الكتابة تلويحة اليد الثالثة

*رشيد المومني

في إطار إقرارنا بالنقلة النوعية، التي حققتها نظريات التلقي، عبر مساراتها التحديثية لمنهجية قراءة النص، سنشير إلى خاصيةٍ تبدو لنا ضمن النسق الذي نشتغل به، جديرة بالتنويه، وهي المتعلقة بجدوى إضاءة ما نعتبره أحد أهم المكونات الخفية، الفاعلة في إغناء شعرية النص، وهو المكون الأوتوبيوغرافي، الذي تتحاشاه الرؤية، تلافيا لأي اصطدام مباشر بالذات الكاتبة، التي حسَمَت الخطابات المهتمة، وضمن انتشاءٍ قداسي، أمر مواراتها إلى الأبد تحت تراب النسيان.
ويمكن أن تتحقق عملية الإضاءة، ضمن ما يمكن تسميته بالقرابة الجينية، القائمة بين النص وكاتبه، باعتبار أن النصي كتب عادة، استجابة لأسئلة معينة ومحددة، تخص البنية الذهنية والثقافية والحضارية لذاتٍ تتقاسم شروطها الحياتية المشتركة مع الآخرين، دون أن تتنازل بالضرورة عن حيثيات حياتها الخاصة بها، باعتبار أن النص هو فضاء تفاعل الذاتي بالموضوعي، الذي يمتد بموجبه وهَج النص وإشعاعه إلى فضاءات القراءة، في صيغة كتابةٍ منفصلة عن مرجعيتها الأصلية، وقابلةٍ في الوقت نفسه للانفتاح على هذه القراءات.
إلا أن هذا الانفتاح، ومهما كان إيجابيا، لا يمكن أن يحرم سلطةَ القرابة الجينية القائمة بين النص وكاتبه، من متعة التموضع الفعلي والحقيقي في مشهد الكتابة. إن القرابة هنا تستحضَر في إطارها السلالي، استنادا إلى اعتبار النص امتدادا لجسد الكاتب، وليس انعكاسا له، أي أن ما أنت بصدد قراءته الآن، ومهما تقدم مستوى تواصلك معه، وأيضا مع المسافرين الذي تغص بهم عربات هذا القطار الليلي، فإنه في نهاية الأمر يستمر في الإحالة على كاتبه، أكثر من أي شخص آخر، أولا، بفعل التواجد الخفي لذلك الشيء الممعن في خصوصيته، والذي تتواطأ أسراره مع تكتم الذات الكاتبة، العليمة بعلو مقامه في فضاء النص، بوصفه نواة دلالية، ذات بعد مركزي، يعود له الفضل في تنسيل الكتابة، وفي نسج ما تفرق من خيوطها.
وثانية بفعل خيمياء اليد الثالثة التي يمارس بها الكاتب طقوس إبداعه للنص، والتي تستقل بخصوصيتها عن أي ذات كاتبة. فهذه النواة الخفية، وبشقيها المزدوجين، وعلى الرغم مما تتمتع به من سلطة ملموسة في بناء جمالية النص، ستظل من وجهة نظر المقاربات الحديثة، مجرد مكون دلالي من مكوناته، التي تمارس دورها الطبيعي في الانفتاح على تآويلها. وهو تصور لا يمكن أن يصرفنا عن التأكيد على أن هذا المكونَ هو ذلك الشيء المتفرد والمنفلت، الذي من أجله انكتب النص، والذي كان الشرارةَ السرية التي أشرَت على احتمال اشتعاله هنا، كما هناك.
إن هذا الشيء «النواة المزدوجة الفصين» الذي هو أساسا في ملكية كاتبه، والذي يعتبر السبب الجوهري الكامن في ارتباطه الحميمي به، وفي محاورته الشخصية والذاتية له، ولكل ما يحَبره من نصوص. طبعا، لا أحد يجادل بأن الشيء ذاتَه، الذي ما من أحد يحيط بالتفاصيل الدقيقة لأسرار انكتابه عدا الكاتب، مهيأٌ لممارسة تحولاته داخل النص، انسجاما مع قانون الكتابة، الذي يتدخل بشكل مباشر في إعادة بناء العناصر، وهي التحولات التي يتمكن خلالها- الشيء- من إيهام القراءة بمغادرته لفضاء انبجاسه الذاتي، وقابليته تاليا، للانخراط في ترحال دائم، متعدد، ومتجدد، انسجاما مع تعدد وتجدد القراءات.
لذلك، فإن السؤال المقترن برؤية الكاتب الذاتية للشيء المحتجب عن أنظارنا، تظل حاضرة بقوة، مؤكدة على أولوية استئثار المؤلف بتملك خصوصيته، أكثر من أي قارئ متمرس، علما بأن هذه الخصوصية، يمكن في الوقت نفسه أن تحظى باهتمام لحظة ثقافية ما، فتكون لها أصداء هنا أو هناك، كما يمكن أن يكون لها أتباع ومشايعون، بفعل عدة عوامل، كأن تصادف هوى في نفوسهم، أو أن تكون اللسان الناطق بما عجزت ألسنتهم عن المجاهرة به والتعبير عنه، فكريا أو جماليا، حيث لا أحد ينكر أن النص، أي نص ومهما كان هامشيا، ومفتقرا إلى كافة الميكانيزمات التواصلية، فإنه مؤهل سلفا لضمان تفاعله مع شرائح اجتماعية متعددة المشارب، بفعل حضور وشائج قرابة بين هذه النصوص، وبين الأفكار والانفعالات التي تخالج هذه الشرائح، لأن من أبرز سمات كل بنية ذهنية، قابليتها للانفتاح على غيرها، فلا تظل مقيدة بخصوصية الأمكنة والأزمنة التي وجدت فيها، إلى جانب احتفاظها نسبيا، بمستوى معين من مستويات استقلاليتها، ذلك أن تواجد الذات في فضاء مكاني وزماني معين، يعني بالضرورة حضور نماذج شبيهة بها في الفضاء نفسه، كما في غيره من الفضاءات، لأن اللحظة التاريخية، هي بمثابة جذر سلالي، مؤهل طبيعيا وبيولوجيا، لإنتاج ذوات متشابهة ومتقاربة، من حيث التكوين، ومن حيث الدلالة. كما أن اللحظة التاريخية، قد تجنح هي أيضا، بفعل عوامل ثقافية وحضارية، إلى ممارسة تعددها المتميز بملامحها المشتركة، في أزمنة وأمكنة متباينة ومختلفة، يتعذر فيها على الملاحظ الفصل، بين الأصل المتفرد والفرع المشترك، إلا أن الحضور الموضوعي لهذه الحقيقة، والناتج عن تسرب عناصر متشابهة ومتداخلة، من حيث أشكالها ومضامينها، إلى البنيات النصية، لا يشفع لها بالتحول إلى سلطة تلزم القراءة بتبني قوانينها، وباعتمادها مكونا من مكونات تلقيها لنصوص العالم، كما لو كانت محاطة بهالة قداسية، نتخذ منها ملاذنا الأخير الذي نحتكم إليه في حل إشكاليات الفهم والتأويل، لأن حضور ظاهرة التشابه الملتبس بين العناصر/الذوات، في مرجعياتنا الشخصية أو النصية، لا يكون فعالا، إلا ضمن الحيز الذي يسمح لنا بتحقق حالة من التعاطف المسبق مع المكتوب/ المقروء، كخطوة تمهيدية، تستعيد بها القراءة استقلاليتها التي تسعفها في تمييز ملامح الفرق الكامن بين الأصل والفرع.
فمبدأ التشابه يظل إيجابيا فقط في حدود اعتباره نقطة عبور إلى الاختلاف، المعبر عنه في الأسئلة الحميمية التي تراود الذات الكاتبة، بوصفه – أي الاختلاف- حجر الزاوية في لعبة الخلق، والشعلة المركزية في سرائر ظلمته، والطاقة المولد للأشباه الذين يجددون عبرها هويتهم، إن استدارة الحلقة المنفتحة، تتحقق من خلال تفاعلٍ متكاملٍ، يبدأ من حَد الخصوصية الفردية المتعلقة بذات الكاتب، لينتهي إلى ذات القراءة، عبر ذات الشبيه التي هي جماع تفاعل الذات الكاتبة بالذات القارئة، إن الأمر يتعلق بسَفَرية دلالية في فضاء الذوات التي تتكامل في تعارضها، فالذات النصية تتغير بتواز مع التغير الجدلي، الذي يسري في حركية التماهي، وفي حركية التشابه.
وهو ما يضمن الاستمرارية المتحولة، والمتغيرة، للدلالة النصية التي لا يمكن بحال أن تكون نهائية، ومطلقة بانغلاقها على ذاتها، كأية عقيدة، يبالغ في تقديسها وفي تكريسها كأمر واقع. لأن أي خطاب، ومهما كانت أهميته، يظل مجرد جواب مؤقت، على أسئلة معينة، واردة في سياق معلوم. بمعنى عدم صلاحيته لتأسيس أرضية نظرية، كما هو الشأن بالنسبة لغير قليل من الممارسات النقدية، التي دأبت على اختلاق قوانين ملتبسة، بدعوى استنادها إلى نصوص اعتبرتها «نموذجية» و»جديرة» بأن تكون معتمدة في صياغة أي نص ينتمي إلى المسار نفسه، وهو نوع من الخلط البَين الذي لا يميز بين القوانين الموظفة في تسيير الشأن اليومي، والقوانين الموظفة في تنظيم النصوص الفكرية والإبداعية، التي لا يمكن أن تضبط من خلال قوانين مسكوكة وثابتة، بل من خلال مقاربات متجددة، وموجهة بالرؤية الاحتمالية، حيث يتداخل الشك واليقين.
الجزم والظن. وهما معا، غير منسجمين مع القانون الذي لا يحتمل الشك أو الظن. لذلك، ليس ثمة من نظرية مخولة لأن تتحول إلى قانون، توضع التجارب الفكرية والإبداعية على محكه.
إن إخضاع تجارب إبداعـــية لإجرائية قوانين مستمدة من نصوص مغايرة، تؤدي إلى سحلها، وتجريدها من هــــويتها التي من أجلها خلقت، بوصفها هوية نص يخص تجربة فكــــرية معينة لها صلة محددة بنسق محدد، بالكاد يتجاوزه إلى غيره، وبالتالي فإن تحويلها إلى قانون، يكره التجارب الخاضعة لها على التنازل عن خصوصيتها، كي تتلبس خصوصية النص التي استمدت منه القوانين التي نعتبرها إقصائية، تنفي وتلغي ما عداها.
بمعنى أن كل ذات نصية، هي مطالبة بالبحث عن هويتها، أي عن خطابها المنسجم مع ما تشتغل به من إشكاليات معـــرفية وإبداعية، والنص مهما بدا في عين المتلقي قابلا لأن يتحول إلى نموذج جدير بالتعميم، فإن نسبة كبيرة من شعريته، تظل وفية لصوت ذاتٍ، تمتلك دون غيرها أسرار انحباك خيوطه.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *