أيمكن أن تراني الآن ؟

خاص- ثقافات

*تأليف : توم جيليسبي/ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

      ” والآن على إذاعة بي بي سي الأولى ، حان الوقت للنقاش على الهواء مباشرة مع كيلوري ، يتضمن البرنامج اليوم حوارا صريحا عن الآثار التدميرية لمرض البواسير التي يعاني منها بعض المشاهدين “.

     أطفأ كاسي جهاز التلفزيون وشغل على الفور المكنسة الكهربائية ، يحب كاسى الأعمال المنزلية إنها بمثابة علاج ، فهي تساعده على الابتعاد عن التوتر والضجر الذي يسببه الوجود في المنزل طوال اليوم ، في البداية ألقى بنظرة فاحصة على غرفة المعيشة ، ثم بدأ عمله من الصالة إلى غرفة النوم ، وبعد الانتهاء من الكنس شرع في تنظيف الحمام ، يجب أن يجعل هذه الأشياء الصغيرة نظيفة ، في كل مرة بعد أن ينتهي عادة بشرب سلطانية كبيرة من شراب النخالة وهو ينظر شذرا إلى العالم العجيب عبر برنامج التلفزيون اليومي ، ولكن كاسى اليوم كان مجهدا ، شعر بثقل المكنسة على ذراعه ، بالكاد استطاع أن يدفعها عبر أكوام التبغ في غرفة النوم ، في الفترة الأخيرة لم يستطع النوم جيدا ، فقد بدأ الألم يدق رأسه ، بعض الشراب والحركة عادة ما يجعلانه مثل الطفل ، ولكن الآن لا شيء يبدو أنه سيجدى ، أطفأ المكنسة وارتمي فوق السرير .

    ” آي . هذا حق ، اذهب إلى النوم الآن  أيتها الخرقة ” ولكنه اندفع وذهب إلى الحمام ، جهز الحمام وخلع ملابسه ونزل في الماء الدافئ ، الشعور جيد ، لوهلة نام تماما وترك عقله خاليا ، كل الشوشرة والغضب خلال الشهور الأربعة الماضية ذابت في الماء ، بعد الحمام حلق ذقنه ونظف أسنانه ، حملق في صورته في المرآة ، وعلى الرغم من تورد وجهه من الحمام الدافئ بدا عجوزا ، الغضون في وجهه صارت أعمق من العادة وبدت عيناه غائرتين ومطفئتين ، ارتدى ملابسه وذهب ليبحث عن بعض الشراب .

     بعد الإفطار مباشرة خرج كاسي لإعادة ملء ماكينة السجائر وشراء صحيفة ، كان شارع دوك يعج بالحركة مثل خلية النحل ، شعر كاسي بالارتباك قليلا  وحاول أن يركز انتباهه على المحل لكي يعود إلى المنزل بأقصى سرعة ولكنه في الطريق التقى مصادفة ببج تشاز ، وبج شاز من ذلك النوع من البشر الذي يمكن أن تقول عنه مولع بالكذب أو كذاب بالإكراه ، وهذا لم يؤهله فقط لأن يظل فوق العشر سنوات في غليان ومكائد ، ولكن جعله أيضا بلا زوجة أو عائلة أو أصدقاء فيما عدا كاسي .

      ” اللعنة على جميع البشر “

     غمغم كاسي بمجرد أن اقترب  تشاز منه ، بدأ شاز على الفور فى الحديث عن وظفيته الجديدة في مجزر وغالبا ما يكون تشازوغدا معتوها في أحسن الأحوال ولكنه يبدو اليوم أنه قد فقد السيطرة على نفسه تماما ، كان من الممكن تحمله ، ولكن كاسي لم يستطع أن يعالج الأمر ، فكان فقط يهز رأسه ويتظاهر بالاستماع ، وبمجرد أن غادر شاز المكان ، استطاع كاسي أن يتذكر شيئا مما قاله ، كان عن قطع الحلوق والمناشير المسننة ولا يعرف إذا ما كانت هذه الأشياء تخص العمل أو أن تشاز جرى بها إلى البوليس وعندما عاد كاسي إلى الشقة ، أغلق الباب مستخدما جنزير الأمان هذه المرة .

     كان الوقت يقترب من موعد الغداء ، لذلك فتح كاسي علبة من الفول ، وضع الغلاية على النار ، وعندما غلت خطى إلى التلفزيون ليشاهد حلقة اليوم الأولى من مغامرات مثيرة في أرض الصابون ، وبعد أن قرر براد وكين أن يكشف كل منهما حبه للآخر ، وأعلنت المنافسة الناجحة لباربي ، أخذ كاسي الريموت وخرج به إلى القناة الرابعة ، وبينما كان يتابع المراهنة الصغيرة على البانوراما في الثالثة والنصف فوق دريس نبات الحميض رن جرس الباب ،

    ـ من هذا الملعون ؟ آمل ألا يكون الملعون تشاز ؟

فكر كاسي ، لم يكن يتوقع مجيء أي أحد ، لا يمكن أن تكون شارلي لأنها الآن في   تنيريف  في فيلتها الجديدة ، كما أنه ليس من المؤكد أن يكون عامل حمام السباحة ، لأنه غالبا ما يأتي ليلة الجمعة ، لذلك فكر أن يتجاهل الأمر كلية ، ولكن عند ذلك عاد الصوت من جديد ، وبإلحاح كبير هذه المرة .

    ـ أوه إكراما للمسيح

     تنهد كاسي ونهض ليفتح الباب ، أمام الباب كان هناك شخص ضعيف يبدو أنه في الخمسين من العمر وكان يحمل حقيبة ضخمة مما جعله يبدو أصغر من حجمه المعتاد ، في البداية وقف كاسي وأخذ يتأمله ، ثم قال أخيرا :

    ـ نعم ! ماذا تريد ؟

     وضع الرجل الضئيل حمله على الأرض ، ثم مد يده إلى جيب معطفه المتهدل ، فأخذ كاسي خطوة إلى الخلف متوقعا الأسوأ .

    ـ اسمح لي أن أقدم لك نفسي ، اسمي بوك مك  مكفيرسون أعمل في أعمال الأمن

     بعد أن قال ذلك مباشرة أخرج ما يبدو أنه كارت وظيفة ، أخذ كاسي الكارت وألقى عليه نظرة سريعة ، إنه واحد من الكروت الرخيصة التي يمكنك أن تحصل عليها عبر المكتبات في محطات البنزين ومكاتب البريد وكان مكتوب فيه :

 روبرت د. ماك فيرسون

 مراقبة تأمين البيوت

 كل احتياجات تأمين المنزل.

 حاول كاسي أن يخفي ابتسامة وقال :

    ـ لست مهتما بهذا الأمر على أية حال .

     تلعثم الرجل ، ثم أضاف :

    ـ هل تعلم أن عدد اللصوص في هذه المنطقة وحدها قد زاد بنسبة 45 % في هذه اللحظة التي تقف فيها أمام بابك وبينما أنا أتحدث إليك هناك بيت لشخص ما في الضاحية الشرقية يسرق الآن .

      ثمة إشارة من الألم في صوت الرجل ، لم يستطع كاسي أن يعرف إذا كان الرجل معتوها أم مصابا بالعوز الشديد ، أيا كان الأمر ، بدا كاسي يشعر بالأسف للرجل ، وقال :

    ـ أخشى ألا أكون في حاجة إلى أجهزة إنذار أو ترابيس أمان لنوافذي .. لأنني أراها جيدة .

    ـ أوه .. لا .. يا سيد ..

   توقف الرجل للحظة ، منتظرا من كاسي يذكر أن اسمه ، ولكنه لم يقل شيئا ، فواصل الرجل :

   ـ أنا لا أبيع أجهزة إنذار أو شيئا من تلك الأشياء المرتفعة الثمن .

   ـ حسنا ولكني أدرك أنك تبيع شيئا .. أشياء صغيرة خزف ، أجهزة تأمين ، إنذار حرائق ، إنذار دخان ،.. أثنان لكل وجبة واحدة لكل آلة حاصدة .. أدوية .

    أهنف الرجل ، وبدا كاسي يشعر بالراحة

    ـ أوه .. لا .. أحب أن أقدم لك واحدا من أرخص وأعظم أجهزة أمان البيت قوة في السوق .

    ـ كلب ؟ ألديك كلب في هذه الحقيبة ؟

    ـ عين سحرية بزاوية 180 درجة .

     عند ذلك فتح الرجل الحقيبة وأخرج منها شيئا زجاجيا صغيرا يشبه العين ، وقدمه لكاسي الذي فحصه بدوره بعناية .

    ـ فقط سعره ثلاثة دولارات، يمكنك أن تحمي به منزلك من أي اعتداء أثناء الليل أو النهار .

    ـ صغير .. تقصد كالآن ..

     قال كاسي متهكما ، فحاول الرجل أن يتجاهله واستمر يقول :

    ـ والبيع يشمل التركيب مجانا

    ـ ماذا ؟ تقصد أن شخصا ما يجب أن يأتي ويركب الجهاز .

    ـ أو .. لا أستطيع أن أقوم بذلك عند البيع

    عند ذلك فقط أدرك كاسي الحقيقة ، تفكر في ذلك للحظة ، إنه شخص ما على الأرجح مثله تماما ، إنه مثل طائر فقير يحاول أن يكسب قوته بشرف .

    ـ أوكي .. ركب هذه الآلة في الباب

     تألق وجه الرجل وخطا إلى داخل الشقة

    ـ لقد اتخذت القرار الصحيح يا مستر ..

    ـ ادعوني كاسي .

    ـ مستر كاسي .. لم يكن مهتما جيدا تلك الأيام .

     أنزل الرجل الحقيبة على الأرض وأخرج منها مثقابا ، إنها كبيرة ، مثل تلك التي يستخدمها البناءون في عمل الأحجار الثقيلة .

     قال كاسي ساخرا :

     ـ هذه كبيرة .. أنت متأكد أنها لن تتلف الباب ؟

     ـ لا تقلق يا مستر كاسي .. معي في حقيبتي كل المرفقات السليمة .

     حاول كاسي مرة ثانية أن يخفي ضحكته

     ـ أتحب أن تشرب كوبا من الشاي يا عزيزي ؟

     ـ كادت أن تحطمني .. أربعة ملاعق سكر وبعض اللبن ، ودون أن أزعجك قطعتين من البسكويت .. وموصل كهربائي لهذا المثقاب .

     عندما دخل كاسي المطبخ بدأ المثقاب في العمل ، في الأول بدأ الصوت هادئا ، ثم انفجر عويل شاذ ، وعند ذلك دار في أنحاء الشقة ليصل إلى جمجمته كالفأرة ، كان الصوت عاليا جدا لدرجة أن كاسي فكر أن يترك الشقة ، وجد من الفضل أن يعمل الشاي ، وعندما عاد وجد الرجل العجوز في الجانب الآخر من الباب ، كان يدق يعنف على المثقاب وكانت رأسه وذراعه تهتزان في نفس الوقت مع ثورة الدق .

    صاح العجوز :

    ـ آه .. أعتقد أن رأسي تكاد تنفلق .

     هز كاسي رأسه بالموافقة وابتعد ، الآن يمكنه أن يضحك دون أن يسمعه الرجل ، أخيرا انتهى الرجل من الثقب ، فوضع المثقاب جانبا ثم دفع العين الزجاجية في الثقب الجديد الذي برز في الباب .

    ـ هنا يمكن ..

     قال ذلك متفاخرا بينما تنزلق حبات العرق نازلة من جبينه .

    ـ الآن يا سيدي أحتاج إلى مساعدتك لدقيقة واحدة .

    أخذ شفطة من الشاي وقطعة من البسكويت ثم خرج ليقف أما السلم القريب

    ـ الآن يمكنك أن تغلق الباب

    ـ ماذا ؟

    ـ اغلق الباب ..

 أغلق كاسي الباب وانتظر الأمر الثاني .

    ـ يمكنك أن تنظر عبر العين السحرية الجديدة لبابك وتخبرني إذا كنت تستطيع أن تراني .

     انحنى كاسي ليتمكن من النظر عبر العين الزجاجية ، لقد ثبتها الرجل لتكون في مستوى عينيه ، وعلى كاسي أن ينظم طوله طبقا لذلك المستوى . نظر خلال الطرقة .

     ـ هل تستطيع أن تراني ؟

     كان الرجل يقف مباشرة أمام العين

    ـ نعم .. أستطيع

     صاح كاسي ، بدا وجه الرجل غريبا مثل سمكة سلمون مشوهة الخلقة ، رجع الرجل للخلف ووقف على الأرض المقابلة للباب

    ـ هل تستطيع الآن أن تراني ؟

    ـ نعم أستطيع .

     عندئذ قفز فجأة إلى أعلى السلم بجوار باب كاسي .

    ـ والآن هل تستطيع الآن أن تراني ؟

    ـ نعم أستطيع

     حرك رأسه للخلف وللأمام واليمين واليسار

    ـ والآن ؟

    ـ نعم .

    ـ والآن ؟

    ـ نعم .

    ـ والآن ؟

    ـ نعم

     وفي الأخير اختفى الرجل تماما

    ـ وماذا عن الآن ؟

    ـ لا .. أنت غير ظاهر كلية .. أين تكون ؟

     قال كاسي ذلك بإشارة صامتة ، ثم كرر :

    ـ لا .. أستطيع أن أراك الآن .. أما زلت هناك ؟

     بدا لكاسي أن الرجل قد غادر المكان ، ففتح الباب ليجده مقرفصا على الأرض أسفل العين السحرية .

    قفز كاسي إلى الخلف من شدة المفاجأة ، ثم قال بأدب :

    ـ حسنا ..

  • مجرد مزحة صغيرة هنا .

     وأضاف مبتسما :

    ـ هل تعتقد أنه استثمار جيد  ؟

    ـ أوه .. نعم .. قطعا  .. لم أكن أشعر بالأمان بدون واحدة مثل هذه الآن .

     عند ذلك التقط الرجل عدته ، وهو ينتهي من شرب الشاي ، ثم شكر كاسي لما قدمه له ، ونزل على السلم ليبحث عن بيعته القادمة .

    ـ مع السلامة .

     صاح كاسي خلفه ، وسمع عواء الرجل بضحكه .

. فى وقت لاحق بعد أن انتهى كاسى من تنظيف الحمام ،   ألقى كاسي نظرة أخرى إلى العين الرخيصة الثمن وقال لنفسه وهو ينظر بحدة عبر العين السحرية .

    ـ الرجل على حق .. أنت لم تكن أبدا حذرا تماما .

المؤلف : توم جيليسبى ) Tom Gillespie (  كاتب أسكتلندى نشأ توم جيليسبي والمعروف كذلك باسم :  توم ريد/ Tom Ried في بلدة صغيرة خارج جلاسجو. و بعد حصوله على درجة  الماجستير في اللغة الإنجليزية من جامعة جلاسكو، أمضى السنوات العشر التالية يعمل فى مجال الغناء والموسيقى مطربا وكاتبا للأغانى وملحنا أيضا  حيث قام  بجولة في انجلتر وأوروبا مع فرقته. وهو يعيش الآن في باث  مع زوجته وابنته ، حيث يعمل في الجامعة محاضرا أكاديميا للغة الإنجليزية.يكتب جيليسبى القصة الطويلة والقصيرة على السواء ، وقد نشر معظم قصصه القصير ومنها هذه القصة  المترجمة  فى موقع / www.eastoftheweb.com  وللمؤلف  مجموعة من القصص القصير تحت عنوان : القط المقوس ، ورواية بعنوان : الطلاء بالأرقام ، ويعد الآن روايته الثانية ومجموعة  جديدة من القصص القصير .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *