*منال الشيخ
كان وما زال من الصعب فصل الفرد في العالم العربي عن وقع الدراما العربية في شهر رمضان. لقد أصبحت علاقة الصائم وغير الصائم، المسلم وغير المسلم، الأشبال والبالغين وكبار السن، نساء ورجال في توافق على مستوى واحد في أقل التقديرات. برغم اختلاف تلقي الأعمال بحسب الأشخاص، يبدو أن هناك بعض الزوايا التي يشترك فيها المشاهدون. من هذه المشتركات هي متابعة تفاصيل العمل بعيداً من التقييم الفني. مثل الانتباه إلى الأزياء والديكور وتغير شكل الممثلين، كما اعتدنا أن نفعل دائماً. أما ما لا يتشاركه الجميع، فهو التقييم الموضوعي والفني والمعلوماتي والتاريخي لهذه الأعمال. وهذا أمر طبيعي جداً، أن يزداد وعي المشاهد مع انفجار الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، التي لا تترك كبيرة أو صغيرة إلا وتضعها بين أيادينا، وهي الميزة التي حُرم منها أسلافنا وكانوا، تقريباً، يصدقون ويؤمنون بمعظم ما يشاهدونهُ في التلفاز. لكن الأمر الذي خطر في بالي، وأنا أتابع منشورات الناس في مواقع التواصل الاجتماعي، عن المسلسلات والبرامج الرمضانية، هو كيف يبدو كائن عربي يعيش منذ سنوات بلا دراما عربية خلال رمضان، ويواصل بجدية متابعة ما يُكتب ويُنشر عن الأعمال؟!
عندما تكون ناشطاً في أحد مواقع التواصل، وشغلك الأدبي والكتابي يعتمد عليه بعض الشيء، بسبب حاجة هذا الشغل إلى المتابعة بشكل مباشر وآني، ستشعر بالاغتراب والضياع وسط مئات المنشورات، التي تمر أمامك يومياً تتحدث عن هذا العمل الدرامي أو ذاك. وهذا يستمر طوال شهر رمضان، ويستمر بعده أحياناً. ثم يخفت صوت “السقسقة” الدرامية فجأة، كمن أطفأ تشويش تلفاز الثمانينات عند انتهاء البث، بعدما تركَه يعمل لساعات.
سأحتفلُ قريباً بمرور تسع سنوات على استقبالي رمضان من دون متابعة الدارما العربية. ومثلي الآلاف من المهاجرين والمغتربين، الذين فضلوا أن يعيشوا بعيداً من القنوات العربية واكتفوا بالقنوات العالمية والمحلية للبلاد حيث يقيمون. كان أحد أسباب عزوفي عن شراء ساتالايت، كما يفعل الكثير من العرب بمجرد وصولهم إلى أوروبا، هو رغبتي بالانقطاع فترة عن مجتمع ولدتُ ونشأت فيه وكان سبباً لانقطاعي عن بقية العالم ومسيرته، إضافة إلى رغبتي في تعلم اللغة النروجية بأسرع وقت. فاكتفيتُ بحزمة قنوات أجنبية إخبارية ومحلية، أراها تفي بالغرض لمتابعة العالم. كان لهذا الخيار نتائج ملموسة على سرعة تعلمي للغة وفهم المجتمع والثقافة النروجية، بل الاسكندنافية بشكل عام، نظراً لتوافر قنوات سويدية وبرامج دنماركية واشتراك هذه الدول بلغة تكاد تكون مفهومة لمن يتعلم إحداها. لكن المفاجأة بالنسبة اليّ، بعد سنوات من الانقطاع، أني بدأت أنفصل بعض الشيء عن الواقع العربي أيضاً، وليس الدرامي فحسب. لفترة، لم أعتبر هذا مؤشراً سلبياً، بل اعتبرتهُ ايجابياً، للصحة والمزاج العام. الانقطاع عن الإرسال العربي فتح الآفاق أمامي للتعرف على برامج ذات طابع غريب، وثيمات لم أشهدها في برامجنا. مثلاً، صرتُ أتابع بشغف حرب تجار الخردة وكيف يصنعون ثرواتهم بالمزايدات على حاويات خردة مجهولة المحتوى. أحياناً تظهر لهم “كراكيب” لا قيمة لها، وفي أحيان أخرى تفتح لهم هذه الصناديق والحاويات المخيفة مغارة علي بابا، حرفياً.
أستعدتُ علاقتي بالراديو، بعدما كانت القنوات الفضائية سبباً رئيساً في انقطاعي عنه. ثقافة المجتمع النروجي، هي ثقافة راديو الصباح والصحف الورقية التي تصل البيوت والمقاهي والمؤسسات بشكل منتظم. هي الجزئية التي صرتُ افتقدها منذ أن توقفت الصحف العراقية عن الصدور بانتظام لتكون في متناول القارئ صباحاً. لم يعد المواطن العراقي يملك رفاهية الاشتراك في الصحف اليومية، أو رفاهية الخروج آمناً إلى أقرب كشك كي يبتاعها. وبهذا أصبح الفرد العراقي، وربما العربي عموماً، أسير الفضائيات وبرامجها المستنسخة، وهي نسخة سيئة في كثير من الأوقات عن برامج أجنبية.
خلال السنوات الأخيرة، انتبهتُ إلى أن ابنتي تتابع الدراما العربية في رمضان بانتظام، عبر القنوات المتاحة في الانترنت. اسمعها تضحك وتستدرك المواقف الجارية أمامها بتعليقات حماسية. استغربت ذلك منها، خصوصاً أنها كانت على وشك نسيان اللغة العربية لعدم استخدامها خارج البيت، وكانت تفضل التحاور معي بالنروجية أو الانكليزية. منذ سنتين، وربما أكثر، استعادت ابنتي لغتها العربية، غير العراقية، وصارت تتكلم لهجة شامية مختلطة بين الفلسطينية والسورية، وأحياناً اللبنانية! اتضح بعد ذلك أنها تعرفت على أصدقاء قادمين من سوريا كلاجئين. توطدت علاقتها بجيراننا الفلسطينيين الذين ظلوا أوفياء للقنوات العربية بعد وصولهم الحي بتاريخ مقارب لوصولي إليه مع عائلتي. إلى جانب عائلات عربية أخرى في الجوار. وصار سماع أصوات الدراما العربية أو آذان الفجر شيئاً محتملاً دائماً. بل في بعض الأحيان، أكاد أسمع الدراما العربية تنبعث من سماعات أذن سيئة المنشأ لمشاهد عربي يتابع وهو جالس في الحافلة أو القطار.
أخيراً، تشجعت فتابعتُ مسلسلاً واحداً، من أجل استعادة الصلة بثقافة بدأتُ “افتقدها”. كانت تجربتي الأولى مع “سجن النساء” واكتشافي نيللي كريم من جديد، والتعرف على روبي كفنانة جديدة تماماً. لم تكن نتيجة المتابعة إيجابية كما توقعت، إذ انتهى بي الأمر إلى كره المجتمع الذي قررت الانفصال عنه طواعية، أكثر من قبل! وفي العام الذي تلاه، جذبني اسم أحد الممثلين على خطي الزمني في “تويتر”، ظافر العابدين، الذي أصبح أيقونة الجاذبية عند المشاهدات العربيات بحسب التعليقات، ما دفعني لتكرار التجربة مع مسلسل “تحت السيطرة”، ولسوء حظي رسّخ هذا المسلسل فكرة الانفصال من جديد. إذ لم يتحمل عقلي أنه، بعد غياب سنوات عن هذا المجتمع، ما زال الفرد فيه يعاني بالمستوى نفسه الذي كان عليه، وربما بشكل اسوأ من ذي قبل، هذا إذا أسلمنا بأن هذه الدراما هي انعكاس لمجتمعاتنا. ورغم تقديري واعجابي المتجدد بأداء نيللي كريم، وإدراكي بأن في البلاد العربية ثمة ممثل اسمهُ ظافر العابدين يتمتع بمواصفات “النجم العالمي” وليس بالصدفة هذه المرة، إلا أني لم أكن على استعداد لأخذ المزيد من جرعات الألم التي كانت تغرسها نيللي فينا مع كل نظرة عجز وقهر ترميها في قلوبنا.
ربما يكونُ صحيحاً أن الفن هو انعكاس لثقافة مجتمع ما، لكن، وفي حالة بلداننا، أشعر بأنهُ منفصل عن الواقع حتى لو ادّعى أنه يمثله. وكما هو واضح للكثيرين، فإن معظم هذه الدراما تموله جهات تجارية بحتة، تعتمد على وجوه “فنية” بعينها، رغم افتقارها للموهبة والحضور المُقنع للأدوار. وهذا لا يقتصر على الدراما العربية، لكننا لا نحظى بتصنيف (Soap Opera) ويتم التعامل مع المنتج كله باعتباره جنساً درامياً واحداً.
في هذه الظروف المتأزمة والقاتلة في منطقتنا، تبقى متابعة الدراما العربية، رغم تباين مستواها وموقفي المسبق منها، الملاذ الآمن الذي يجمع المواطنين بعد عناء نهار طويل من الصيام والعمل ومشقة تحمل التفاصيل المُنهكة للذات البشرية. أما أنا، ومثل آلاف العرب في بلاد الاغتراب، فقد اكتفيتُ هذا العام بالإنصات إلى “الدراما العربية” بشكل مباشر، في الحافلات وعلى أرصفة النروج، إذ تنبعث من حناجر شخوص حقيقية تمشي على الأرض. أصبحت مدينتي، بعد نزوح آلاف السوريين إليها، صدى مباشراً لـ”باب الحارة” وعشرات المسلسلات التي مرت وستمر ولن أتابعها. قصص صرتُ أسمعها وأتابعها من أصحابها. قصص لا تحتاج إلى كاتب سيناريو أو مخرج أو منتج أو قناة تحاول أدلجة كل موضوع. فيما أنصتُ إلى هؤلاء، تتردد ضحكة ابنتي في أذني وهي التي تطور لغتها العربية/السورية/المصرية، وتعليقاتها الحماسية وهي تواصل، للسنة الرابعة على التوالي، متابعة ما انقطعتُ عنه منذ تسع سنوات.