*كمال عبد اللطيف
تزداد حاجة الثقافة العربية اليوم، إلى أطروحات ومواقف المفكر المغربي عبد الله العروي. ولا شك في أن كثيراً من صوَّر الإنكفاء والتردد التي تتدافع اليوم في ثقافتنا، تكشف أهمية الإنخراط في تبني خياراته في الفكر وفي التاريخ العربيين.
يعرف المتابعون لخطوات منجزه النظري، في أبعاده وتجلياته المختلفة، أنه لا يساوم ولا يتردد، يُشَخِّص عِلَل وأعطاب الثقافة والمجتمع ليبني جملة من الخيارات، استناداً إلى التاريخ في تحوُّلاته المختلفة. إنه لا يقبل أن تتحول الخصوصية ومقتضيات الهوية إلى كوابح مانعة لبناء تاريخ مفتوح، على ذاته وعلى العالم.
ركَّب العروي مشروعاً في الفكر يفضي إلى ما أطلق عليه تصالح الذات مع ذاتها المتحولة في التاريخ، وهذا التصالح لن يتم في نظره، دون تصالح الذات أيضاً مع العالم، حيث يصبح بإمكانها في ضوء الوعي بالتصالح الأول والثاني، إعادة بناء المقوِّمات والأسس التي تكفل لها تجاوُز تأخرها، وتفتح أمامها دروباً جديدة لتحقيق طموحاتها التاريخية.
حافظ العروي طيلة حضوره الثقافي المتواصل في الفكر العربي المعاصر، على روح خياراته في الفكر والسياسة والتاريخ، وقد حرص على التفكير في مختلف مآزق وأزمات الفكرالعربي، من منظور تؤطِّره فلسفات في التاريخ تسلم بواحدية التاريخ الإنساني، رغم تناقض وتعدُّد مساراته. وفي هذا الباب بالذات، لا يخلط العروي بين منطق الصراع السياسي القائم والمتحدِّد في العالم، وبين وحدة المصير الإنساني في عالم واحد متعدِّد ومتنوِّع.
يشتغل عبد الله العروي في الجبهة الثقافية، إنه يفكر في قضايا التحوُّل السياسي والتاريخي في العالم العربي، وينتج مواقف وخيارات. وقد اهتم بصورة خاصة بمفاهيم ومقدمات الحداثة السياسية، حيث عمل على إصدار سلسلة من كتب المفاهيم، من قَبِيل الحرية والدولة والتاريخ والعقل، الأمر الذي أتاح له تشخيص جوانب من مفارقات الوعي السياسي العربي، ومحاصرة الفكر المحافظ، الذي لا يعير أدنى اهتمام لمقتضيات التغير والتطور.
يواصل العروي منذ نص العرب والفكر التاريخي الصادر سنة 1973، إلى كتاب السنة والإصلاح (2008)، إلى مترجماته الأخيرة، يواصل معركة نقد نزعات التوفيق والانتقاء، القديم منها والمستجد. إضافة إلى ذلك، نتبين في نصوصه الجديدة، ونقصد بذلك المقدمات التي أعدَّ لترجمته لكتاب منتسكيو تأملات في تاريخ الرومان، أسباب النهوض والانحطاط (2011)، أو لنص روسو دين الفطرة (2012)، وعيه الحاد بصعوبة المعركة التاريخية والسياسية والثقافية القائمة في العالم العربي، الأمر الذي يدفعه إلى مواصلة جهوده دون كَلَل، بهدف إنجاز ما يمكننا من تفتيت سقف الممانعة التاريخية الإسمنتي، وفتحه على سماء أكثر رحابة.
يتغنى العروي في كتاب “مفهوم العقل” (1996) بالقطيعة كفعل تاريخي مطلوب وممكن، ويحاول البرهنة على لزومها متمماً ما سبق أن أعلنه في أزمة المثقفين العرب (1970)، يتعلق الأمر بإيمانه بإمكانية حصول الطفرة في التاريخ، حيث تعمل الذات على إعادة بناء ذاتها، انطلاقاً من التصورات التي تحملها عن المستقبل، ذلك أن التاريخ في نظره، محكوم بمنطق الاستيعاب والتجاوز..
لا مجال إذن للتراجع في نظر العروي عن مطلب القطيعة، إنه يدرك بحكم تكوينه التاريخي وإيمانه بالتقدم، حصول القطيعة المادية الملموسة، التي يعكسها تطور مظاهر المجتمع وتطور مؤسساته. لكنه يقرأ في الانقطاعات المادية والمجتمعية الحاصلة صورة الفعل التاريخي المنقوص والمثغور، حيث لا يمكن حصول القطيعة الشاملة، والطفرة النوعية، والثورة الكبرى إلا بإسناد القطائع المادية بالفكر اللاحم والمؤسس لحصولها، الفكر القادر على تحويل الوعي بها إلى وعي قادر على الحد من التراجعات المحتملة الحصول.
يواجه العروي في بعض مؤلفاته سؤال العناد التاريخي، سؤال استمرار الإخفاق السياسي، وسؤال عودة النزعات السلفية إلى فضاء الفكر العربي المعاصر، وأثناء مواجهته لهذه الأسئلة، يواصل دفاعه عن اختيار الحداثة باعتباره الخيار الأكثر تاريخية والأكثر نجاعة في زماننا.
لا يعني هذا أن العروي مجرد مفكر متغرب وتغريبي، رغم أنه لا يتحرج من مثل هذه النعوت، وقد بلغ به الأمر في هذا الباب، درجة قبول أن ينعت مرحليا بالمثقف التابع، إنه في نظرنا يتجاوز نمطية الدعوة التغريبية كما تبلورت في الأدبيات السياسية العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ليتجه صوب مجال التأصيل الفكري، أي صوب مجال إبداع آخر الذات، هذا الآخر الذي لم يعد يقع خارج الذات، بل أصبح بفعل عوامل التاريخ عنصراً قائماً في الذات، رغم نكراننا له وعدم اعترافنا به..
يدافع العروي باستماتة عن التاريخي والنسبي والعقلاني، من أجل أن يتمكن العرب من تملك ما يسعفهم بالقدرة على التنفس ضمن مناخ يعاصرونه بأجسامهم ويتيهون عنه بعقولهم. إنه يدافع عن مبدأ استيعاب ما يطلق عليه “المتاح للبشرية جمعاء”، باعتباره يشكل اليوم كما كان يشكل بالأمس مطلباً ضرورياً ومستعجلاً. إن استمرار تأجيل هذا المطلب في ثقافتنا ومجتمعنا، يقتضي منا أن نقطع مع التقليد والتقاليد، ويضاعف مآزقنا التاريخية، ولعله يجعلنا عرضة لتنافس القوى العظمى، الصانعة والموجهة للأحداث في التاريخ.
_______
*ضفة ثالثة