خاص- ثقافات
*خليد كدري(*)
اشتركت ثلاث دور نشر عربية، منذ حوالي ثلاث سنوات، في إصدار الترجمة العربية لكتاب ما السياسة؟[1] للفيلسوفة اليهودية الألمانية، الأمريكية الجنسية، حنا أرندت. وقد تعاون على “ترجمة وتحقيق” الكتاب – كما نقرأ في الغلاف – كل من الدكتور زهير الخويلدي وأ. سلمى بالحاج مبروك. ومع أن الكتاب، الذي صدر في أصله الألماني في عام 1993، أي بعد حوالي ثماني عشرة سنة من رحيل الكاتبة، لا يضيف أي جديد إلى معلوماتنا عن أفكار ومواقف تلميذة مارتن هايدغر وصديقته كما تسعفنا بها مؤلفاتها المشهورة، وبخاصة الشرط الإنساني وأصول التوتاليتارية، إلا أن الحرص على ترجمته إلى اللغة العربية يستحق، من الناحية المبدئية، كل التشجيع.
وأقول: “من الناحية المبدئية”، لأن “الشيطان يكمن في التفاصيل” كما يقال. وقد يتعلق جزء من هذه التفاصيل ببواعث المترجم وظروفه ومؤهلاته الفكرية واللسانية. نقرأ في غلاف الكتاب أن المترجمين قاما بتحقيق كتاب ما السياسة؟ علاوة على ترجمته إلى اللغة العربية؛ والحال أن “التحقيق” عمل أنجزته الباحثة والناشرة الألمانية أورسولا لودسUrsula Ludz من أجل الطبعة الألمانية للكتاب الصادرة عام 1993 في ميونخ؛ وهو نفس “التحقيق” الذي اعتمدته الترجمة الفرنسية التي تعامل معها المترجمان العربيان من غير أن يشيرا إلى ذلك! فليت شعري، هل يجهل المترجمان العربيان معنى “التحقيق” أم تراهما يتعمدان تضليل ملايين القراء العرب؟
والحق أقول، لقد قرأت الكتاب فور صدور ترجمته الفرنسية التي أنجزتها الراحلة سيلفي كورتين-دوناميSylvie Courtine-Denamy . وما كنت أنوي الكتابة عن هذه الترجمة العربية لولا اضطرار بعض طلبتي إلى الاستشهاد بها في بعض مذكراتهم عن فكر حنا أرندت. وفيما يلي بعض العينات من هذه الترجمة التي لن نبالغ إذا ما قلنا إنها “إثم” جديد ينضاف إلى سجل آثام طوائف من أشباه المثقفين الذين أفسدوا علينا حياتنا الثقافية:
نقرأ في الصفحة 5 من الترجمة العربية ما يلي:
«بما أن الفلسفة والتيولوجيا تهتمان دائما بالإنسان، ولأن كل تصريحاتهما تكونان دقيقة، حتى عندما يصرحان أنه لا يمكن أن يكون هناك شخص واحد، أو فقط شخصان، أو فقط أشخاص متماثلون، فإنهما لم يعثرا أبدا على أي جواب يكون صالحا فلسفيا لسؤال: ما هي السياسة؟»
وحين نرجع إلى الأصل الفرنسي، نجد:
« C’est parce que la philosophie et la théologie s’occupent toujours de l’homme, parce que toutes leurs déclarations seraient exactes quand bien même n’y aurait-il qu’un seul homme ou seulement deux hommes, ou uniquement des hommes identiques, qu’elles n’ont jamais trouvé aucune réponse philosophiquement valable à la question : qu’est-ce que la politique ? »
وهكذا، يلاحظ القاريء أن المترجمين يقولان النص الأصلي ما لم يقله. فالفلسفة والتيولوجيا [اللاهوت] لا يصرحان، كما نرى، بأنه “لا يمكن أن يكون هناك شخص واحد…إلخ”! كما أنهما يرتكبان أخطاء لغوية عديدة في ترجمة المقطع. وهي ظاهرة لا تحتاج إلى بيان. ويمكن ترجمة المقطع بطرق شتى، منها على سبيل المثال:
«ولما كانت عناية الفلسفة والتيولوجيا تنصب دائما على الإنسان [الكلي]، وحيث إن جميع تصريحاتهما تكون صحيحة، حتى ولو لم يكن هناك سوى شخص واحد، أو شخصين لا غير، أو أشخاص متماثلين فقط، فإن النتيجة التي ترتبت عن ذلك هي أنهما لم يفلحا البتة في بلورة جواب صالح فلسفيا عن السؤال: ما هي السياسة؟»
ومنها أيضا: «لم تفلح الفلسفة، ولا نجح اللاهوت، البتة، في صياغة جواب فلسفي صالح عن السوال: ما هي السياسة؟ والعلة في ذلك تكمن في عنايتهما الدائمة بالإنسان [الكلي]، وفي أن سائر أقاويلهما تكون صحيحة حتى ولو لم يكن هناك سوى شخص واحد، أو شخصين لا غير، أو أشخاص متماثلين فقط.»
وأيضا: «إن العلة في كون الفلسفة واللاهوت لم يفلحا البتة في صياغة جواب فلسفي صالح عن السوال: ما هي السياسة؟ تكمن في عنايتهما الدائمة بالإنسان [الكلي]، وفي أن سائر أقاويلهما تكون صحيحة حتى ولو لم يوجد سوى شخص واحد، أو شخصين لا غير، أو أشخاص متماثلين فقط.»
وفي نفس الصفحة 5، نقرأ:
«نجد عند كل المفكرين الكبار بما فيهم أفلاطون اختلافا في المستوى ما بين الفلسفات السياسية وبقية آثارهم الظاهرة للعيان.»
وحين نرجع إلى الأصل الفرنسي، نقرأ:
« Chez tous les grands penseurs – y compris Platon – la différence de niveau entre les philosophies politiques et le reste de leur œuvre saute aux yeux.»
وهنا يلاحظ القاريء أن عبارة saute aux yeux التي ترجمت ههنا بعبارة “الظاهرة للعيان”، أصبحت، بقدرة قادر، صفة لآثار الفلاسفة، بدلا من أن تتعلق، كما في الأصل الفرنسي، بما سمته المؤلفة “اختلاف المستوى”. أما المعنى المراد، فهو أن “اختلاف المستوى” هذا أمر جلي لا تخطئه العين.
وفي الصفحة 6، نقرأ:
«تبحث السياسة في المجتمع وفي تبادل الاختلافات الكائنة. الأشخاص من حيث هم يوجدون في فضاء مطلق، أو انطلاقا من فضاء مطلق من الاختلافات، ينتظمون وفق مؤسسات ضرورية ومحددة”.»
وحين نرجع إلى الأصل الفرنسي، نقرأ:
« La politique traite de la communauté et de la réciprocité d’êtres différents. Les hommes, dans un chaos absolu ou bien à partir d’un chaos absolu de différences, s’organisent selon des communautés essentielles et déterminées. »
فليت شعري، كيف سمح المترجمان لأنفسهما بترجمة عبارة réciprocité d’êtres différents إلى “تبادل الاختلافات الكائنة” عوضا عن ” تبادل [أو تعامل] كائنات مختلفة“؟ وكيف سمحا لأنفسهما بترجمة كلمةchaos بكلمة “فضاء” بدلا من “فوضى” أو “عماء” أو “كاووس”، إلخ؟
وفي نفس الصفحة 6 دائما:
«طالما نحن نعرف في العائلة أكثر من المشاركة، فإننا نبدأ في لعب دور الله، بمعنى أن نفعل كأنه بإمكاننا مجانسة مبدأ الخروج من الكثرة.»
وحين نرجع إلى الأصل الفرنسي، نقرأ:
« Dans la mesure où l’on reconnaît dans la famille plus que la participation, j’entends la participation active à la pluralité, on commence par jouer le rôle de Dieu, c’est-à-dire à faire comme si l’on pouvait naturaliter sortir du principe de la diversité. »
ويلاحظ القاريء هنا أن عبارة comme si l’on pouvait naturaliter sortir du principe de la diversité قد ترجمت إلى “كأنه بإمكاننا مجانسة مبدأ الخروج من الكثرة”! فأين ذهبت كلمة naturaliter التي حرصت المؤلفة الألمانية – وكذلك مترجمتها الفرنسية –على كتابتها بالحرف المائل لأنها كلمة لاتينية شائعة في الأسلوب الأدبي الرفيع، وتستعمل بمعنى “بالطبع” أو “طبعا” أو “بطبيعة الحال”، إلخ. فكيف تجوز ترجمتها بكلمة “مجانسة”؟
وفي الصفحة 7، نقرأ:
«تمتلك الفلسفة حجتين جيدتين لعدم العثور على مكان ولادة السياسية.»
وحين نرجع إلى الأصل الفرنسي، نقرأ:
« La philosophie a deux bonnes raisons de ne jamais trouver le lieu de naissance de la politique.»
ولا يسع المرء هنا إلا أن أتساءل عن دواعي اللجوء إلى مثل هذه الترجمة “الغوغلية” التي تنطوي، في الواقع، على منتهى الاستخفاف بجمجمة القارئ العربي وبذوقه وبلغته! فهل يجب أن نقابل كلمةraison بكلمة “حجة” أم بكلمة “سبب”؟ ألا يفرق المترجمان بين كلمة raison وكلمة argument؟ والحال أن المؤلفة تقول بكل بساطة: “إن هناك سببين يمنعان الفلسفة من الوقوف على منشأ [أو منبت] السياسة”. فلم نعقد الأمور؟
وفي الصفحة 7 دائما، نقرأ:
«التمثل التوحيدي للإله: الذي يشعر الإنسان أنه قد خلق على صورة الإله.»
وحين نرجع إلى الأصل الفرنسي، نقرأ:
« La représentation monothéiste de Dieu – (du Dieu) à l’image duquel l’homme est censé avoir été créé. »
ويلاحظ القاريء هنا أن عبارة censé avoir été créé ترجمت إلى “يشعر الإنسان أنه قد خلق”، بينما المعنى المراد هو “الذي يفترض أن الإنسان خلق على صورته [الإله]”!
ونقرأ في الصفحة 11، هامش رقم 2:
« انظر في هذه النقطة القراءة الرائعة التي تقترحها حنا أرندت لقضية وقصر كافكا في “فرانز كافكا: إعادة ثورة”: Partisan Review ; 1114 ; automne 1944 ; p. 412422 ; trad/fr. S. Courtine-Denamy, « Franz Kafka » in La Tradition cachée, Paris, Christian Bourgois. 1987, bp. 96-121 (N.d.T)
وحين نرجع إلى الأصل الفرنسي، نقرأ:
«Voir sur ce point la superbe lecture que propose Hannah Arendt du Procès et du Château de Kafka in « Franz Kafka : a Re-evaluation », Partisan Review, 11/4, automne 1944, p. 412-422 ; trad. fr. S. Courtine-Denamy, « Franz Kafka » in La Tradition cachée, Paris, Christian Bourgois, 1987, p. 96-121 [N.d.T]. »
ومن اليسير على القاريء أن يلاحظ طريقة تعامل المترجمين “المحققين” مع بيانات هذا الهامش التي ينقلانها بصورة مشوهة، مثل الإحالة إلى الصفحة 412422! أو إلى “صندوق البريد”، وهذا هو معنىbp. ، رقم 96-121! ثم، كيف يسمحان لأنفسهما بترجمة Re-evaluation بعبارة “إعادة ثورة” بدلا من “إعادة تقويم”؟ إنه أمر مشين أيها الناس!
ونقرأ في الصفحة 13:
«لا أحد مطلقا رأى بصفة واضحة محاولة نيتشه في رد الاعتبار للقوة، وكيف أن هذه الإدانة للقوة تتوافق ضرورة مع الإرادة غير المعلنة للجموع.»
وحين نرجع إلى الأصل الفرنسي، نقرأ:
« Personne n’a vu aussi clairement que Nietzsche, dans sa tentative de réhabiliter la puissance, que cette condamnation de la puissance correspondait nécessairement aux vœux inexprimés des masses. »
وهنا كذلك، نلاحظ كيف يتزيد المترجمان على النص، ويقولانه ما لم يقله؛ فهذا الأخير لا يقول “لا أحد رأى بصفة واضحة محاولة نيتشه”، وإنما يقول: “لا أحد رأى بوضوح مثلما رأى نيتشه”. والفرق بين العبارتين لا يحتاج إلى بيان!
وفي الصفحة 79، نقرأ:
«غير أن ما هو بالتحديد خاصية لهذه الصيرورات، أن الكل مثل صيرورة محرك منفجر، يقود ضرورة إلى انفجارات، لنتحث بطريقة تاريخية يقود إلى كوارث، كل واحدة من هذه الانفجارت أو الكوارث تدفع في كل الأحوال إلى الأمام الصيرورة ذاتها.»
« Or ce qui est précisément caractéristique de ces processus, c’est que, tout comme le processus d’un moteur à explosion conduit essentiellement à des explosions, ils conduisent historiquement parlant à des catastrophes, chacune de ces explosions ou de ces catastrophes propulsant toutefois vers l’avant le processus lui-même. »
ونلاحظ هنا أن كلمة processus تترجم مرارا بكلمة “صيرورة” بدلا من “سيرورة”. ولعلنا في غنى عن التذكير بأن كلمة “صيرورة” تقابل devenir ؛ أما مقابل processus، فهو “سيرورة”. أليس ذلك من أبجديات الترجمة؟!
أكتفي بهذه المصائب..وفي الختام، أهيب بالمترجمين والناشرين إلى أن يقوموا بما تمليه عليهم ضمائرهم في مثل هذه النازلة. وأقل ما ينبغي لهم أن يفعلوه هو أن يسحبوا هذه الترجمة من السوق. وأقول لهم: اتقوا الله في لغتكم وفي ثقافتكم، وفي ملايين الطلبة والقراء العرب الذين يضطرون إلى قراءة هذه المترجمات. لقد طفح الكيل…
(*) كاتب وباحث أكاديمي من المغرب.
هوامش:
[1]- حنا ارندت، ما السياسة؟، ترجمة وتحقيق الدكتور زهير الخويلدي وأ. سلمى بالحاج مبروك، الرباط/الجزائر/بيروت-لبنان: دار الأمان، منشورات الاختلاف، منشورات ضفاف، ط. الأولى، 2014، 136 صفحة.