المدينة وعصف الريح

*لطفية الدليمي

” كلما  أوشكت أن أنسى تهب عليّ الريح  من الجهات كلها، تهيج ألم الحروب ويتآكل جسدي في  جمرها الحارق..”
في قصة قصيرة لي  بعنوان (عاشقان في الريح) من كتاب (مسرات النساء) الصادر عن المدى، تحاول المرأة إعادة صياغة قلب بغداد وسط الزلزلة التي أحالت المدينة رماداً وأنقاضاً وظلمات، صحبها  الرجل  لكنه  كان قانطاً مما تقوم به وهي تعتزم رسم اللحظة، كما تأمل أن تكون عليه مدينتها، سترسم  وجوهها الألفية وتوقظ ذاكرتها التي طالتها الزلزلة وتحيي جوهر روحها الحضرية المطموس وتهيج روائحها العتيقة، تحرك أحزانها ومباهجها المرتجاة، تطلق موسيقاها وأغاني العشق  وترنيمات الأمل.
يتأملها الرجل بيأس العاجز  فيتقاطعان ويتناقضان، هو مستسلم لخراب المدينة المؤبد، يهاب التجربة والمرأة تأخذ بيده إلى حلم استعادة المدينة وشارع الرشيد  المغدور: بالفن ستستعيد كل شيء، بالعمارة، بالحلم وحده ربما، تحاول أن تمنح المدينة ملامح كانت لها، ترسم جسر الجمهورية وترسخ دعائمه في دجلة، ترسم المباني بهيبة عمارة ملكية، تطلق أسراب حمائم، ترسم قوارب عشاق تعابثهم اسماك ونوارس، تنزل إلى النهر مستجيبة  لنداء سري؛ فتعثر في القاع الغريني على حجر نيزكي يتوهج بضوء خافت، تزيل عنه ماعلق به من طين وعشب،  وتثبته وسط نصب الحرية، الرجل مندهش من غرابة أفعالها، يفكر بأنها ضحية لوثة سحرية حلت بعقلها وأعادتها الى زمن  الخرافة.
“استعاد الحجر النبض وبدأ يرسل اشعاعات وموسيقى وترانيم مرتلة بمزيج من لغات عربية وأكدية وسريانية وآرامية وتقافزت قبرات وحلقت طائرات ورقية وطيور حب وتفتحت في وادي الساحة أزهار شقائق وأقحوان بابلي وانهمر مطر من كلمات زرق مذهبة وحمر متوهجة، واتسعت الطرق والساحة والأنفاق وارتعشت المباني وضحكت النوافذ، انغمر كل شيء بفتنة الضوء ورعشات الجمال والصلوات والموسيقى ..”
بدأ قلب المدينة ينبض بالحياة؛ هكذا آمنت المرأة بحلمها، ومن لحظة التوهج   تلك شرعت بصياغة المشهد ليتأكد التناقض بين مسعى العاشقين؛ فالرجل – الذي شوهت روحه كوارث الحروب – ما عاد يؤمن بأي خلاص، تسمعه يهمهم: لاجدوى مما تفعلين؛ فالريح  قادمة لامحالة وستدمر كل شيء.
لعلها قالت له وربما أوحت له فكرتها التي لم تظهر في القصة: من سوانا  بوسعه  إعادة الروح  للمدينة وانقاذ  قلبها وشارعها  المغدور؟؟ من سوانا يستطيع  تشكيل أحلامها المهدورة بكلمات ونغمات وألوان ورؤى؟  أجبني؟
ينصاع لها غير واثق من جدوى مايقومان به، لكنه يسايرها، تشرع برسم حلمها:
مكتباتٍ ومسارح ودور سينما وصالات موسيقى ومعارض فنون، تدحرج من النوافذ ضحكات غنج وشهقات عشق. يرسم الرجل مصرفاً وصرافين يبادلون العملات، ترسم باعة زهور، يرسم نادياً ليلياً، ترسم كرة أرضية وغابات نضرة، يرسم بلاداً ثلجية، ترسم نهرين وغزلاناً، يرسم طائرات وقطارات ومحيطات وقارات فتهبُ الريح عاتية من الشرق والغرب وتعصف بالبلاد .
داخ الرجل والمرأة تشبثت بأحد أعمدة  شارع الرشيد ودومت الريح في الرواق   فانفجر الرجل غضبا: ما شأني بكل هذا والعمر زمن موقوت وقد ضاع؟ الريح قاتلة  تعاود العصف  كلما رسمنا العالم في مخيلتنا.
خمنت المرأة أنه بقوة يأسه ورغبته المتقدة في الهرب إلى أقاصي الدنيا  قد نجح في استدراج الريح التي نسفت المشهد كله. همهمت لنفسها : سأعيد اختراع العالم  ولن استسلم لتهديدات الريح.
______
*المدى

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *