*أبو بكر العيادي
انطفأت الأديبة الفرنسية مارغريت دوراس عام 1996، ولكنها لا تزال حاضرة بنصوصها المسرحية والأدبية وبمئات من المقالات والحوارات والريبورتاجات الصحافية فضلا عن الأفلام.
مئوية مولدها، التي تصادف هذا العام، مناسبة لتكريم روحها من خلال عشرة عروض، مستوحاة من أعمالها السينمائية كـ”تنويعات في حبيبتي هيروشيما” أو من حياتها “دوراس، الحياة التي تمضي” في قصر دوراس، أو مستخلصة من حوارات كانت أجرتها مع أعلام السياسة والفن والفكر كـ”أنا ومارغريت” في مسرح بلفيل بباريس، وإما من تأليفها مثل “خليج سافانا” في مسرح الورشة بباريس.
ولدت مارغريت دوراس، واسمها الحقيقي مارغريت دوناديو، عام 1914 بسايغون في ما كان يعرف بالهند الصينية، وتوفيت في باريس عام 1996. أي أنها كانت شاهدا على تقلبات القرن العشرين وفظائعه، خاضت مع مثيلاتها نضالا كبيرا، كعضو في الحزب الشيوعي قبل أن تنسلخ عنه، ثم كصحافية تتابع المستجدات وتحلل أبعادها ومراميها، ومثقفة ترصد التحولات المجتمعية بعين عليمة، سواء في الهند الصينية (فيتنام حاليا) حيث عاشت ردحا من الزمن، أو في فرنسا ومطالبَ شعبها التي لا تنتهي، وتصورها بوسائل الفن والأدب في لغة شعرية شفافة، بسيطة في ظاهرها عميقة في معانيها، ممّا بوّأها مكانة مرموقة في الساحة الثقافية الفرنسية، حتى صارت أيقونة أو أسطورة، في حياتها وبعد مماتها. يعتبرها النقاد روائية ذات أسلوب متفرّد، ومؤلفة مسرحية عالمية، وصحافية مشاكسة لا تهاب محاورة الكبار من رجال السياسة، مثل فرنسوا ميتران، الرئيس الفرنسي الأسبق، ومثقفة حقيقية لا تتوانى الخوض في شتى قضايا عصرها، الفكرية منها والسياسية والاجتماعية على حدّ سواء، تناصر الفقراء وتدافع عن حقوقهم، وتعبّر عن كل ذلك في أعمال متنوعة، كلل أحدها، وهو رواية “العشيق” عام 1984 بجائزة غونكور، ونالت الرواية رواجا عالميا بعد أن وقع تحويلها إلى شريط سينمائي. من أقوالها: “ما يوجد في الكتب أكثر واقعية مما عاشه الكاتب” لأنها تعبّر في كتاباتها عن الفرد بصيغة الجمع، وتعلي، برغم النوائب والكوارث والنكبات التي تهزّ المجتمع، الحبّ كقيمة مثلى. يتجلى ذلك في رواياتها “الرجل الجالس في الرواق” و”الألم” و”ظهيرة السيد أنديسماس″، كما في مسرحياتها كـ”مرض الموت” التي تدين من لا يعرفون كيف يحبون، و”الوحش في الغابة” التي تصوّر رجلا وامرأة لم يبوحا بحبهما بعضهما بعضا في الوقت المناسب، فعانيا من ذلك ألما وحسرة، وخصوصا “أغنية هندية” و”خليج سافانا” التي يعاد عرضها الآن في مسرح الورشة بباريس، من إخراج ديدييه بيزاس.
هذه المسرحية دخلت التاريخ كخلاصة لمسرح دوراس، منذ أن أعدتها المؤلفة وأخرجتها بنفسها عام 1983، وأسندت دوري البطولة فيها إلى مادلين رونو وبول أوجييه، إذ عدّها النقاد عملا مكتملا من جميع النواحي، بفضل تضافر قدرات النسوة الثلاث، اكتمالا رسخ في أذهان كل من شاهدوها، مثلما وضعوا دوراس في عداد المسرحيين الكبار مثل صامويل بيكيت. لإعداد عمل يفوق، وفي الأقل يعادل ذلك العرض الأسطوري الأول، استند ديدييه بيزاس إلى ممثلتين قديرتين هما العملاقة إيمانويل ريفا (87 سنة) التي فازت عام 2005 عن دورها في شريط “حب” للنمساوي ميكائيل هانيكه بعدة جوائز فرنسية وعالمية، وآن كونسينيي التي حازت عام 2011 جائزة مهرجان الفيلم التلفزي، مثلما استند إلى صيغتي النص الأصليتين اللتين ألفتهما دوراس.
ثيمة “خليج سافانا” هي الحب كجريمة، كحرقة، كما يتبدّى على صفحة مرآة الجمال والشيخوخة. هي لقاء يجمع مادلين العجوز التي كانت ممثلة مسرح وامرأة في مقتبل العمر لا اسم لها غير “المرأة الشابة” تتجاذبان الحديث بلغة شعرية شفافة تذكر ببعض مسرحيات جان جينيه، وتستدعيان أشباح الحب والموت التي سكنت ذاكرتيهما، خصوصا ذاكرة مادلين، التي تروي قصة حب انتهت بموت امرأة شابة وهي تضع مولودها، حدث ذلك قبل عشرين عاما، على ضفاف خليج سافانا. وعاشت المرأتان، الجدة والحفيدة، في ألم عميق تحاولان محوه وتجاوزه، ربما بالبحث عن حب جديد، حب من نوع آخر، قد ينشأ بينهما قبل مجيء الموت. والكاتبة تستدعي ما يعذبها هي شخصيا، كما هو الشأن في سائر أعمالها السردية والمسرحية، وتضفي عليها من الأقنعة والأفكار وتلبسها لبوس الشعر ما يجعلها إنسانية كونية، والمعلوم أنها فقدت مولودها عام 1942، وعانت من ذلك ألما وحسرة، لا يظهران إلا في أعمالها الفنية، لأنها، كما قالت إيمانويل ريفا، “كرة من نار مشفوعة برقة الرماد”.
_____
*العرب