مرايا

خاص- ثقافات

*محمود شقير

نلج المصعد المرصع بالمرايا والمرأة بيننا مثل وردة البستان، نشمّ عطرها ونحن نتأملها على الطبيعة ومن خلال المرايا، نبتهج ونترك لعيوننا فرصة التعبير عما في نفوسنا، فلا يخفى على المرأة من أمرنا شيء، فتمعن في التأود والدلال.

       نلج المطعم المرصع بالمرايا، يقودنا النادل إلى المكان المخصص لنا، نجلس قرب الواجهة الزجاجية العريضة، تعترينا غلمة جامحة ونحن نرقب جسد المدينة المترامي من تحتنا، فكأنها تستسلم لنا دون تمنع أو استنكاف.

       نأكل من أطايب الطعام، نشرب خمرة معتقة، تمتلىء أوعيتنا الداخلية بسوائل لا حصر لها، نركض مسرعين، نلج دورة المياه المرصعة بالمرايا، نراقب أنفسنا بزهو ونحن نقف أمام المباول البيضاء، نحمد الله الذي خلقنا رجالاً وجعلنا قوّامين على النساء.

       نغسل أيدينا بالصابون المعطر، نتأمل ياقات قمصاننا الأنيقة، ثم نعود إلى طعامنا وشرابنا وجسد المرأة التي نشتهيها دون تحفظ أو مواربة، والمرأة تشرب خمرتها الخفيفة دون اضطراب، نطلب منها ونحن في غاية النشوة رقصة لم تجربها من قبل، تستجيب لنا على نحو شيطاني تخلع حذاءها، تصعد إلى منتصف الطاولة، تقف سامقة مثل نخلة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تهزّ الردفين في رصانة، ونصيح: يا أرض احفظي ما عليك. يترجرج النهدان على الصدر الفسيح، يتطاير الشعر الحرير مثل الأغصان، نقبض على أذيال الفستان المنسدل، نجذبه نحونا، ثم – يا ألطاف الله – ينكشف أمامنا بحر متلألىء من فضة الجسد الرهيف، نمزق الثوب بجسارة لم يعهدها أحد فينا من قبل.

       فجأة تندلع في الجو صفارات الإنذار! هل هي غزوة جديدة يشنها علينا الأعداء؟ تنطفىء الأضواء، ننبطح تحت الطاولات غير آبهين لأية اعتبارات في مثل هذا الظرف العصيب، فالكلب الحي خير من أسد ميت كما يقال. يزحف أحدنا على بطنه في اتجاه الهاتف، يستفسر من صديقنا (الكبير) العارف ببواطن الأمور عما جرى، يطمئنه بأن هذا مجرد اختبار لصفارات الإنذار الصامتة منذ أعوام.

       ننهض من تحت الطاولات بقامات منتصبة، نأمر بإشعال الضوء، نتأمل أشكالنا المدعوكة في المرايا، نأسف لأننا تسرعنا في الانبطاح، نعدّل ياقات قمصاننا، وأثناء ذلك نحوّل الأمر إلى نكتة مسلية، نشرب نخباً يُزري بكل الأعداء، ثم نفطن إلى المرأة الرشيقة، نبحث عنها في زوايا المطعم مثل الثيران، فلا نعثر إلا علىحذاء أسود، وبقايا فستان كان قبل قليل ينسدل على بحر متلألى من فضة هي كل ما نشتهي في هذا الزمان.

__________

*روائي وقاص فلسطيني.
من مجموعته “صمت النوافذ”/قصص قصيرة جداً/ منشورات الأهالي/ دمشق/ 1991

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *