ليلة الفتى موراكي

خاص- ثقافات

*سفيان سعيداني

الصين ، أرض التنانين المتصارعة ، هنا حيث تتألق البيوت بزخرفها العجيب كان مسقط رأس الفتى موراكي ، ذاك الفتى الوسيم ذي الشعر الأسود الكثيف و ذي العينين السوداوين الداكنتين ، هذا الفتى هو بطل القصة التي سأرويها ، هذا الفتى على الرغم من معضلة التوحد التي يعانيها إلا أن شواهد كثيرة تشهد بأن له عقلا متقدا و ذاكرة عميقة و خيالا جامحا رهيبا و طوبى لمن كانت جائحته معبرا نحو حياة أخرى لا يفقهها الكثيرون و لا يوقنون لها إدراكا . متى قادك الفضول للخوض في حياة الفتى موراكي ، فستوقن أنها لم تكن سوى محض آلام مكبوتة متواترة و محض عزلة قاسية ، و جراء لهذا كتب الفتى موراكي عن مغامرات عديدة كان يتمنى لو أنه خاض غمارها في مكان آخر بعيد ، في مكان آخر غير واقعه ، و بعدد المغامرات المنشودة تراكمت غرفته بمذكرات و مدونات و كنشات عديدة ، حتى أنه كان يحزن في أواخر الليل حينما يحوم به أرق شديد و ينفذ حبر قلمه ، فتراه هائما على طاولته يعيد تنسيق ما بقي من أحداث قصته حتى لا يخالجها النسيان و تظل غارقة في ذاكرته البعيدة . لست ها هنا لأروي لكم عن تفاصيل حياته المختلفة ، إنما لأقول لكم أنه كم من طفل يعاني من أوبئة النفس المستعصية و لكن بين جوانحه تلتهب طاقات عظيمة ، و لست ها هنا إلا لأروي لكم خبر تلك اليلة التي لأول مرة لا يكون فيها الفتى موراكي رهين القلم و الورقة . كان يوما ككل يوم يرن فيه جرس الفصل بنغماته الحادة المضطربة ، فترى الأطفال يجمعون أغراضهم بلهفة جنونية و يندفعون نحو باب القسم كسيل عارم تشوبه الضوضاء و تعلوه الصياحات و تهتز فيه الشجارات و النزاعات الصبيانية ، أما الفتى موراكي فكعادته كان ينتظر خلو القاعة ليخرج بخطوات رصينة متثاقلة ، و في الشارع كان يتقفى أثر رفاقه من بعيد و روحه تتوق أن تشاركهم هذه اللحظة الجميلة ، هذه اللحظة التي يتوهمون فيها لبرهة أنهم تخلصوا من قاعة الدرس الضيقة بأجوائها التي تنم عن القلق و بمدرستهم المتعجرفة ، و لكن نفسه تنهاه عن ذلك تحرزا و تحرسا و خشية أن يسخروا منه لكلماته المتلعثمة و لمواضيعه التي تبعث على الملل ، و بهذا يتجنب ذلك الخجل المرهق الذي ينتابه فتحمر له وجنتاه و أذناه ، و لكنه سمع همسا لطيفا من خلفه ، همسا يناديه باسمه ، لم يلتفت و لكن ما هي إلا لحظات حتى أحز قفزات رشيقة إلى جانبه فالتفت فإذا بها ناتاشي زميلته و رفيقته في الفصل و جليسة طاولته ، كانت فتاة آية في الجمال و الطيبة ، و علاوة على ذلك كانت من المولعين بقصصه التي يؤلفها ، و في ساعات الفسحة عندما ينزوي موراكي وحده في ركن يتناول وجبته وحيدا ، تأتي إلى جانبه و تقدم له أشهى المآكل و تخوض معه حوارات حول قصصه و يحللون الشخصيات و الدوافع و النزوات و كانت لا تتحرج من كلمات الفتى المتقطعة المتهدجة ، و بطول الوقت استغرب الفتى موراكي كيف أن كلماته أخذت مجرى عاديا و صارت حواراته مفهومة جلية و هذا حصل له فقط مع الفتاة ناتاشي و لم يحصل له مع رفاقه و مدرسته . أحس الفتى موراكي بقشعريرة سرت في جسمه النحيل و أحس برعدة و بحرارة تفيض من جسمه ، لم يجد كلمات يتفوه بها و لكن ناتاشي ناولته كتابا بعنوان ” دون كيشوت ” فتناوله بفرحة طربت لها روحه ، و قالت له : هذه رواية رجل كان يعيش في عالم بديع من أحلام المغامرات و الفروسية ، و ذات يوم قرر أن يسير أحلامه على أرض الواقع ، صحيح أنه تعرض لعقبات كثيرة و كانت نهايته مأساوية ، و لكنه استمتع ، كيف لا ! ، و قد رأى ما يتمناه على أرض الحقيقة بدلا عن الصفحات و الأوهام . ثم ابتسمت له ابتسامة رقيقة و قالت : أعلم أنه سيعجبك و هو هدية مني لك . ثم ابتسمت ابتسامة أخرى أجمل و مضت في قفزاتها إلى المقاطعة الأخرى التي تقود إلى منزلها . كانت تلك اللحظات بالنسبة للفتى موراكي كأنها حلم في حد ذاتها ، حلم جميل كأحلامه في الليالي السالفة ، و كان دائما ما يتسائل عن تلك الرجفة الغامضة التي تصيبه كلما رأى ناتاشي ، و حدث أن سأل أمه ذات يوم عن ذلك ، فابتسمت ابتسامة ماكرة و قالت له : لازلت صغيرا على الحب يا بني ، لازلت صغيرا . و تركته و مضت إلى المطبخ ، ما معنى الحب ؟ ، و ماذا تقصد بتلك الإبتسامة الغريبة ؟ ، و هل يحتم علي في سبيل الحب الأخرق أن أتحمل كل تلك الإرتجافات كلما رأيت ناتاشي ؟ . و سرعان ما عاد لينظر في ذلك الكتاب الجميل الذي أعطته إياه جسر الإرتجافة ناتاشي ، تمعن فيه فإذا بفارس ذا درع قديم يمتطي حصانا هزيلا رافعا رمحه يتطلع إلى الأفق بنظرات حادة ، و بجانبه رفيق بدين يمتطي صهوة حمار أشهب ، و لم يعلم أيهم دون كيشوت و لكن ذهب أغلب ظنه إلى ذلك النحيل صاحب النظرات الحادة . سمع صوت زمير تكتك احتكت عجلاتها بالطريق ، و رفع بصره من على يمينه فوجد السائق هلعا يوجه كلمات عتاب قاسية نحوه ، فعلم أنه شرد شرودا طويلا كاد يؤدي به لا ما حالة إلى الهلاك ، فركض مسرعا حتى ابتعد عن الخطر المحدق ، و تطلع أمامه فانتبه أن أصدقائه قد غابوا عنه و أنه قد أضاع بتفكيره دقائق كثيرة ، فضغط بكفه على الكتاب و أدار كفه الأخرى وراء ظهره ضاغطا على محفظته الضخمة و انطلق يشق الجلبة التي ترتجس روحة و إيابا ، و زيه المدرسي الأزرق يرفرف مع النسمات التي تعترضه . تلك اللافتات التي لا تنتهي تبرهن للناظر أن خير شيء امتازت به الصين هي الفنون القتالية ، علاوة على ذلك صالات رفع الأثقال ، كما يوجد بكثرة مطاعم بنيت على طراز عتيق ، يشد انتباه الناظر أولئك المسنين الذين أدمنوا حسائها اللذيذ ، بلغ الفتى موراكي حيه بعجلة ، فوجد رفاقه قد اجتمعوا يلعبون الطابة متحررين من أزياء الدراسة الموحدة مرتدين ألبسة رياضية فضفاضة و أحذية تخف بها الحركة ، فعلم أنه فعلا أضاع وقتا طويلا ، و لا يزال المنزل على بعد خطوات معدودة ، وضع الفتى كتابه داخل محفظته و شد سمته ملصقا كتفه بالحائط كيلا ينتبه إليه الرفاق فينهال عليه مزاحهم الثقيل ، و لكن ما أن وصل الفتى أمام الباب مباشرة و فتح القفل مطمئن الروح ، حتى سمع صراخ أحدهم و كان كومارو ، أشقى طفل فيهم و أشدهم مشاغبة ، دوى صراخه : خذ يا موراكي ، و ما أن التفت الفتى حتى لمح الطابة متجهة صوب وجهه بسرعة خاطفة ، و لكنه بسرعة فائقة جذب الباب و دخل بعجلة ثم أوصده فارتطمت الكرة به ارتطامة قوية ، و دوى ضحك الأولاد بهستيرية جشعة ، و الفتى موراكي تنفس الصعداء و ابتسم إذ أنه نجى من مقلب مؤلم . خرجت الأم من المطبخ و يداها ببقايا رغوة الصابون و قد سمعت صوت الإرتطامة فقالت له : رويدك يا بني ، أتريد أن تكسر الباب ! . لم تعلم الأم أن الأطفال المشاغبين هم سبب الضربة المدوية و موراكي لم يشأ أن يخبرها خشية أن تعاتبهم أو تقسو عليهم ، قالت له : غير ثيابك و انزل لكي تتغدى . فهز برأسه و منكبيه ، ففهمت أنه ليست له شهية الأكل الآن ، فقالت له : كما تشاء . و عادت للمطبخ ، و في طريقه نحو السلم الذي يقود إلى غرفته توقف على طاولة وضع عليها جهاز موسيقى عتيق و إلى جانبه أقراص من سمفونيات موزارت ، كان هذا الجهاز بالنسبة للفتى ملخصا لذاكرة طفولة عابرة ، و كلما لمحه ترددت في عقله مواقف عديدة منها المضحك و منها المبكي . لمح أباه نائما على الكنبة ، كان يحس بحرية مفرطة تجاهه ، و عندما يكون بحضرته يزول الخجل كأن به ضباب صباحي منجل ، أخرج من جيبه كجة ثم صوبها نحو الأب و رماها حتى ارتطمت برأسه ، و صعد ركضا ، و قبل أن يلج باب غرفته كان يرهف سمعه و ينصت ولولة أبيه المضحكة و توعده بالعقاب الشديد ، و كانت الكلمة التي يغرق بسببها الفتى موراكي ضحكا هي عندما يصرخ الأب في نهاية المطاف قائلا : ألا ينام الشخص في هذه البيت البائسة ؟! . ثم يعود لنوم عميق كأن شيئا لم يكن . وضع الفتى محفظته على الطاولة ثم تهالك على سريره بعد تعب مضن و لم يدر كيف غط في نوم عميق لم يستفق منه إلا ليلا على صوت أمه تناديه إلى العشاء ، أجابها : قادم ، و كان يحس أن ثمة شيئا ما لا بد أن يتصفحه ، شيئا ما مختلفا سيجعل من هذه الليلة ليلة مختلفة ، تدبر قليلا ثم تفكر ، آه ، إنه الكتاب الذي قدمته له ناتاشي ، مضى مسرعا نحو المحفظة ، أخرجه منها ، ثم تيقن أنه لم يكن يناشد الكتاب في حد ذاته ، بل كان يناشد تلك الكلمات التي قالتها له الفتاة ناتاشي حول شخصية دون كيشوت التي حققت أحلامها على بلاط الواقع ، و قرر أن تكون هذه الليلة مسيرة على الأرض لا بين طيات الخيال ، غير ثيابه التي تناساها بفعل النوم ، و ارتدى قميصا أبيض و سروالا من خميلة بني اللون و حضر حذائه بجانب النافذة ثم ارتدى بنطوفا صوفيا و نزل السلم بسرعة و اتجه نحو المطبخ فوجد العشاء جاهزا و الأب ينهمك في الجريدة يعيد قراءة الأنباء الصباحية و الأم تأكل على مهل مطرقة ، انهال على الوجبة الساخنة بسرعة خاطفة ، حتى أن الملعقة أصدرت صوتا مزعجا جراء ارتطامها بقاع الصحن ، تنبه الوالدان له ، فأما الأب فقد اندفعت من جوفه ضحكات سخيفة ، و الأم تبسمت إذ أن ابنها لأول مرة يأكل بهذه الشهية المطلقة ، أتم الفتى عشائه بسرعة خاطفة ، ثم مسح فاه بمنديل ورقية كانت موضوعة على الطاولة العريضة و انفض إلى غرفته ، أوصد الباب من ورائه و اتجه صوب النافذة ففتحها على مصراعيها و لمح المدينة ليلا ، كانت غاية في الروعة بأنوارها المتراقصة و بالشوارع المكتضة كأن بها في عمق الصباح ، و نظر إلى غرفته من حوله فأحس لأول مرة بضيقها و حقارتها ، و أحس بسخف كيف أنه كان يقضي معظم حياته إن لم نقل أغلبها بين هاته الكتب المتراكمة ، و حدث نفسه قائلا : لا بد لهذه الليلة أن تكون جسر خلاص من براثن العزلة القاتمة . و قد زادت كلمات ناتاشي التي تتردد بخاطره من عزمه أضعافا و أضعافا ، و مرت به هاجسة عابرة رقت لها عيناه : و لم لا تكون أحلامي واقعة مثلما كان الحال مع البطل دون كيشوت ؟ .
و ختاما لهذه الهاجسة ، ارتدى حذائه الأسود الجميل ، و ألقى من أعلى السلم نظرات خاطفة فاطمئن لنوم أبيه على الكنبة و انشغال أمه بذلك البرنامج الذي يمتد ساعة و نصف الساعة ، فعاد ليوصد البب من خلفه و يفرغ الخزانة من الوسائد و يطرحها على الفراش في هيئة النائم ، و يغطيها بشكل منسق متناسق ، ثم قفز من النافذة حتى سقط في الفناء الخلفي و لحسن حظه أن الفناء معشوشب فلم يصدر صوتا فزعت له العائلة ، تسلق السور و قفز إلى الشارع و على ضوء الفانوس تفطن أن قميصه قد أصيب بشيء من الخضرة جراء العشب ، و لكنه لم يهتم ، اختلجه شعور غريب ، إنها المرة التي يجوب فيها لشارع ظلاما ، و أحس طمأنينة إذ أنه مع هذا الجو الذي تخيم فيه الظلمة لن يتعرف إليه أحد و لن يظطر لخوض حوارات بلهاء مزعجة ، و هكذا غير خطاه إلى النواحي التي تخلو من فوانيس كأنه شبح ظلام عابر . قرر أن يتجه نحو الملهى الليلي ، فذاك المكان الأقرب شبها لأطره التي كتبها ، و قد زاد فضوله لذاك المكان بسبب رفاقه ، فقد كان يسنعهم دوما في ساعات الفسحة يتحدثون عنه بعبارات مغرية و مشوقة حتى أنه حفظ من كلامهم الطريق المؤدية له ، و الملهى الليلي فضاء رحب من الألعاب التي يتسلى بها الأطفال ، فيه الأراجيح و زوارق الماء و مقطورات السكك المرتفعة و تلك السيارات التي يخوضون بها صدامات عنيفة مسلية ، و هو يفكر في جمال تلك اللحظات التي سيقضيها و كيف أنه سيطبق بعض المغامرات كفصول ممسرحة جميلة إذ به يصل مباشرة إلى الملهى و لكن حصل ما لم يكن في الحسبان ، لقد استوقفه شرطي كان يحرس الباب الرئيسي ، كان شرطيا طويلا أفركا ذا شنبات مموجة ، قال للفتى : اين تذكرة الدخول . فإذا بالفتى لا ينبس بكلمة إذ أنه لم يفهم قصد الشرطي و لكن فهم أنها شيء يشترى بالنقود كي يستطيع المرء الدخول به في المرة القادمة ، و لكن من أين تؤخذ هذه التذكرة ؟ ، أمن الشرطي نفسه ؟ ، و لكن هذا كله لا يهم فالفتى لا يملك نقودا . هنا لم يجد الفتى سوى التكدية حلا ليمر بسلام ، نظر إلى أعلى و حدج النجوم بنظرات ملؤها الإستغراب و الحيرة و بلهجة مظطربة متخوفة قال للحارس : انظر ، ااا انظر … ، و كانت كلماته تترجم رعبا شديدا ، فنظر الحارس اذ أن الفتى أوهمه بوجود شيء غريب في الفضاء ، رافعا بصره إلى حيث أشار الفتى ، و عندها اندفع الفتى متسللا من فتحة بين قدميه ، و كما سبق أن وصفنا أن الشرطي طويل القامة أفرك ، و عندما استفاق الشرطي من الحيلة زمجر غاضبا متقهقرا إلى الوراء باحثا عبثا عن الطفل الذي غاب بين المارة و بين الجمع الوفير و لم يكفه هذا إذ ثمنا لهفوته تلك اندفع معشر من الفقراء و المتشردين الذين لا يملكون ثمن التذاكر و دخلوا متفرقين ، حينها انشلت قوى الشرطي و صرخ صرخة مدوية و نزع قبعته و رطمها على الأرض ، و الأولاد يركضون داعين للفتى موراكي بكل خير . كان المكان غاية في الدهشة ، و كان موراكي سير و عينه لا تنفك تتطلع بتلك الأضواء الملونة المتراقصة و بالأطفال الذين تتعالى صياحاتهم عندما تنهال بهم المقطورة من أعالي السكة الحديدية التي شدت بأعمدة محكمة إلى فوق ، و بين الناس و المارة كان يحس لأول مرة أنه يطمئن لمكان مكتظ ، و مضى صوب مقطورة مهجورة كان يتخذها الأطفال للإستراحة ، مقطورة عتيقة تضفي على المكان مسحة من العراقة ، خشبها غاية في الروعة ، كان قد كتب ذات مرة عن قصة عبر فيها الزمان بمقطورة أخذته إلى أرض غريبة حيث يقيم قوم من الأقزام و الحيوانات يروعهم غول يدعى مالاماري ، فهم من جرائه جزعون ، دخل المقطورة و تخيل لبرهة كيف اخترقت به الزمان بسرعة سرمدية قاهرة ، ثم إذا به ينط في الملهى يخاله أرض ميرسو البعيدة ، و هو يمرر خطاه ألفى عصا ملقاة فحملها و خالها سلاحا قاطعا من الليزر ، ثم مضى و هو يخال المتجولين أقزاما و أسودا و أرانب ، ثم إذا به يرى من بين الزحام هيكلا ضخما ، و كان في الحقيقة زي دب ضخم يرتديه رجل ليرفه عن الأطفال ، فخاله الغول مالاماري ، فقبض مليا على عصاه و ضغط على زر كان يتوهمه و انقض نحوه مسددا له ضربة في بطنه ، فدوت تأوهات الرجل و إذ به ينزع الزي ، و على تلك الصرخات و ضحكات الناس و الأطفال استفاق الفتى موراكي من حلمه ، فإذا بالرجل يرفعه يده عاليا كي يصفعه ، فرمى بالعصو و عاد أدراجه راكضا ، حتى غرق في الجلبة كالعادة و ضيع الرجل أثره . خالجت الفتى ضحكات مضطربة و ابتسم قليلا في مشية مرتعشة و لكنه سرعان ما عبس لما رأى رفاق مدرسته قادمين من أمامه يتضاربون بمسدسات الخرز ، أدار بصره عن يمينه فوجد عجلة جرارة ضخمة فارتمى فيها كسمكة ، إلى أن مر الجمع ، ثم استأنف مسيره ، و إذ بيد تمتد نحو عينيه فتغطيها ، فأزاحها بعصبية و لما التفت انهارت قواه ، إنها الفتاة ناتاشي ، ابتسمت له و هو جاثم في نوع من الحمى ، مدت له بتذكرة و قالت : هذه تذكرة لدخول بيت الرعب ، خذها و استمتع فأبي مستعجل و لا بد أن نعود إلى المنزل فورا . فأخذها منها ثم مدت له بنقود و قالت : اشتر لك كوزا من المثلجات . ثم ناداها صوت جهوري كان على الأغلب صوت أبيها ، فودعته بابتسامتها المعتادة و مضت بخطوات سريعة ، و الفتى جاثم مكانه . شكرا لتلك الفتاة الطيبة ، ثم إنه لابد حقا من كوز مثلجات بارد لكي تنتهي هذه الحمى الهستيرية ، و حقا مضى نحو عربة جوالة و أعطاه جميع نقوده فرد إليه بعضها ، و ناوله مثلجات ضخمة ذات ثلاث دوائر من الفراولة ، كان يتلذذ بها طيلة مسيرته إلى أن أدرك لافتة ضخمة كتب عليها ” بيت الرعب ” و كانت على عتبتها مقطورات يركبها الراكبون ، فكر الفتى موراكي قليلاو تخوف لكنه قال في قرارة نفسه : هذه البيت لن تكون أكثر رعبا من لقاء الرفاق . و مضى مزمعا على خوض غمار جوفها المجهول ، قدم للمراقب تلك التذكرة و ركب المقطورة الثانية وهو لازال يحافض على مثلجاته ، و كبل بحزام للأمان ، و ما هي إلا لحظات حتى امتلأت المقاعد و انطلقت المقطورات تجوب السردح المعتم ، و على الرغم من ذلك كان الفتى يأكل مثلجاته على الظلام ، ثم اندفع صراخ من جوف الداموس البعيد ، صراخ مفزع مدو ، اهتز قلب الفتى موراكي و ارتج و نزع الحزام بتأن ثم فجأة يخرج وجه لمصاص دماء من سقف المكان و تعلو صياحات الأطفال فزعا ، وجه شد بلولب تكسوه الدماء و تنبعث منه صرخة ملؤها الشر ، و عندها لم يدر الفتى موراكي كيف رمى بمثلجاته التي كان يخشى فراقها و قفز من على المقطورة و اندفع في ذلك النفق الطويل هاربا عائدا إلى المخرج ، جزع المراقب حين رآه ، و دخل على الفور ضانا منه أن كارثة ما وقعت ، و الفتى يركض و يلهث خوفا ، ثم من بين الجمع يخرج ذلك الرجل الذي كان يرتدي زي الدب ، قائلا بنبرات ساخرة : إلى أين عساك تذهب يا شقي ، لكن الفتى تفاداه و ظل يطارده صوب الباب الرئيسي و لما لمح الشرطي الفتى قادما حتى فرح ، إذ أنه سيثأر لذلك السرب الذي تسلل فأخذ يعدو نحوه ، و في اللحظة الحاسمة ، انفظ الفتى يسارا فارتطم رجل الزي الدبي بالشرطي و سقطا أرضا مغشيا عليهما ، حينها أسرع الفتى موراكي خارجا و شد سمت الشارع نحو المنزل ، و بقوة خاطفة تسلق سور الفناء و عاد إى غرفته متشبثا بالنافذة ، و هنالك تهالك على الأرض يسترد أنفاسه ، ثم أطل فإذا بالرجلان يسارعان في الشارع و أحدهما يقول : مر من هنا ، لا بد أنه مر من هنا ، فأوصد النافذة و أحكم إغلاقها و مر خطاه المرتجفة ليطل فإذا بالأب نائم نوما عميقا و إذا بأمه قد أنهت برنامجها التلفزيوني و همت بالصعود ، فشكر الله أن رجع في الميعاد المناسب ، فعاد إلى غرفته و أعاد الوسائد إلى خزانتها ، و جلس على كرسيه ، و حينما مرت الأم ألقت نظرات خاطفة فرأته على حاله تلك من الإطراق فعلمت أنه يكتب كعادته فاطمئنت و مضت صوب غرفتها ، و حينها عاد الفتى موراكي إلى الباب فأوصده و وقف في عمق الغرفة و تنهد تنهدا عميقا ، و لأول مرة يحس بلذة الواقع ، و لأول مرة لن يدون هذه المغامرة على ورق ، و ضحك و هو يزمع أن يقوم بمغامرات أخرى في ليال أخرى كمثل هذه الليلة الرائعة المروعة .

___________
كاتب من تونس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *