*هيثم حسين
يتأرجح العراقيّ فاروق يوسف في كتابه “رسوم نهارية ومسافر نائم” بين ذكرياته، وخيالاته عن عصره، إذ فرضت عليه تنقلاته الاضطراريّة والاختيارية كلاجئ في أوروبا، أن يظلّ معانياً غربته المتعاظمة في وجدانه، محاولاً التأقلم مع زمنه وأمكنته الجديدة عبر الكتابة.
لا تتبدّى يوميّات يوسف كمحاولة للاقتصاص من التاريخ، أو إدانة الظروف التي أفضت به إلى واقع اللجوء والنفي والاغتراب، بل تكون مفعمة بالشوق إلى تفاصيل ماضٍ غابت في بحر التغييرات العاصفة التي أفضت إلى فجائع لم تتوقّف دوائر تأثيراتها عن الاتّساع تباعاً. يعود إلى ذاك الفتى العاشق الذي كانه ذات يوم في بغداد، مسترجعاً صورة المدينة التي لم تبرح خياله.
يقسم يوسف كتابه إلى ثلاثة أقسام: “أتذكّر لأنسى”، “وقائع متجاورة”، و”ثلاث ملاحظات في الكتابة”. يتقاطع عنوان “أتذكّر لأنسى” مع عنوان كتاب “ذاكرة للنسيان” للشاعر الراحل محمود درويش. يلجأ إلى التذكّر كفعل مؤدٍّ للنسيان، يسبغ عليه معنى نقيضاً من خلال جعله مدخلاً يودي به إلى النسيان، أو ذريعة تفضي به إلى عالم النسيان الذي قد يكون مريحاً بصيغة ما، لكن ذاك النسيان المأمول يبدو متعذّراً في واقع الحال، لأنّ الكاتب يعيش أدقّ التفاصيل ويسترجع كثيراً من الذكريات التي لا تهادن النسيان ولا ترضخ له.
عادة ما يكون التذكّر لتثبيت الذكريات، لكن للتذكّر هنا دور نقيض، كأنّه يتماهى مع انقلاب الأدوار الممارس في البلد عموماً، وتراه يعود بالكاتب إلى ماضيه مستحضراً جمالياته الساحرة، وبساطته المثيرة، في سياق رسم مشهد معبّر عن حاله وحال بلده، ويكون الرسم المفترض بالكلمات التي تكون وسيلة الشاعر الناقد المسكون بولعه بالخطوط والإشارات والرسوم والرموز.
يعيد يوسف لازمته بالعودة إلى المكان؛ سوق الدجاج، والحرب الحاضرة المتفاقمة كجرح غائر ووباء مستفحل. وكلّ مرة حالة مختلفة تزداد فجائعية ومأسوية. يكون سوق الدجاج الشعبي المستعاد ذا دلالات مكانية وزمانية أليمة. تراه يصف انشطار الشخصية وتشظيها، وكيف يصل المرء إلى مرحلة يحدث فيها قرينه ويعترف له بائحاً بهواجسه ووساوسه ومخاوفه، يكون حديث الذات للذات كحديثها للآخر، يستبطن جرأة المواجهة والمغامرة بالقول، يصف حروباً طاحنة على مختلف الجبهات، وفي مختلف الذوات. يقول: “إن صورنا اليوم في المنافي تظهر عجزنا عن تركيز النظر في مرآة واحدة. يمكننا دائماً أن نرى بطريقة جانبية. نختلس النظر لكن لا نجرؤ على النظر المباشر إلى مرآة واحدة”.
يوسف، وهو الناقد الفني الذي نشر أكثر من بضعة كتب تتناول عوالم الرسم والفن التشكيليّ، يتنقل بين متاحف العالم، يقرأ لوحاتها وجمالياتها، يغرق في أركانها ويخرج اللوحات المعلقة من أطرها ليمنحها حياة مكتوبة عبر تخييله مناجيات ذاتية معها، أو تقصي حكاياتها وأصحابها، وكيف لعبت أدواراً في حياتهم وبلورت صورتهم بالصيغة التي وصلت إلينا.
يتذكر أنه كان قد درّب نفسه على النسيان. تمارين شاقة مارسها لكي يكون مستعدّاً لتحمل عبء نهار عراقيّ جديد. كان يظنّ أن تلك السلسلة الخيطية لن تنقطع، غير أنه شعر فجأة بأنه حين يلتفت لا يرى إلا سراباً. صار عليه أن يتذكّر من أجل أن يصدّق أنه عاش تلك الحياة، وأن تلك الحياة كانت موجودة حقاً. غير أنه لا يتذكر إلا حين يكتب. يتساءل: “ما معنى هذا؟ صار التذكّر نوعاً من التأليف. فأنا في الحقيقة أكتب عن حياة عاشها شخص آخر”.
الحرب بالنسبة للكاتب ما زالت مستعرة، هو الذي يحمل تناقضات كائن الحرب والمنفى واللجوء في وجدانه، يؤكد على فكرة رحيل أبناء الحرب وأبطالها معها، وأن على من يذهب إلى الحرب، ألا يفكّر بالعودة، وحين تنتهي الحرب فإنه يذهب معها. يتذكّره الآخرون باعتباره بطلاً، لكن ليس من حقّه أن يكون حياً. يكتب: “البطل لا يُرَى إلا من خلال حكايته. في إمكان ظهوركَ أن ينسف الحكاية، ويهدّد خيالها. لذلك فإن الحرب، لمَن شارك بها، لن تنتهي أبداً. الذي يطوي صفحة الحرب هو المنتصر. ولن يكون ذلك الشخص مقاتلاً. فالحرب بالنسبة إليه ما هي إلا صنعة مجانين وعبيد”.
في فصل “خرجوا من ثقب الإبرة” يستذكر يوسف حديثه عن البرابرة وتصوّراته عنهم، وكتابته الاستشرافية بين العامين 1991 و1997 حين كان يكتب رسائل إلى أصدقائه، مكتظّة بذِكْر برابرة، لم يُولَدوا بعد. وأن البشرية كلها كانت في ظلّ الظُّلم الذي وقع على العراق تستعيد عصرها البربريّ الزاهر. يقول: “إذا ما كان العراق قد عاش، عبر عقدَين من الزمان، تجلّيات البربرية كلها، فإن بربرية مثقّفيه القادمين إليه برفقة المحتلّ كانت هي الأقسى. يتمنّى المرء لو أنهم ماتوا من أجل أن يحتفظوا بكرامتهم، ومن أجل أن يحتفظ العراق بذكرى نظيفة لأبنائه في المنافي. للخيانة رائحة عفنة. درسُ البرابرة كان قاسياً”.
يحضر نوع من رثاء الحاضر والمستقبل معاً في يوميات فاروق يوسف، ويبلغ الأمر ذروة فجائعية بقوله: “حين تنتهي الحرب، سنعود إلى بلادنا.. لكن، متى تنتهي الحرب؟ قل لي أين تقع بلادنا، لأقول لك متى تنتهي الحرب”.. ويكون التأكيد على دوام الحرب برغم غياب اندثار المكان وغياب ملامحه وأهله: “كنّا نتحدّث عن الحرب، في سوق الدجاج. في سوق الدجاج، كنّا نتحدّث عن الحرب. عن الحرب، كنّا نتحدّث في سوق الدجاج. اختفى سوق الدجاج، ولم تختف الحرب”..
(*) الكتاب صادر عن منشورات المتوسط في ميلانو 2017، بالتعاون مع دار السويدي للنشر والتوزيع.