شهد اليَعاسيب

*خيري منصور

ما من نشاط ذهني تعرض للتشكيك في جدواه كالنقد، خصوصا في بعده الأدبي وهناك من وصفه بأنه يتعامل مع الحصى في قاع النهر وليس مع النهر وتياره، لهذا تساءل غراهام هيو عن السبب في عدم وجود تمثال لناقد واحد في عواصم العالم.
والحقيقة ليست كذلك، فالنقد لا يمكن الحكم عليه بالجملة، ما دام هناك نقد اتباعي يعيش على هامش النّص ويتغذى عليه مقابل نقد يصل حدّ الإبداع الموازي، وأذكر أن نجيب محفوظ سئل عن تجربته مع النقد فأجاب بشيء من السخرية أن النقد مرّ بثلاث مراحل قدر تعلقه بنتاجه الروائي والقصصي، المرحلة الأولى هي التجاهل شبه التام. والمرحلة الثانية هي التعليق بتحفظ أو الاقتصار على تلخيص النص، أما المرحلة الثالثة فقد بلغت حدّ التخمة وفاضت عن أي حدّ، ولم يقدم محفوظ تفسيرا لذلك، لكن نبرته الساخرة توحي بأن النقد العربي ليس مغامرا وأن نظرية وقع الحافر على الحافر استمرت في تاريخ ثقافتنا بعدة صيغ وتجليات، فالنقد الكسول أو الداجن ينتظر الاعتراف بالإبداع من عدة أطراف منها القراء، إذا سارعوا إلى جعل كتاب ما الأكثر مبيعا بمعزل عن قيمته الفعلية، ومنها الجوائز بدءا من أصغرها وأكثرها تواضعا حتى نوبل وبوليتزر وغونكور، عندئذ يقبل النقد على النص ضامنا بأنه لا يجازف ولا يجترح طريقا أو أفقا بقدر ما يسير في طريق معبّد.
وثمة تشبيه للنقد يقبل العديد من التأويلات، إضافة إلى طرافته هو أن النّقاد كالنحل، منهم من يحلق عاليا ويذهب بعيدا ويغامر بحثا عن الرحيق، ومنهم من يشبه النحل الكسول الذي يُعلف بالسكر المطحون وبالتالي يفرز عسلا مغشوشا، وهناك مبدعون في مختلف المجالات لا يعترفون بجدوى النقد أو أنهم أفادوا منه، وأدق تعبير عن هؤلاء ما قاله موسيقي عزف مقطوعة صفق لها الحضور، وحين سأله أحدهم ما الذي يعنيه بها أو عن أي شيء تعنيه لم يجد لديه سوى إجابة واحدة هي إعادة عزفها، وقد يفعل الفنان التشكيلي ذلك أيضا كما حدث في قصة لموباسان، حين قرر الفنان أن يجيب كل من يسأله عن معنى لوحة من لوحاته قائلا: ألم تشاهد في حياتك نهرا، رغم أن لوحاته لم يكن الماء من عناصرها أو مكوناتها على الإطلاق، وأحيانا يلعب النقد الرديء والمداجي دور الفزاعة في التنفير من نص ما، وهذا ما اعترف به الراحل جبرا إبراهيم جبرا حين قال بأنه لم ينتبه لشاعرين شغلا الناس والنقد معا لعدة عقود هما الجواهري ونزار قباني، إلا في مرحلة متأخرة من العمر، وبالفعل كتب عن الشاعرين لكن بطريقته. وهناك شاعران من أبرز وأشهر الشعراء العرب المعاصرين هما، أدونيس ومحمود درويش اعترفا مرارا بأن ما كُتب عنهما وهو غزير، لم يكن نقدا بالمعنى الدقيق، أو كشفا يمكن الإركان إليه، وأذكر أن الصديق الباقي محمود درويش قال لي ذات يوم أن كتابا صدر عنه بأكثر من ثلاثمئة صفحة كان بإمكان مؤلفه أن يختصره إلى مقالة لا تزيد كلماتها عن ألف كلمة. ولو شئنا اختيار أمثلة عن النقد الذي يدافع عن ضرورته وجدواه ويتاخم الإبداع، لوجدنا الكثير، وما كتبه الفرد أوبراين عن رواية «الطاعون» لألبير كامو أو جرمين بري عن «الغريب»، وكذلك فيليب يونغ عن همنغواي، وماثيسن عن إليوت يكشف ويضيء تجليات للنصوص قد تفاجئ من أبدعوها، لأن همنغواي لم يخطر بباله أن يأتي ناقد يقرأ «العجوز والبحر» من خلال التأويل الميثولوجي، بحيث يرمز خليج كوبا إلى بحيرة طبريا وسانتياغو إلى النبي يعقوب، وهذا ما فعله أوبراين حين قال عن رواية «الطاعون» إن الجرثومة التي أصابت شخوص الرواية في مدينة وهران الجزائرية تسللت إلى المؤلف، لأن أسماء كل شخوصه فرنسية تقليدية وكأنه يعبر من خلال اللاوعي عن الموقف الكولونيالي الفرنسي من الجزائر .
ومقولة برادلي الشهيرة عن النص المتعدد تختزل الكثير مما يمكن قوله عن قابلية النص لتعدد القراءات والمستويات، سواء من خلال الإيحاءات أو الإحالات، وهناك عبارة وردت في قصيدة لإليوت هي البوابات الحارّة وجدت أكثر من خمسة تأويلات لها، بدءا من التأويل الجنسي إلى أطلال الرومان وأخيرا بوابات الجحيم، من خلال كوميديا دانتي الإلهية، وقد يكون ما اعترى النقد العربي من شخصنة وانجذاب نحو القطعنة أحد أسباب هذه الفوضى التي عبثت بتضاريس الخريطة الأدبية، فهو نقد غالبا ما يتجنب الجديد الخارج عن مألوفه الموروث والمكرس لهذا فهو نادرا ما يكتشف.
وعلى سبيل المثال حين أصدر الطيب صالح روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» وكتب عنها مبشرا الراحل رجاء النقاش، توالت المقالات عنها واخذت النصيب كله أو معظمه، على الأقل من أعمال صالح، رغم أن لديه قصصا قصيرة جدا لها أهمية فنية وجمالية فائقة، إضافة إلى رواياته الأخرى. فهل عاد النقد العربي إلى جذره الاشتقاقي المقترن بالدجاج؟ أم أن هناك محاولات يعترف أصحابها بأن النقد إفراز حضاري بامتياز ولا يمارس بالفطرة أو عند حدود الانطباع؟
مرة أخرى نقول تجنبا للتعميم والتعويم معا، إن النقد العربي الجدير بهذا التصنيف ليس أكاديميا أو إتباعيا، إنه من نتاج مبدعين فاضت تجاربهم وثقافتهم عن نصوصهم، كما يقول فالاس فاولي في قراءته للسريالية، لهذا عبثا ننتظر شهد الملكات من اليعاسيب.

______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *