سر انتشار الصوفية في الحركة الفنية المصرية

*شريف الشافعي

تساؤلات عديدة يطرحها حضور المتصوفة أبطالًا لأعمال إبداعية عربية من قبيل “شوق الدرويش” للسوداني حمور زيادة (الحاصلة على جائزة نجيب محفوظ للأدب 2014)، و”موت صغير” للسعودي محمد حسن علوان (الحاصلة على جائزة البوكر العربية 2017)، ومسرحية “قواعد العشق الـ40” لفرقة المسرح الحديث بالقاهرة 2017، وغيرها، بل إن أحداثًا وفعاليات ثقافية كبرى على الساحة العربية رفعت شأن التصوف واكتست بإهابه كما لم يحدث من قبل، وآخرها معرض أبوظبي للكتاب 2017، الذي اتخذ ابن عربي “شخصية محورية” له.

لذا نتساءل إلى أي مدى يبدو استحضار “التصوف” في مثل هذه السياقات الجديدة أمينًا في اتساقه مع الأحداث التاريخية وتوافقه مع طرح المتصوفة الأقطاب من فلسفة عميقة ورؤية شاملة تسع الوجود؟

على جانب آخر، ماذا عن “شباك التذاكر” و”أرقام المبيعات”؟ أليس التصوف، وفق هذا المنظور، آلية مبتدعة من آليات مغازلة الجمهور، المتعطش إلى المزيد من الثيمات الصوفية الجاهزة منذ رواية “قواعد العشق الأربعون” للتركية إليف شافاق، وما شابهها من أدب “البست سيلرز”؟

يضيق المقام عن استعراض النماذج كلها، كاملة، بطبيعة الحال، لذا ننطلق من أحدث هذه التجليات، وهي مسرحية “قواعد العشق الـ40”، المعروضة حاليًا في ثوبها الرمضاني الجديد على مسرح السلام بالقاهرة لفرقة المسرح الحديث التابعة للبيت الفني للمسرح، وهي مسرحية مأخوذة عن رواية التركية إليف شافاق “قواعد العشق الأربعون”.

عرض كامل العدد

ثمة قاعدة منسوبة إلى شمس الدين التبريزي في رواية شافاق، يمكن الاستناد إليها بداية، للوصول لاحقًا إلى استشفاف ملامح التصوف، ونواياه، وآلياته، وغاياته، في العرض المسرحي “كامل العدد” في الصيف القاهري.

تقول القاعدة “يوجد معلّمون مزيفون وأساتذة مزيفون في هذا العالم أكثر عددًا من النجوم في الكون المرئي. المعلّم الروحي الصادق لا يوجّه انتباهك إليه، إن المعلّمين الحقيقيين شفّافون كالبلور، يعبر نور الله من خلالهم”.

تستعرض رواية شافاق، في جانبها التاريخي الموثق، حكاية وتفاصيل التقاء الصوفي جلال الدين الرومي والدرويش الجوال شمس الدين التبريزي، وتوطد العلاقة بينهما، التي أسهمت في تحوّل الرومي من عالم وفقيه، إلى فيلسوف وشاعر، ومن ثم تستقصي الرواية تبلور وصياغة قواعد العشق الأربعين، قاعدة تلو الأخرى، جراء تعاونهما وامتزاجهما روحيًّا ومعرفيًّا، إلى أن كانت النهاية باغتيال التبريزي، وبقاء عصارة أفكاره، وخميرة قلبه النابض، وخلاصة الحزن الخالد.

تبدو الرواية الزاخمة ناهضة على مستويات عدة للحكي الدرامي والتأويل، وينبني قوامها الحي المتلاحم على ما يشبه “طبقات الفهم والتفسير”، بالتعبير الصوفي هكذا، يمكن للقارئ التعاطي مع رواية شافاق، وفق هذه الطبقات المتعمقة، القائمة على قماشتين دراميتين، أولاهما من نسيج الحاضر، وثانيتهما من نسيج التاريخ.

رواية شافاق هي رحلة في الفن، من خلال قماشة الحاضر؛ حيث الأسرة الأميركية الخاملة، التي فجرتها على غير موعد علاقة عشق طارئة بين “إيلا” (الزوجة الأربعينية التعسة مع زوج خائن وبيت لا تتغير طقوسه)، وبين “عزيز زاهارا”، الأوروبي المسلم، الرحّالة في أصقاع الأرض، صاحب الرواية التاريخية المخطوطة التي كتبها من باب الإعجاب المحض وبدافع من حبه الشديد للشاعر الصوفي الرومي، وعلاقته بالدرويش التبريزي. أما العمل المسرحي “قواعد العشق الـ40”، فهو عرض مسطح، قوامه الخط التاريخي، بوجهه الذهني المجرد، المنعزل عن التيار الدرامي العام في الرواية، والمفتقر إلى “عناصر المسرحة”.

يكتفي العرض بالقماشة التاريخية، التي قدمتها الرواية، فلا وجود للأسرة المعاصرة التي خلخلها ظهور العاشق عزيز زاهارا، وتستعيض المسرحية عن الدراما بمفهومها التناغمي المتكامل بما يمكن وصفه بمجموعة من “المشاهد” المنفردة، المتلاحقة، المستقاة بشكل أولي من الخيط التاريخي الذي تقدمه الرواية متشابكًا مع غيره. وبين هذه المشاهد هناك فسحة مطولة لالتقاط الأنفاس، بلا رفع ستار ولا تغيير منظر، يستغلها العرض بأناشيد صوفية مغناة بأداء صوتي وموسيقي وحركي لا يخرج عن المكرور.

يبدو الأمر برمته كأنه “قصة الرومي وشمس الدين”، من خلال بطاقات فوتوغرافية أحادية الأبعاد، يتم كشفها للجمهور بشكل متلاحق، من خلال مشاهد حكائية مبتسرة أقرب إلى ما كان يرويه شاعر الربابة في السير الشعبية.

تراثيات صوفية

في هذه التركيبة المسرحية تضاف نكهة أخرى بوصفها كلمة السر التي ستداعب شغف الحضور، هي “قواعد العشق الأربعون”، وعصارة قلوب الصوفيين وأفكارهم، ثم تجري توسعة هذه “التراثيات الصوفية اللطيفة”، لتضم اجتهادات “الصوفيين الجدد” على المسرح، حيث المعاني “العصرية” التي يمكن طرحها اجتماعيًّا وتمريرها سياسيًّا في هذا التوقيت، حول اشتراك المسلمين والأقباط في وطن واحد، وبناء المنجزات المستحيلة بيد المحبة، وتجاوز هموم الدنيا ومشكلاتها بالترفع عنها، ومحاربة قوى الظلام والتعصب والشياطين بالتطهر الداخلي، وتجديد الخطاب الديني (أزمة الواقع) بعدم تحريم الموسيقى والاعتراف بقيمة فن الرقص، بمعناه الواسع، وما إلى ذلك من كليشيهات تم “تلفيقها” على ألسنة رموز التصوف، من خلال “اسكتشات” مسطحة، واستدعاء مجتزآت مبتورة من قواعد الصوفيين على هيئة مقولات جاهزة يطلقها الممثلون بأسلوب وعظي زاعق.

هذه المحاولات البدائية لتمرير التصوف وفق منظور اجتماعي وسياسي معين في “قواعد العشق الـ40”، لم تسلم منها رواية “موت صغير” للسعودي محمد حسن علوان، الفائزة مؤخرًا بجائزة البوكر، ولعل ذلك يقدم تفسيرًا لمفارقة أولية تتبادر إلى الذهن عن كيفية الاحتفاء بعمل صوفي في بلد يأخذ من التصوف موقفًا معلنًا، هو العداء الصريح، لأسباب دينية وسياسية على حد السواء.

وفيما يتجلى حتى للقارئ العادي، غير المختص، أن ابن عربي في رواية علوان بعيد في بعض أفكاره وأقواله وفلسفاته عن حقيقته التاريخية الثابتة، مثل رفضه للتكفير وللحض على القتل مثلاً، بعكس ما حملت الرواية.

أخيرًا، فإن التصوف، حين أفرز في عصره إنشادًا وأدبًا وفلسفة وحكمة، فإنه حظي بالتصديق المأمول، كون هذه النتاجات جميعًا وليدة تجربة حياتية تمشي على قدمين، وتحلق في الملكوت بجناحين حقيقيين. أما الكثير من التصوف المستدعى حاليًا في طيات الحركة الإبداعية والثقافية العربية، فمردوده إلى توجهات أخرى، وقناعات مسبقة لدى الكاتب توجه دفة قلمه، فضلًا عن استدرار تعاطف الجمهور، بوصف الأجواء الصوفية من الرهانات الرابحة في مضمار “الأكثر مبيعًا”.

___________

*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *