نبض على عتبات ذكرى غياب مالك حداد

*استطلاع/ نوّارة لــحـرش 

مالك حداد.. الحضور الأبدي

ظلت مقولة مالك حداد (5 جويلية 1927/ 2 جوان من 1987): “اللغة الفرنسية هي منفاي”، أكثر تداولا وتناولا من كتاباته النثرية والسردية، كما ظلت وبعد مرور كل هذه السنوات على رحيله، محل مساءلة ومجادلة، حتى في ذكرى غيابه التي تحل اليوم، وفي طيات ملف “كراس الثقافة” الذي خصصه لفتى قسنطينة، يستحضر بعض النقاد والمترجمين مقولة مالك حداد، ويقاربونها من زوايا مختلفة، وقد ركزوا بذلك على مقولة صاحب “الشقاء في خطر” وكأنهم بشكل أو بآخر أردوا إنصاف الرجل، الأديب المبدع، وإخراجه من “عباءة المقولة” ومن منفى الصمت والجحود إلى وطن الحضور، وطن بشمس تضيء على أدبه وتلتفت له وتتناوله بالدراسة والأطروحات والمقاربات، والترجمات أكثر، فالتركيز على أشهر مقولات الكاتب، لا يعني إغفال أثره الفني والأدبي، وهذا ما أشار إليه أغلب الكُتاب في هذه الندوة التكريمية المرفوعة لمالك حداد ولذكراه الخالدة، مع همسة عالية: “ها نحن نطرق كلّ هذا الطرق، لأنك هنا”.

____________

عبد السلام يخلف/ كاتب ومترجم وفنان

ما كان يكتب كي يتسلى

مالك حداد لوحده عالم شعري وشاعري، عالم متفرد، كوكب يسير في فلك نادر. مالك حداد لم يكن شاعرا غزيرا، فقد كتب الشيء القليل لكن ما كتبه كان لبنة طيبة في عالم الشعر والرواية حتى أن كل رواياته مليئة بالشعر وكل شعره فيه الحكي والسرد ما يجعله يشبه الرواية.

السرد عنده أغنية عميقة، فهو لا يقف عند استعمال اللغة المباشرة بل يذهب إلى أبعادها الأنثروبولوجية والسوسيولوجية العميقة التي تقول الذات البشرية لحظة عريها وعدم انسجامها مع الأشياء. إن الكلمات تأتيه ساجدة مطواعة لأنه لا يبحث عنها. اللغة بالنسبة إليه قارب نجاة للقارئ الذي يجد نفسه في عمق بئر لا يخرج منها إلا بمساعدة الشاعر، ألم يقل في روايته “سأهديك غزالة” (أنا أصر على ترجمة العنوان بهذا الشكل): “إذا كان ولا بد عليّ أن أقدم اعتذارا فلشخصياتي فقط، تلك التي أنا صنعتها من لا شيء ووضعتها في مواقف حرجة”.

حين أقرأه أحس بنبض الشعر ينتفض وكأن أوراق الكِتاب تتحرك وتود الطيران. لم يكتب مالك شعرا كي يتسلى بل كان يقوم بذلك كفعل بطولي، أي لتجاوز الذات التي تقف عند عتبات الوعي والثورة والعقلانية التي هدفها الأسمى هو الحكمة وهاجس التريث لبناء هندسة راقية لكنها ذات بعد زمني أي باقية تتحدى الاندثار.

الشِعر عنده ومضة تأتي في غفوة ناعمة وكأنه يهرب من الكتابة الواعية (الرواية) إلى كتابة واعية من نوع آخر، كتابة شاردة تعيد للزمن معناه من خلال التفاصيل التي قد لا يراها العابرون إلى الفرح، المارون إلى حتفهم، أي نحن. مالك ترك لدي الانطباع الجميل (خاصة بعد أن ترجمت له مجموعة “الشقاء في خطر”) بأن الشِعر قد يكون أغنية عذبة تتحول في لحظة إلى رصاصة قاتلة لأن الشعر عنده مساحة ملغمة يستدرج من خلالها القارئ إلى عالم صوفي أو سريالي فيه من الطرب ما يرتضي ومن الحزن ما لا يبغي.

قوة عجيبة على خلق التناقضات تلك التي يعج بها العالم السفلي الذي يرسمه مالك بكل صدق، عرفت أن الشعر صدق وما عدا ذلك فهو كلام من دون معنى.

سكن مالك مملكة الشعر وصدق حين قال: “أنا أقيم في كتبي وأدفع الإيجار غاليا جدا”. الشيء الذي ربما زاد في تعلقي بهذا الكاتب هو صداقتي لزوجته زهية رحمها الله وتعرفي على أخته لويزة رحمها الله وابنه نديم وعلى رأسهم جميعا ذلك القبر المتفرد الذي كتبتْ على شاهدته عبارة “هنا يرتاح مالك حداد” ومن عادة الموتى أن نقول “هنا يرقد فلان”. هكذا يحيا الشعراء دوما في اللغة التي هي سيدة البهاء.

مرزاق بقطاش/ روائي ومترجم

عذرا أيها المقيم في الحزن على الدوام

ينتابني الحزنُ كلما استعدت علاقتي بمالك حداد، والسبب في ذلك هو أنني عجزتُ عن الوفاء بوعد قطعته عليه ذات يوم من سبعينات القرن المنصرم. فقد استأذنته في أن أنقل إلى اللغة العربية كتابه الظريف “الأصفار تدور من حلقة مفرغة”، لكن الموت خطفه خطفا ودفعني بدوري إلى أن أدور في حلقة مفرغة.

لستُ أدري ما إذا كنتُ قادرا على الاضطلاع بهذه الترجمة، لكنها ستظل شيئا من حتَّى في قرارة نفسي. وأنا في هذا المقام أعتذر له وأحاول أن أجد الأعذار والتعلات، عساني أبادر إلى خوض التيار المتلاطم، تيار الترجمة. عذرا، يا مالك، مرة أخرى، عذرا، يا مالك، أيها المقيم في الحزن على الدوام.

 

محمد خطّاب/ ناقد وباحث أكاديمي ومترجم

نصه ضدّ المعرفة الجاهزة وهو إحراج حقيقي للنقد التقليدي

أسس مالك حداد لكتابة مختلفة في وقت كانت الكتابة فيه قائمة في معظمها على حس الاتفاق والسير في خط التقاليد المتوارثة. بغض النظر عن اللغة، فإن كتابة حداد استمدت قوتها من التجربة الخالصة التي عاشها الكاتب بروحه وجسده. غالبا ما تكون بعض التجارب تقليدا واستنساخا لتجارب أخرى، ولكن تجربة حداد أصيلة في أكثر من منحى، سنحاول أن نرى إلى بعض تفاصيلها الخاصة بالكاتب والمتلقي.

“سأهبك غزالة” هي إحدى أروع روايات حداد، أراها شبيهة في مدخلها برواية الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو Italo Calvino “لو أن مسافرا في ليلة شتاء Si par une nuit d’hiver un voyageur”، التي تستدعي القارئ بشكل مباشر وتدخله في حضرة السرد والحكاية. مع مالك حداد تجد نفسك مع الكاتب والبطل المؤلف متورطا بشكل سافر في الحكاية، عتبة الرواية مُحرِجة للقارئ التقليدي، عتبة يُراد بها الدخول مع الاسم النكرة، ربما لأن نص حداد ضد المعرفة الجاهزة.

مالك حداد يؤسس للغة الثانية حيث لا كاتب هناك، فقط الصوت الذي يتحدث عن نفسه ويترك أثرا في الآخر لكي يستجيب. الكاتب منفي باللغة التي اختارها، ولكنه يحيا بالصوت الذي يتبدد داخل رواية لا يمكن تصنيفها، إنها متداخلة بحس الشاعر. الكاتب ميت بتعبير بارت Barthes وحيلة حداد هو استعارة صوت آخر لكي يخفف من حدة الشعور بالغربة. لا يمكن الصمت في هذه الحالة، ولكن الكتابة خلاقة للاسم النكرة “المخطوطة لا تحمل اسم المؤلف” ص13 من “سأهبك غزالة”. “الكِتاب الذي يحمل اسم صاحبه يضايقه”، ص14، إننا أمام كتابة خلاقة للصمت والنكرة، على القارئ أن يستعد مجددا للفهم الذي صار قيمة معرفية ومسؤولية أخلاقية بالمعنى الفلسفي وليس الديني.

نحتاج إلى نقد يتأسس على تجارب كبرى مثل تجربة مالك حداد. كان بإمكان النقد الجديد أن يقفز على مراحل كثيرة ضاع الجهد فيها في مسائل تقليدية لا معنى لها. إن بحث الاسم النكرة والصوت الذي يعبُر إلى الصمت وغربة الكاتب الحقيقي داخل لغة تؤسس لنفيه الكبير لهو مفتاح من مفاتيح المعرفة النقدية التي يتغير معها كثير من الاعتقادات الراسخة التي نجدها في الملخصات النقدية المدرسية.

كان بإمكاننا أن نبحث بارت ودريدا بشكل واضح لو كان المنطلق الإبداع الذي يستمد قوته من التجربة الإنسانية الخالصة، مثلما أسس إيتالو كالفينو لرواية لا تضع حجابا أمام القارئ. هل بإمكاننا أن نتفهم جملة حداد في روايته “سأهبك غزالة” التي تقول: “أن ترى هي أن تحتجب”؟ ص11. إنني أتذكر من وراء نص حداد فكرة الفيلسوف ليبينتزleibniz  عن البيت الذي لا نافذة فيه ولا باب. بحث مشكلة التواصل والفهم جديرة بالتنبه لكي توقظ فينا حسا جديدا بالحياة والإبداع.

إن قراءة الرواية من زاوية تواصل القارئ مع صوت المؤلف البطل الذي يردد دائما بأن الاسم لا يعني شيئا مطلقا تجعل من النص ظاهرة متجددة وحية ومستمرة مع الوجود، إن الكاتب يكتب من منطلق كونه نكرة لكي يتم التعرف عليه من قِبل أصوات مجهولة تتواصل معه ضمن أفق الإبداع الحقيقي، لذلك قلت في البداية بأن نص مالك حداد هو إحراج حقيقي للنقد التقليدي، فهو نص يراهن على نقد يتجاوز الحُجب المانعة من المعرفة البانية، نقد يتعامل مع الصوت الذي يعني الصمت وليس الصوت الذي يعني الجلجلة والصخب. صوت مالك حداد قوي هادر لكنه يحيا في دائرة النفي.

 

محمد الأمين بحري/ ناقد وأكاديمي

مالك حداد.. هل من تحقيق مضاد..؟

هي دعوة متأخرة للقيام بتقصٍ جادٍ حول سيرة رجل ُزجّ به عمداً وبغير عمد في مغالطات تاريخية، لسبب وحيد يشترك فيه مناوئوه ومساندوه، يتعلق بموقفه الحدي من لغة القلب والهوية (العربية)، ولغة اللسان والمنفى (الفرنسية)، الذي مزق وجوده حياً، وضاعف من حبك المغالطات حوله ميتاً، فهل من مسعف بتحقيق ينصف سيرة الرجل ومواقفه من كبرى قضايا الوطن والكِتابة؟ هذا الحيف، والتزييف؟؟.

نقول هذا على الرغم من تعدد التكريمات، والوقفات التي تُحيي ذكرى “مالك حداد” عاما بعد عام، وتنتهي بتوزيع الشهادات، والهدايا دون منح الرجل شهادة للتاريخ توثق ما أراد أن يقوله لسانه السديد، ويكتبه قلمه الوئيد.

-ما قاله مالك حداد

-لعل أولى المغالطات التي اعتورت مسار مالك حداد، هي تلك المقولة الشهيرة التي صارت أيقونة على كل الألسنة، حيث قال أثناء غضبة مبدع بأن: “اللغة الفرنسية هي منفاي، لذا قررت أن أصمت، دون أن أشعر بأي ذنب أو مرارة وأنا أضع قلمي”. وقد ساد الاعتقاد وهماً بأن الرجل قد صمت حقاً، وصدّقت العامة جزافاً بأن من يتنفس الشعر، يمكن أن يتنازل عنه بكل سهولة، غافلين أو متغافلين عن كون قرار الانتحار أو النفي الجسدي أهون بكثير على المبدع من أن يهجر فنه. وهكذا أغلقوا باب البحث عن حقيقة المقولة وأبعادها، ومعرفة الرجل وعلاقته بفنه، جاهلين أو متجاهلين بأنه قال كلمته في لحظة قنوط عابرة من وضعه المغترب الذي ظل يلعنه طيلة حياته. لكن دون أن يتوقف يوماً عن كتابة ذاته ومعاناته باللغة التي يتقنها، بل لعل هذه المقولة في حد ذاتها هي أروع بيت قاله الأديب الذي طالما آمن بأنه لا خطر على الشقاء وهو يكتب لهؤلاء مدونة: “الشقاء في خطر”.

-ومن أبرز من روج لهذه القصة الواهمة التي تروج للملأ بأن مالك قد توقف عن الكتابة وكسر القلم نهائياً، هي الروائية أحلام مستغانمي حين كتبت بشاعرية ملتاعة بنوستالجيا رثائية، في إهدائها لذاكرة الجسد: “إلى مالك حداد ابن قسنطينة الذي أقسم بعد استقلال الجزائر ألا يكتب بلغة  ليست لغته، فاغتالته الصفحة البيضاء، ومات بسرطان صمته ليصبح شهيد اللغة العربية، وهو أول كاتب قرر أن يموت صمتاً..” (ذاكرة الجسد ص 5). لو أراد أي مستفهم أن يتمعن في صدقية هذه الكلمة، لتبين له في أول انطباع أمران: إما أن أحلام لا تعرف مالك حداد حق المعرفة حين كتبت هذه الكلمة، أو أنها أرادت أن تمنحه امتداداً دراميا وصيتاً عربياً، متلفعة بقناع التخييل الذي يقوم على حرفية الكلمة لا على ما كتبه مالك حداد بعد تلك الكلمة.

هكذا أخذت أحلام مقولة مالك حداد الغاضبة، صيغتها البعيدة عن حقيقة علاقته بقلمه وشخصيته، وهاجس الكتابة لديه، وراحت تنسج حولها خطاباً دراماتيكياً، بلغة تفيض شاعرية واغتراباً جعلت من ذلك القرار سيداً، وجعلت من سيد ذلك القرار كبش فداء للكلمة، وهذا ما لم يكن.

وحتى إن افترضنا جدلاً بأن مالك لم ينشر بعد هذه المقولة شيئاً، فهل معنى هذا أنه لم يكتب بعدها شيئاً؟؟

-ما لم يقله مالك حداد

يبدو بعد مرور كل هذه السنوات من رحيل الرجل بأن ما قاله في لحظة قنوط عابرة، لم ينفذه لأنه أديب يتنفس الكتابة، وأن ما لم يقله قد فعله، فأنجز بعدها درراً لم تشرق عليها الشمس لأسباب يعلمها مقربوه الذين صرحوا في غير مناسبة بأن له من المخطوطات والأعمال التي لم يتوقف عن تدوينها حتى آخر رعشة في يده، ما يكفي ليثبت بأنه عاش ومات وفياً للقلم أكثر من وفائه للحظة الضعف وحرقة الألم. فهل سيأتي ذلك اليوم الذي يتجاوز فيه المثقف ثقافة الإشاعة، والانسياق وراء التخييل، وتشرق الشمس على مخطوطات: رواية “قاطرة في جزيرة”، وروايةنهاية الحروف الكبيرة“، ومقالة “القوال والأربعينيات” والمجموعة الشعرية “البرود الأول”؟. وما خفي من المخطوطات الشعرية حقيق -إذا ما رأى النور- بأن ينفي ما تتداوله الإشاعات من أوهام تصنع بطولات الرجال على وأد ما خلفوه من منجزات تخلدهم بعد الرحيل. إلى ذلكم الحين: أهيب بما كتبته الشاعرة الروائية أحلام مستغانمي عن مالك حداد من سرد يفيض شعراً، وما حبرته ذائقتها من تخييل حول مقولته الشهيرة. مع ما بين التخييل وواقع التأثيل، من مسافات باهظة تلقفها المثقفون جزافاً دون نظر. وآن للتاريخ الثقافي أن يستوقفها بصدقية التحري بعيداً عن شعرية التخييل ودرامية التمثيل ومزايدات التهويل.

وكلنا ترقب لإنصاف مسيرة الرجل الكاملة حتى آخر يوم من حياته، ولِمَ لا نقرأ يوماً كتاب مذكراته بأقلام مقربيه وورثته؟ ونتصفح آخر مؤلفاته؟ نفضاً لغبار التزييف وهيلمان التخييل الذي طال شخصية الرجل، والأمر سائر على شخصيات ومنجزات كثير من أعلام ثقافتنا الذين تركناهم نهباً للغط الإشاعات، وأغلقنا دونهم باب النظر والتقصي. هذا ما أسميته بالتحقيق المضاد الذي بات أكثر من ضروري. فهل من محقق.؟؟.

 

بوداود عميـّـر/ كاتب ومترجم

ما كُتب عن مقولته الشهيرة من مقالات ودراسات فاق باهتمامها جميع أعماله السردية ودواوينه

لم تشتهر مقولة في الأدب الجزائري المعاصر، مغاربيّا وعربيا، مثلما اشتهرت، مقولة مالك حداد: “إنّ اللغة الفرنسية لمنفاي”، والتي وردت في مطلع روايته “سأهبك غزالة”: “اللغة الفرنسية حاجز بيني وبين وطني، أشدّ وأقوى من حاجز البحر الأبيض المتوسط، وأنا عاجز عن أن أعبّر بالعربية عمّا أشعر به بالعربية، إنّ الفرنسية لمَنفاي”. لم تنافسها ربما في الانتشار والشهرة، سوى مقولة أخرى تبدو مخالفة قليلا لمقاصدها، حتى وإن تقاطعت معها اشتراكا في طرح سؤال اللغة المهيمنة، يتعلق الأمر بمقولة كاتب ياسين الشهيرة “الفرنسية غنيمة حرب”، وبين القولين، تباينت الأطروحات وتعدّدت المواقف، وسرعان ما اتخذ النقاش فيما بينهما منحى تجاوز الطرح اللساني للإشكالية الهوياتية في الأساس، لترسو رهينة تحت قبضة الإيديولوجية والتزمّت اللغوي وحتى العرقي، مما أفسد للأسف نقاشا ثقافيا وسوسيولوجيا مهمًا، كان سيخفف قليلا من وطأة تعصّب طالت جنايته الهُوية الجزائرية بجميع مكوّناتها.

ومن المفارقة أن ما كُتب عن مقولة مالك حداد الشهيرة هذه، من مقالات وأبحاث ودراسات، وما أتاحته من حقل خصب للتنظير والنقاش الواسع، لا أبالغ إن قلت فاق باهتمامها جميع أعماله السردية ودواوينه الشعرية، التي استطاعت أن تفتح بزخم حروفها أمام المتلقي آفاقا واسعة من التأملات والأسئلة، تمكن قلم مالك حداد بما حازه من شحنة ثورية وجرأة في الطرح والموقف، أن يمنحها بعدا شعريا وأفقا جماليا، كان حريًّا أن تحظى هي كذلك ببعض العناية والاهتمام.

وهكذا توارت خلف مقولة طارت شهرتها الآفاق، أقوال أخرى مأثورة تؤثث نصوص مالك حداد الشعرية والنثرية، أخصّ بالذكر مقولته الرائعة، ذات الدلالات العميقة: “لا تطرق الباب كل هذا الطرق، إنني لم أعد أسكن هنا”، أو قوله مثلا: “المأساة الحقيقية، هي أن الشقاء يجعلنا أذكياء، أكثر مما يجعلنا مجتهدين”، أو قوله: “علينا أن نتحلّى بشجاعة النحل، كي نستحق العسل”، أو: “استعدت رشدي حين أضعت عقلي”.

الموقف الملتزم لمالك حداد من اللغة الفرنسية، مجسّدا في جرأة إعلانه التوقف النهائي عن الكتابة، بعد نيل الجزائر استقلالها، وهو في أوج عطائه الإبداعي، أثار جدلا واسعا بين مؤيّد ومعارض، وبين راض وساخط، لم يلبث أن غطّى هذا الموقف -تماما مثل مقولته الشهيرة- على انجازات مالك حداد، المثقف العضوي بالمفهوم الغرامشي للمثقف الحقيقي، عندما كان يشرف على الصفحة الثقافية لجريدة النصر (كانت تصدر بالفرنسية آنذاك) لنحو أربع سنوات “من سنة 1965 إلى سنة 1968″، أو عندما أسندت له مهام مدير الثقافة والإعلام بوزارة الثقافة، أو كأمين عام لاتحاد الكتاب الجزائريين، ولاسيما عندما أسّس مجلة “آمال” التي كانت تُعنى بأدب الشباب، والتي يعود لها الفضل في اكتشاف الكثير من الكُتاب الجزائريين، أصبحوا الآن يتصدرون المشهد الأدبي.

ولعلّ موقفه المثير للجدل في انتصاره للغة العربية، وانسحابه من الكتابة تجسيدا لرؤيته العميقة للأشياء، أورده من خلال واقعة حقيقية، الكاتب أحمد دوغان في كتابه “شخصيات من الأدب الجزائري المعاصر”، في حادثة تنطوي على رمزية شديدة، حينما التقى الدكتور عبد الله الركيبي بمالك حداد أمام مبنى اتحاد الكُتاب الجزائريين، قبل وفاته بمدة قصيرة، بعد أن شاهد طفلا صغيرا يرافقه، ينطق اللغة العربية بفصاحة، سأله الركيبي من هذا؟ ليجيب مالك حداد: “هذا انتقامي من اللغة الفرنسية.. إنه ولدي !”.

 

عاطف سليمان/ كاتب وناقد مصري

يستحق ترجمات أخرى وطباعةً أنيقة لكتبه

إنْ كان للمرء، في حياته، أنْ يقدِّمَ تحيةً واحدةً لكاتبٍ واحدٍ، فإنَّ تحيتي هي لمالك حدَّاد، وَاهِب الغزالة. ظللتُ زمناً طويلاً وليس عندي من مالك حدَّاد إلا كتابان اثنان، ادخرهما دوماً لليالي الأعياد وأوقات المسرَّة.

كان لي كتابٌ بغلافٍ له لون العاج أو الخيزران، وعليه رسم لمسافرٍ يحمل حقيبةً “كبيرة”، ويبدو قادماً من زوبعةٍ زرقاء كُحليَّة كثيفة تتبدى منها استضاءاتٌ وندف. وثمة إمضاء مدسوس، على خط سيْر المسافر، لمصممِّ الغلاف “اسمه: القاضي”، الذي يبدو أنه قرأ، باستعجالٍ، صفحات قليلة، ثم احتار، كيف يمكنه رسم “رصيف الأزهار”، هذا الغامض، بلونٍ واحد لا تسمح بسواه إمكانات الطباعة؟ فبالَغَ في كِبَرِ حجم الحقيبة.

“رصيف الأزهار لا يجيب”، هي رواية “مالك حدَّاد” التي أصدرتها “جاليمار” في باريس سنة 1961، ونشرت “الهيئةُ المصرية العامة للتأليف والنشر” ترجمتَها العربية سنة 1970، بقلم الأستاذ السوري “ذوقان قرقوط”، وتراوحت جودةُ ترجمته لها بين صفحة وأخرى فكانت مثل إناءٍ صينيٍّ مكسور، جيد ولا يصلح. وفي السنوات، وبمرورها، بات هذا الكِتاب الصغير بغلافه المميَّز ذكرى لمنْ أحبوا، من خلاله، “مالكَ حدَّاد” باسمه الأصلي ذاك، أو باسمِ “خالد بن طوبال”، أو “سيد الماضي”، مثلما دعته “مونيك كويدج”، “مونيك” الجميلة، وقد وجدت نفسها، بلا حيلة منها، تحبُّه ذلك الحب، ذلك الحب، الذي لا يصادفه البشرُ إلاَّ باصطفاءٍ، ولا يكتب عن أحواله إلاَّ كاتب له عدالة وشاعرية وإنسانية مالك حداد. لكن “مونيك” هي زوجة “سيمون كويدج” صديق “خالد بن طوبال” القديم وزميل دراسته في الجزائر ورفيقه في المقاومة والكتابة والشعر، فكيف يمكن تَدَبُّر أمور كهذه في “رصيف الأزهار”! وخالد بن طوبال نفسُه يحب “وريدة”، حبيبته وزوجته ورفيقته وأم أطفاله “مراد” و”فريد” و”مالكة”، وما مضى إلى منفاه في باريس إلا حالماً بالعودة إليهم. والحبُّ ما تخلى مرةً عن تعقيداته، فليس أقل إذاً من أن تغدر به “وريدةُ”، ولا تُعْلِمُهُ حتى بأنها هجرته، فلا يعلم بأنه كان مهجوراً إلَّا من ثنايا خبر في جريدة أوردت حادث مقتلها برفقة منْ وُصِفَ بأنه حبيبها. أمَّا الجريدة، ناشرةُ الخبر، فكانت قد أحضرتها “مونيك”، بالذات، لأجل تسلية خالد بن طوبال في القطار، وكانت قد وجدت فائضاً من الوقت لشراء الصحف واختيار هدية له، ولم تكن بالطبع تدرك أنها تسلِّمه ذلك الخبر عن “وريدة”، المنشور في الصفحة الثالثة، ذلك الذي أودى بحياة خالد بن طوبال، على أية حال.

وكان لي كتاب آخر، هو رواية “سأَهبُكِ غزالة”، الذي أصدرت “الدار التونسية للنشر” سنة 1968 نسخته العربية، بتعريب الأستاذ التونسي “صالح القرمادي”، بغلاف جميل له لون العاج كذلك. في “سأَهبُكِ غزالة” تسمَّعتُ إلى قلب “جيزال دوروك” مضطرماً كمثل قلب “مونيك كويدج” في “رصيف الأزهار”، وراقني ما آمن به مالك حدَّاد: “إن الغزالات لا تكون غزالات إلا حين تكون حية”.

أُهمِلت أو أُغفِلت أو أُنكِرت، دوماً، أعمالُ مالك حدَّاد، ولعلنا لا ننسى أن المحكمةَ الأدبية، المتسلِّطة آنذاك، كانت هي مفرزة الواقعية الاشتراكية، الحركة النقدية الصارمة، ذات المقاصد الحميدة وذات الحمولة المشهودة كذلك من الفظاظة والسطحية والاستنفاع، التي أهدرت نسقاً تقدمياً متكاملاً باحتقارها للفن الأدبي الرفيع، ذاك الذي كان، هو بالذات، ويا للحسرة، ضرورتها لبلوغ ما كانت تتصور أنه رسالتها التي تسعى بها لأجل حفْز وعي الجموع والشعوب والشغيلة، وانتصارهم. كانت الغزالة مهمة إلى أقصى حد في نظر مالك حدَّاد، وكان احترامُ الإنسان للغزالة أساسياً حتى يغدو لائقاً بالمهام السامية والثورية. ولكن أحكامَ المفرزة كانت تنصُّ على أن الغزالةَ ما هي إلا أيقونة رومانسية لا يُعوَّل على توظيفها ثورياً، وتنصُّ على أن الورودَ رخاوةٌ لا تلهم في النضال، وعلى أن رصيفَ الأزهار غامضٌ ومُترَفٌ، وليس يليق بمنْ له رفاق يعسكرون في شظف الجبال لإجلاء المستعمِر اللواذ هكذا برصيف أزهار. وهذه ليست شكاية ولا تأفُّف، فمدارس النقد الأدبي، التي تكاد لا تكون أدبية، والتي سادت بعد ذلك لم تأبه أيضاً بالغزالة. وما إنْ اضمحلت تلك الحقبة حتى ظَهَرَ، لسوء الحظ، بعضُ الكتَّاب ممنْ امتلكوا ملكيةً أجادوا التباهي بها، هي أنهم -ما شاء الله- يكتبون “الأدبَ” باللغة العربية لا الفرنسية، غمزاً وتطاولاً على مالك حدَّاد وكاتب ياسين ومولود فرعون ومحمد ديب ورفاقهم. وما خجلَ أحدُهم من الترنُّم بأن رواياته المكتوبة -رأساً!- باللغة العربية هي بمثابة إعلان استقلال بلده عن الاستعمار الفرنسي، واستجلب بنفسه لنفسه ذلك الشرف، وقد حذفَ ونبذَ الأدبَ العربي الجزائري والتونسي والمغربي الرفيع، المكتوب بالفرنسية، ليفسح طريقَه.

ثم جاء يومٌ طيبٌ فأُهديت الهدية النفيسة بحق، وأُعطيتُ ما كان ينقصني من أعمال مالك حدَّاد المترجمة إلى العربية، لكن استمتاعي التام بمجموع هذه الأعمال لا يزال مؤجلاً نوعاً ما، ذلك أن مالك حدَّاد يستحق ترجمات أخرى ممتازة وطباعةً أنيقة لكتبه، كيلا تظل أعماله غير مرئية، إلا فيما ندر.

راسم المدهون / شاعر وناقد فلسطيني مقيم في دمشق

أحد القلائل الذين عرفوا كيفية التعبير بجمالية وإبداعية عن قضايا وطنه

في توصيفه لحالته الثقافية قال الرّاحل مالك حداد كلمة صارت تلخيصا بليغا لحالة الجزائر الشائكة في ظل الاحتلال: “الفرنسية هي منفاي”. هو بكل المقاييس أحد الأسماء الأهم في الشعر والرّواية في الجزائر، بسبب من موهبته العالية التي امتلكت المخيلة الخصبة، ومعها الفكر المستنير الذي عرف كيف يستفيد من حداثة آداب العالم ومنها حداثة الآداب الفرنسية، دون أن تغمض عينه لحظة عن واقع بلاده.

مالك حداد بهذا المعنى أحد القلائل الذين عرفوا كيفية التعبير بجمالية وإبداعية عن قضايا وطنه، من خلال عزفه على الألم الإنساني العام، بوصفه هو أيضا ألمه الفردي.

بين الشعر والرّواية تنقل حدّاد، وفي المجالين يمكن الوقوف على ملامح تجربة أدبية حملت الكثير من الوشائج مع الواقع. مع ذلك لا يمكننا الحديث عنه بصفته كاتبا واقعيا تماما، إذ يتوجب في هذه الحالة ملاحظة لمساته الشخصية بالغة الخصوصية على الواقعية كمذهب أدبي.

مالك حدّاد صنع واقعيته الخاصة، النابعة من مزيج علاقته بالعالم الخارجي، ولكن أيضا بكل ما يتصل بروحه من ألم فردي. وهو بهذا المعنى بالذات صوت الفرد الجزائري في محنة المواجهات الدامية مع الاستعمار، كما هو تماما صوت هدير المجموع.

لقد عرف برهافة كيف يوحّد بين الصوتين دون أن يتناقضا، بل تمكن من جعلهما صوتا واحدا هو صوت الألم. يندر أن نعثر في الأدب الجزائري على مبدع آخر حقق تلك اللّغة الصافية، الجارحة والمتوهجة في التعبير عن الألم الإنساني، والعذاب البشري، وهي ميزة تضع مالك حداد في مستوى المبدعين العظام الذين نذروا أدبهم لكتابة حيّة في تعبيرها عن الحياة، وفي محاولتها جعل الحياة أكثر إشراقا وأقل ألما.

هو بمعنى ما ينضم إلى رفاقه الرّواد من أدباء الجزائر الثائرة، وبالذات كاتب ياسين صاحب “نجمة” و”الجثة المطوّقة”، في رؤية الجمال من شقوق العذاب الإنساني، وهو في ذلك نجح في القبض على لغة وسياقات إبداعية سلسة وبالغة العذوبة جعلت قراءة أعماله متعة من نوع خاص ومميّز وتحمل للقارىء روح الجزائر الفتيّة وشعبها الذي كان في تلك الأيام العاصفة يدق أبواب الحرية وينادي على المستقبل بشجاعة نادرة.

اليوم وإذ نعود إلى ما تركه مالك حداد وبالذات مجموعته الشعرية “الشقاء في خطر” نقف على رهافة شعرية تتوحد في سياقها رؤية الشاعر الفرد مع آلام مفردات الواقع من حوله. لقد كتب قصائد جارحة، اتكأت –غالبا– على لون من “السّردية الشعرية” التي تتميّز بها كل إبداعات المهجوسين بالناس، والرّاغبين حقا في علاقة وطيدة معهم.

مالك حداد وصل إلى الشرق العربي من خلال الترجمات التي قامت بها الأديبة ملك الأبيض زوجة الشاعر العربي سليمان العيسى. كان ذلك عشية استقلال الجزائر، وكانت ترجمات أبيض أشبه باستعادة جميلة لهذا الكاتب والشاعر، تستردّه من لغة منفاه الفرنسية إلى لغته الأم. هل نتذكر مالك حداد دون أن نتذكر مدينته ومدينة ابن باديس قسنطينة؟. بل هل نتذكّره دون أن نتذكر “جريدة النصر”، أول جريدة جزائرية تنطق باللغة العربية فيما أتذكر. كان الرّاحل أحد مبدعيها، نكتب عنه اليوم لها وفيها فله المجد.

————————

مالك حداد في سطور:

من مواليد 5 جويلية 1927 بقسنطينة، عمل معلما لفترة قصيرة، تنقل عبر مدن وبلدان عدة، منها: باريس، القاهرة، لوزان، تونس، موسكو، نيودلهي. عاد بعد الاستقلال إلى أرض الوطن وأشرف في قسنطينة على الصفحة الثقافية لجريدة النصر، ثم انتقل إلى العاصمة ليشغل منصب مستشار، ثم عُين كمدير للآداب والفنون بوزارة الإعلام والثقافة. أسس سنة 1969 مجلة “آمال”، وكان أول أمين عام لاتحاد الكتاب الجزائريين في الفترة ما بين 1979 و1978.

توفي في 2 جوان من عام 1987.

من مؤلفاته: “الشقاء في خطر” 1956، “الإنطباع الأخير” 1958، “سأهبك غزالة” 1959، “التلميذ والدرس” 1960، “رصيف الأزهار لا يجيب” 1961، “اسمع وسأناديك” 1961، “الأصفار تدور في الفراغ” 1961.

———————–

المصدر: جريدة النصر الجزائرية

 

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *