتاقا ويقتل أباه رمزيا وفي مخيلته على الأقل.
ورغم رحيل أبي قبل اكثر من نصف قرن، إلا أنني أتحسسه تحت جلدي وما زلت أشم رائحة التبغ من أصابعه ويدثرني بعباءته كلما اشتد الصقيع، وقد تكون مناسبة هذه التداعيات ما لاحظته من بعض أبناء جيلي، ومنهم من أعاد إنتاج الأب عندما أصبح أبا، وكرر التراجيديا لكن بصورة لا تخلو من الكوميديا، فمن ضبط أباه في طفولته متلبسا بالكذب، أو أية رذيلة واختزن المشهد في لاوعيه، ستصبح صورة الأب بالنسبة إليه شائهة، ومن قبله أبوه لأنه سرق قلما أو ممحاة زميله في المدرسة، قد يصبح لصا أو قاطع طريق، بعكس من وبّخه أبوه لأسباب تقل عن السرقة والكذب.
إن البُعد التربوي المسكوت عنه في حياتنا الاجتماعية وانعكاساتها على الثقافة يحذف الكثير مما يمكن قوله، سواء تعلّق الأمر بالنقد أو بالتحليل النفسي، وقد أخبرني صديق شاعر فقد أباه قبل ثلاثين عاما، إنه يخفض صوته بشكل عفوي في المكان الذي علقت على جداره صورة الأب، وقال أيضا إنه حين يشــعر بالوحشة والضعف يحدق في عيني أبيه في صورة أصبحت باهتة بفعل الزمن، ثم يشحن نفسه بالإرادة والقوة كما لو أن أباه حيّ.
هناك إذن من تصدق عليهم مقولة فرويد عن قتل الأب، لكن هناك أيضا من كان هاجسهم منذ الطفولة والمراهقة هو الخوف من فقدان الأب، لهذا يحاولون من خلال تقمصه والحلول فيه إعلان قيامته مرات عديدة. أما المفارقة في ثقافتنا فهي أن أبرز الاسماء في تاريخنا من فلاسفة وشعراء ورجال دين كانوا يحملون لقب الابن، بدءا من ابن خلدون وابن رشد وابن سينا وابن حمديس وابن النفيس وابن المقفع إلى آخر السلالة، لكن أيامنا قلبت المعادلة، بحيث أصبح أبرز الثوار آباء وليسوا أبناء، وقد يكون ذلك تعبيرا عن فائض الباترياركية السياسية، أو عصيانا على الآباء لأنهم ليسوا نماذج تحتذى.
هناك إذن من ينتسب لأبيه، ونقيضه هو من ينتسب لابن قد يكون موجودا بالفعل أو مُتخيّلا، وقد حاولت من خلال قراءة العديد من السير الذاتية لشعراء عرب أن أعثر على الأب وتجلياته، لكنني نادرا ما وجدت ذلك، فالأب إما أن يكون جملة معترضة وعابرة في كتاب، أو مجرد اسم في شهادة ميلاد كي لا يكون زياد ابن ابيه. والقول المأثور عن النار التي تخلف رمادا يختصر كل ما يمكن قوله عن الورثة الذين لم يستطيعوا أن يكونوا أبناء، فهل ما قيل عن الابن بأنه سر أبيه يحتاج إلى إعادة نظر وتحليل؟