أمبرتو إيكو يفضح فساد إيطاليا في «العدد صفر»

*لينا هويان الحسن

في رواية «العدد صفر» للإيطالي أمبرتو إيكو (دار الكتاب الجديد، ترجمة أحمد الصمعي)، يجد القارئ نفسه أمام عوالم رواية شائقة تركها صاحب «اسم الوردة» قبل رحيله العام الفائت، ليشعرنا بضرورة عدم التسليم بما يُحكى لنا دائماً: «الشكوك ليست أبداً مغالاة. الشك، دائماً الشكّ، بهذه الطريقة وحدها تصل إلى الحقيقة».

من خلال منطق الحياد الجذاب الذي يتقنه أمبرتو إيكو، يروي الكاتب الراحل قصة الخضوع المذلّ للقلم الأدبي (أو الصحافي) للسياسة التي تقف خلف الفساد وتغذّيه من خلال شراء الصحف وأحياناً الصحافيين، أو حتى عبر إنشاء وسائل إعلام مشبوهة سلفاً. في خضم هذا العالم المربك يضعنا امبرتو ايكو في متاهة مدروسة ومخيفة تقودنا حتماً نحو تساؤل مرعب حول حقيقة الأخبار التي تُذاع عبر وسائل الإعلام.

يحكي إيكو في «العدد صفر» سيرة جريدة لن ترى النور أبداً، لأنّ ناشرها أراد منذ البداية أن تكون أداة ابتزاز مختبئة وراء الصبغة الاعلامية، وتحت لافتة «البحث عن الحقيقة». وعبر حكاية تلك الجريدة «المتخفيّة»، يعرض إيكو حكايات عن تاريخ إيطاليا الحديث.

في اجتماع بين رئيس التحرير والمحررين الذين لن يكون في وسعهم إصدار أي عدد من الجريدة التي يعملون فيها، يقول لهم رئيسهم:

«لنقتصر على إشاعة شكوك عامة». وقد تكوّنت هئية التحرير من خمسة أفراد لهم جميعاً تجارب مختلفة وفاشلة في هذا المجال.

تبدأ الأحداث عام 1992، عندما يبدأ أعضاء هيئة التحرير المفترضة باجتماعاتهم الدورية والمنتظمة لأجل بحث ومناقشة المواضيع التي يمكن أن يتضمنها العدد صفر من الجريدة، وتطول تلك الاجتماعات وتتكرر وتُرفض كل الأفكار المطروحة لنشرها من دون سبب واضح إلى أن يُعثر على رئيس التحرير «برغادوتشيو» مقتولاً في مكتبه، لينتهي كل شيء وتتكشف الحقيقة.

يحاول إيكو في هذه الرواية أن يؤكّد فكرة مهمة تتلخّص في خطورة الأدباء «الذين فشلوا في تحقيق أحلامهم الأدبية»، وذلك من خلال الأستاذ كولونا، وهو كاتب فاشل –كما يقدمه إيكو في الصفحات الأولى من الكتاب- قطع عمر الخمسين من دون أن يكتب نصاً يحظى بشهرة أو إقبالاً جماهيرياً. يُقرّ الأستاذ كولونا أنه عمل لبضع سنوات على قراءة مخطوطات كان الناشرون يسلمونها إليه، فكان يقضي النهار كله وهو مستلقياً في فراشه، يقرأ بجنون مخطوطاً ثم يكتب عنه تقريراً في صفحتين يضمنه أفضل ما عنده من سخرية لتحطيم المؤلف المتهور، مهما كان مستواه. أمّا دار النشر فكانت تتنفّس الصعداء وتُكاتب «المتهور» لتخبره برفض العمل، حتى صارت مهنته أخيراً قراءة مخطوطات لن تنشر أبداً.

ولأنّ ثمة من يراقب دائماً ويميّز الفاشل من الناجح، يتمّ استدعاء كولونا تحديداً من أجل العمل على مشروع الجريدة التي لن ترى النور.

لكنّ ذلك سرعان ما يتكشف لكولونا الذي صار يشمّ رائحة الخيبات وباتت حياته تمشي على سكتين. ففي أثناء النهار يعيش الحياة المخزية مع هيئة التحرير، وعند المساء في شقة زميلته مايا، الصحافية الفاشلة أيضاً والتي استدعيت لتعمل معه في الجريدة ذاتها، فيحدث أن تعيش حالة حب مع الأستاذ كولونا.

الصحافيون جميعهم يدركون سلفاً أن صناعة جريدة حقيقية يعد مجازفة في بلد مثل إيطاليا، لكنهم واظبوا على طرح مواضيع يرفضها رئيس التحرير برغادوتشيو، مبرّراً ذلك عبر ذرائع مقنعة جداً ومبنية على الخوف من انتقامات الأجهزة الأمنية أو المافيات في حال نشر مواضيع تنشر الحقيقة كما هي.

هذه المواضيع المقترحة تكشف شذرات مهمة من تاريخ ايطاليا، وتحديداً العقود الأخيرة من القرن العشرين. هكذا يستحضر إيكو شبحاً وهمياً لموسليني، فنقرأ عن موسليني زائف يريد العودة لاستلام السلطة، وهنا فكرة التقرير الصحافي القائم على تكذيب حقيقة إعدام موسوليني وعشيقته كلاريتا أو كلارا بيتاتشي. في البداية، يعتقد الاستاذ كولونا أن ذلك من نسج خيال برغادوتشيو المغرم بنظرية المؤامرة والذي ورث عن أبيه يقينه «بأنه يوجد دائماً وراء ظهرك شخص يريد خداعك».

لاحظ كولونا أن برغادوتشيو كان دائماً يرسم مجموعة من النقاط تشبه ما نراه في مجلات الألغاز. مجموعة من النقاط تترابط لإبراز صورة ما. قامت نظرية برغادوتشيو على فرضية أن الديكتاتور لديه شبيه، يستعمله في استعراض رسمي حيث يجب أن يمرّ واقفاً على متن سيّارة، لا تُمكن رؤيته إلا من بعيد، لتجنب محاولات الاغتيال.

وليس غريباً على إيكو أن يقحم التاريخ في كتابته، والكاتب المولع بالتاريخ والذي لا يسعه كتابة نص خالٍ من التوثيق. وهذا ما نلمسه ايضاً في الرواية، بحيث نقرأ في تلك الصفحات الثريّة عن تاريخ ميلانو معلومات كثيرة ومهمة، وتحديداً عن الكنيسة التي أنشئت في البداية لجمع عظام مقبرة للمجذومين.

يبدو «الحب» كحامل درامي مستتر لكل النص، وذلك من خلال شخصية مايا التي تقرر الهرب خارج جحيم إيطاليا مدفوعة بروح الشباب، بينما كولونا الخمسيني يقول لها محبطاً كل آمالها: «أين سنذهب، لقد رأيتِ وسمعتِ أنّ الأشياء نفسها تقع في كلّ أوروبا من السويد إلى البرتغال، تريدين الهرب إلى تركيا بين الذئاب الرمادية؟! أو إلى أميركا، إن سمحوا لكِ بذلك، حيث يقتلون رؤساءهم وحيث يحتمل أن تكون المافيا اخترقت وكالة الاستخبارات المركزية؟ العالم صار كابوساً، يا حبيبتي. أنا أريد النزول، ولكنهم قالوا لي إنّه غير ممكن، نحن في قطار سريع لا يقف في المحطات الوسطى».

تريد الصحافية الخائبة مايا، البحث عن بلد لا توجد فيه أسرار، كل شيء يقع في وضح النهار. بين وسط أميركا وجنوبها، لا يخفى شيء على أحد. معروف من ينتمي إلى جماعة المخدرات، ومن يدير الجماعات الثورية، «تجلس إلى طاولة في المطعم، ويمرّ جمع من أصدقائك فيقدمون لك فلاناً على أنه رئيس تهريب الأسلحة، كله أناقة وجمال، معطر وحليق الذقن، والنادلون يجلونه: سينيور من هنا، وسينيور من هناك». هي بلدان بلا غموض، كل شيء يجري تحت أشعة الشمس، والشرطة تقول إنها فاسدة بمقتضى القانون، والحكومة وهيئات الجريمة المنظمة يعملون معاً كما ينصّ على ذلك الدستور، والمصارف تعيش على غسل الأموال، والويل لك إن لم تأتِ بأموال أخرى من مصادر مشكوك فيها. هم يقتلون بعضهم بعضاً فقط لكنهم يتركون السياح والناس ينعمون بالأمان.

إن ما يفعله إيكو في هذا النص يؤكد حقيقة أننا ضحية أيدٍ تعمل في الخفاء من خلال الصحف وقنوات التلفاز وتحركنا مثل الدمى، ولا شيء يحمينا، سواء أكنا وراء السياجات الأكاديمية، أو كان وضعنا مهماً في الأوساط الاجتماعية. الجميع ضحية الفساد.

_________
*الحياة

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *