قراءة في ” أنزفني مرّةً أخرى ” لعمّار الجنيدي

*د. علاء محمد شدوح

خاص- ثقافات

( نــــَــــــــــــــــزْفٌ مُحاصَـــــــــرٌ )

هذا هو العنوانُ الأوّلُ وليس الأخير الذي تَبَادَرَ إلى فكري، بعد أن أنهيتُ قراءةَ المجموعة القصصية الخامسة للقاصّ والشاعرِ الأردنيّ “عمّار الجنيديّ” والمعنونة بــــ (أَنْزِفُنِي مرّةً أُخرَى )، (وزارة الثقافة، 2016). كيف لا، وعتباتُ النصّ ملطخةٌ بالدّماء، بَدْءًا من الغلاف الذي كَسَاهُ اللونُ الأحمرُ سترةً من دمٍ يرتديها كثيرٌ من البشر ، الذكرُ والأنثى، والمتعلمُ والجاهل، والصادقُ والكاذب، فاختفت معالمُ وجوههم خلفَ حُمْرِة الدّماء. فغلافُ المجموعة يَشِي بصورةٍ بصريةٍ ناجحةٍ، مُحَوَّلَةٍ عن التجربةِ الكتابيةِ للقاص.

وبالمرورِ على العنوان: (أَنْزِفُنِي مرّةً أُخرَى ) نجدُ أنه مَجرّةٌ من الآلامِ التي يَنْزِفُها الكاتب، والناتجة عن تجاربَ ذاتيةٍ وغيرِ ذاتية، قديمةٍ وحديثةٍ، باعتبارِ أنّ العنوانَ يحتوي على البذورِ الجنينيةِ لدلالاتِ الفنِّ الإبداعيّ، فكلّما أوغلتُ في قراءةِ المجموعة ِالقصصيةِ بأحداثها وقضاياها، زادَ العنوانُ بريقاً. أمّا شخصيةُ القاصّ بأسرارها وغموضها وأوجاعها، فقد ظهرتْ جليّةً من خلال هذا العنوانِ الدّامِي، والذي يُشير إلى نزْفٍ إنسانيٍّ مختلفِ الأنواعِ، كالنّزفِ النّفسيّ والنّزفِ الفكريّ والنّزفِ الاجتماعيّ والنزفِ السّياسيّ.

أمّا العتبةُ الأخيرةُ من عتباتِ هذه المجموعة فهي الإهداء: ( وإلى كلّ الذين منعهم الكِبْر، فلم يبايعوني )(ص5). نجد أنّ الألم والمعاناة اللذين يَنزِفُهُما القاصّ قديمان، ويتمثّلانِ في تجربةٍ شخصيةٍ عاشها مع الذين لم يبايعوه على ما يريد بسبب كِبْرهم. ويتصدّرُ جملةَ الإهداءِ حرفُ واوٍ عاطفٍ لمعطوفٍ عليه غير موجود، لم يذكرْه الجنيدي للدلالة على أنّ هذه المجموعة مُهداةٌ أيضاً إلى أُناسٍ آخرين عاش معهم تجربةً شخصيةً مؤلمة.

تصدّرت المجموعةَ قصّةُ النزْف المُحاصَرِ الذي يعاني منه القاص، والذي يحاول من خلاله قَتْلَ التشوّه الذي اعترى مجتمعنا بجميع قيمه ومبادئِه، فالقاص يسألُ بلسانِ الحائرِ المتألم، ويجيبُ بلسانِ الناقدِ المراقبِ الذي يحلم بِنَسْفِ هذا الواقع وتغييره.(ما جدوى أنْ أنزفني مرّةً أخرى؟! فيجاوبني ناقدٌ منتبهٌ لانفعال أسئلتي: حتى يظلّ دمُك طريّاً بين يديّ)(ص10).

وخُتِمت القصةُ بالقلقِ المتنامي الناتجِ عن السلوكيات البشريةِ السلبيةِ في المجتمعات العربية، هذه السلوكيات على اختلافِ أشكالها جاءت مبثوثةً في ثنايا المجموعة القصصية كلِّها، كسلوكِ المدراءِ الفاسدين الذين شبّههم الجنيدي بالجرذان كنايةً عن فسادهم وإغراقهم فيه.(جرذون في الدائرة؟ اقتلوه، اسحقوه بأحذيتكم، اقتلووووه)(ص16). وكخيانةِ المسؤولِ لأهله وأقربائه، مقابل الوقوفِ إلى جانب السلطةِ التي ستطيحُ به بعدَ حين.(بدأ السوط يئزُّ على ظهور العباد، وكان الجلّاد – وهو مختار القرية – … راح المختار يصيح وينتحب ويطلب الرحمة من الجلاد)(ص18). وكالشخصِ الذي غَرِقَ في ملذّات الدنيا لاهثاً وراءَ شهواته وغرائزه.(خنزيرٌ هرم، أكل من ملذات الدنيا ما أكل)(ص28). وكالزواج التقليدي بين الشاب والفتاة، المسبوق بقصةِ عشقٍ فاشلةٍ عاشها كلٌّ منهما مع طرفٍ آخر.(ولَمّا فشل في العثور على “لميس” أخرى، تزوّج منال، واستطاع أن يقنعها بعد جهد، أنْ تغيرَ اسمَها إلى لميس… انتحت به جانباً وأقنعته أن يغير اسمه إلى “إيّاد”)(ص30). وكإهمال بعض الأطباء لقدسية مهنتهم، والتلهّي عنها بالمحرمات على حساب حياة المريض.(مدَّ لسانه وقد بدأ السُمُّ يأخذ مفعوله، ليس بكَ أي خلاف… تركه الطبيب وأسرع لإكمال مَهمته)(ص32). وكغيرها من العادات المشوّهة التي تمثّل النزْفَ الاجتماعي عند القاص، فهي تحيط به من كل الجهات وتحاصره حصاراً دامياً.

ومن صورِ النّزفِ السياسيّ الذي شكّل ظاهرةً خطيرةً أفسدت علاقةَ السلطة برعاياها، صورة التجسس الذي تستخدمه السلطة على رعاياها حتى في بيوت الله.(صلّى في الصفّ الأوّل… خلع معطفه ولحيته المستعارة… راح يكتب أسماء المصلين)(ص11). وِمن صُوَرِهِ أيضاً، ملاحقة السلطة لمن أُفرِجَ عنهم، لاعتقالهم مرة أخرى بذنبٍ أو بدون ذنب.(وبعد حفنة من الزغاريد… اعتقلوه بتهمة التحريض وتنظيم مظاهرة)(ص22). أضف إلى ذلك صورة التهميش الذي تمارسه السلطة على المواطنين البسطاء والفقراء، مع أنّهم قدّموا دماءهم تضحيةً للوطن في وقائع تاريخية.(حتى النيشان الذي تسلّمهُ بعد صموده البطوليّ في معركة الكرامة، لم يشفعْ له)(ص42).

أمّا النّزْفُ العاطفيّ، فقد حاولَ من خلاله القاصُّ أنْ يُشيرَ إلى مواقف محورية قد يتعرض لها المرءُ في حياته اليومية، كقصةِ (الرّهان) التي تحولت فيها صورةُ الشّاب بكبريائه إلى صورة شابٍ بلا قدمين.(حين شاهدتْ عن قرب أنّ الشاب الأنيق ذا الشعر الطويل، والنظارة البيضاء… كان بلا قدمين)(ص79). وقصة (الكابوس) جسّدت ما يواجهه الناس من مكابدة وألم وهموم في حياتهم اليومية، من خلال كابوس الليل المتكرر الذي يدلّ بالضرورة على اضطراب معين في الشخصية، ومن ثم صوّرَ القاصّ الأمَّ على حقيقتها بما فيها من حنانٍ وحب، لكنّه وصف الأبَ بصورة مغايرة تماماً، إذ به ازدادت الآلام، ومن خلاله هربت الشخصية من الكابوس إلى الكابوس.(لم يصحُ إلّا على يديّ أمه وهي تتعوّذ من شر الكوابيس… استطاع أن يرى أباه… ألن تنام وتريحنا، لقد أقرفتنا بهذه الكوابيس، دسّ رأسه تحت اللحاف وراح ينشج في نحيب متقطع)(ص26).

وبالحديث عن اللغة وشعريتها في المجموعة، نجد أنها بالرغم من سهولتها ووضوحها وبساطتها كانت لغةً مكثفةً تكثيفاً بنائياً وسيكولوجياً ودلالياً، وكان تكثيفُها يتنفس من رئة الحدث، ويتناسبُ والفنَّ المكتوب، ويتناسب أيضاً مع المغزى الذي يسعى القاصّ إلى توضيحه. فنلاحظ في قصة (انتظار) كيف كثّف الجنيدي البناء اللغوي والدلالي، لتبدو المناورةُ بينه وبين البطل المجهول في القصة مختزلةً من غير إخلالٍ بالصورة الحركية أو الصوتية، ونلاحظ كيف كثّف قفلةَ القصة ليتفاعلَ معها المتلقي حسب رؤيته الذاتية.(طرق باب غرفتي المبنية في طرف الوادي، في ذاك اليوم المطير الرّاعد… طردتُه وأوصدتُ البابَ دونَه… لم يغادرْ… وضعتُها خَلْفَ الباب كحاجزٍ منيع… حاول الدخول قسراً… أوصدتُ النافذة… أوقدتُ المدفأةَ لكي لا يدخل منها… أسدلتُ الستائر… وأنا أسمعه يصرخ ويولول… رَكَضَتْ الفصولُ… فوجدته بالباب ينتظر)(ص20).

أمّا الشاعرية التي انسابتْ بين ثنايا الكلمات وبلاغة التراكيب، شكّلت سرداً من نوع مميز يكمن في أنْ تولّى القاص سرد الأحداث بنفسه دون حاجةٍ إلى سارد آخر يعينه على ذلك، وقد يكون السبب أنّ الذاتَ القاصّةَ تماهتْ تماماً مع موضوعاتِ معظمِ القصصِ في المجموعة، إلى درجةٍ كان فيها القاص يخاطب شخصياتِ بعضِ القصص ويأمرها بأنْ تفعلَ ولا تفعلْ، ويأمرها بالتحرّك كيفما يريد، كما في قصة (نصيحة)، إذْ كان يتحاورُ مع الشخصية وكأنّه شريكٌ لها في بطولة القصة، وكان –أيضا- يسرد ببراعة إجابات الشخصية بطريقة حركيّة صامتة.(هيه أنت: أيها الرجل الأشقر… ذقنك ليس بحاجة إلى حلاقة، ضع إبريق الشاي على النار، جهّز فطورك اليومي… تهمُّ بالخروج إلى العمل لكنني أنصحك بالبقاء… أرجوك… لا تستمعَ إلى النصيحة، انتبه، أنت: أيها الرجل الأشقر، حاذر)(ص34).

ومن الُبنَى السّردية اللافتة للانتباه في المجموعة، التعاقب في استخدام الفعل الماضي مرّة والفعل المضارع مرّة في نهايات القصص، فلا توتر ولا قلق في زمن الأحداث المسرودة. وبالتالي يكون الخطابُ السّردي مع القارئ خطاباً ناجحاً في قفلات القصص ، لاسيما أنّ الجنيدي راوَحَ بين النهايات المفتوحة والنهايات المغلقة ليتقاسم مع القارئ لذة الخطاب السردي من جهة، ولذة الألم الذي ينزفه الكاتب من جهة أخرى.

وجاء عنصرُ الحوار في المجموعة بصورتيه الفصيحة والعاميّة، ليضفي الجندي الواقعيةَ والصدقَ على أحداث القصص، وليكونَ عنصراً مشوقاً للقارئ.(ألن تنام وتريحنا، لقد أقرفتنا بهذه الكوابيس اللعينة)(ص26). (افتح فمك، مُدَّ لسانك، ليس بك أي خلاف)(ص32). (شو مالك بتتطلع في هيك؟ بدك إياني أصوم أصوم وأفطر عبصلة!)(ص54). (حط راسك بين هالروس وقول يا قطاع الروس)(ص67). (راحوا الذهبات)(ص69). (إيش يا حلوة، بتحبي أوصلك؟)(ص86).

 وتجلّت تقنية الحُلُم (الكابوس) في قصة واحدة، للكشف عن بعض الآلام والهموم التي يمكن أن يعاني منها الفرد العربي.(لم يتمكن من التشبث بأي شيء، فانزلق إلى القاع السحيق من على حافة هوّةٍ سحيقة على رأس الجبل… ولم يصحُ إلا على يديّ أمه وهي تتعوّذ من شرّ الكوابيس)(ص26).

ومما يزيد عنصرَ المكان واقعيةً في القصص، انتقاء الجنيدي لأسماء حقيقية، كمشفى (الإيمان) الموجود في محافظة عجلون الأردنية ص32، وكشارع السينما الموجود في محافظة إربد الأردنية ص35، وكَسُور مبنى الفنون في الجامعة، والذي قد يوحي بأنّ الجامعة هي جامعة اليرموك الموجودة في محافظة إربد ص61، وكجسر الداخلية الموجود في العاصمة عمان ص75، وكعين التيس الذي جاء به القاص في حاشية القصة، والموجود في إحدى قرى محافظة عجلون ص18. فخدمت هذه الأماكن القاصَّ والقارئَ والمغزى في آنٍ واحد.

أمّا عن المفارقة التي شكلت ما يسمى “خيبة التوقع” عند القارئ، ظهرت جليةً في قصة (صباح الخير أيتها الجارة) إذ يتوقع القارئ أنْ يقعَ بطلُ القصة عماد في إغراء الجارة من خلال لباسها الفاتن ونظراتها غير البريئة إليه، لكنَّ توقعَ القارئ باءَ بالخيبة، حيث (ألحّت عليه رغبةٌ في النوم، فأغلق النافذة وتناول حبتي “فاليوم” ثم ارتمى على الفراش)(ص88).

وتكثرُ الثنائياتُ الضدّيةُ في المجموعة، والتي تمثّل نزفاً من نوعٍ آخر، وهو التناقضات التي يعيشها الإنسان في حياته من موتٍ وحياة، وقلقٍ وراحة، وسعادةٍ وتعاسة، وطِيبَةٍ ومَكْر، وحريةٍ وعبودية، وفسادٍ وصلاح، وغنى وفقر، وأملٍ ويأس…إلخ. كل هذه الثنائيات وغيرها يوظفها القاص في نصوصه ليتماهى معها وليظلَّ ينزف نفسَه من خلالها.

واستخدم الجنيدي تقنية الاستدعاء أو الاسترجاع بطريقة ذكية في قصة (على المقصلة) حيث بدأ من الحدث الأخير للقصة، عندما وضع السيّافُ رأسَه على المقصلة، وأهلُ قريته حوله تترقرق في عيونهم الدموع، ثم بدأ يستدعي السبب الذي أدّى إلى هذا الحدث، وهو قيامه بذبحِ ثلاثِ بقراتٍ من ماشيةِ المختار، وتقديمِ طعامِها لأهل قريته. وأسهمت هذه التقنية في اختصارِ الأزمنةِ وطيِّ المسافات، ودفعتْ المللَ عن القارئ.(السيّاف يُعدِّل وضع رأسي على المقصلة… أخذت ثلاث بقرات وذبحتها… وأقمنا وليمة أشبعت أهل قريتي)(ص48).

وللتناصِّ التاريخيِّ مكانٌ في هذه المجموعة، في قصة (موت مواطن بسيط) حيث أشار إلى معركة خالدة من معارك العرب، وهي معركة الكرامة 1968. وهو تناصٌّ مُعلنٌ استدعى من خلاله هذا الحدث التاريخيّ الخالد.

* عمّار الجنيدي، أَنْزِفُني مرّةً أُخرى، وزارة الثقافة، 2016.

 

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *