*لندن: عدنان حسين
أحمد قبل أن يُفارق الحياة، في 19 فبراير (شباط) 2016، خلّف لنا إُمْبَرتو إيكو روايته السابعة التي تحمل عنوان «العدد صفر»، وقد تُرجمت كالعادة إلى عدة لغات، من بينها اللغة العربية، حيث سارعَ الدكتور أحمد الصّمعي بنقلها من الإيطالية مباشرة إلى لغة الضاد، وقد سبقَ له أن ترجمَ ثلاث روايات لإيكو، وهي: «اسم الوردة»، و«جزيرة اليوم السابق»، و«مقبرة براغ».
لا يمكن قراءة رواية «العدد صفر»، أو غيرها من روايات إيكو، قراءة أُحادية الجانب، ذلك لأن تحليل المضامين بعيداً عن ملامسة الأشكال الروائية لا يفي بالغرض المطلوب. فروايات أُمبرتو إيكو على وجه الخصوص تتواشج فيها الأشكال مع المضامين، وتتشابك فيها الحقائق مع الأبعاد الأسطورية، ولا يمكن إهمال الجوانب السيميائية المبثوثة في أنساقها السردية، فإيكو ليس روائياً فحسب، بل هو سيميائي، وفيلسوف، وأستاذ جامعي، وناقد أدبي، فلا غرابة أن تتسرّب الرموز والإشارات إلى تضاعيف جُمَلهِ وأنساقهِ السرديّة، ولا غروَ في أن تتسلل المفاهيم الفلسفية إلى مضامينه الروائية التي تنطوي غالباً على ثلاثة أجناس أدبية تترجّح بين التاريخ السريّ، والجريمة والغموض، والخيال التأملي. كما يجب ألاّ نأخذ على محمل الجدّ بعض تصريحاته الصحافية التي يقول فيها إنه لا يكتب الرواية إلاّ في عطلة نهاية الأسبوع، وكأنّ كتابة الرواية تزجية للوقت، ولا تحتاج إلى تلك الجهود المُضنية التي يبذلها في السيمياء، والفلسفة، والتحليلات النقدية الرصينة.
تتمحور الثيمة الرئيسة لهذه الرواية على نقد الإعلام الإيطالي، وتعرية الصحافة المكتوبة منذ أوائل التسعينات من القرن الماضي حتى الآن، ولكن المدقق في فصول هذه النص الروائي سيكتشف أنه مُحتشد بثيماتٍ أخر، مثل الكذب، والشكّ، والمبالغة، والفساد الإداري، ونظرية المؤامرة، والتحرّيات، والتصفيات الجسدية، والحنين إلى الماضي. وعلى الرغم من هذه الأجواء الكابية، فإن الحُب ينبع من وسط هذا الخراب، ويتحوّل إلى مُنقذٍ لشخصينِ عاشقينِ أوشكا أن يسقطا في هُوّة اليأس المُطلَق.
وترتكز البنية المعماريّة لهذه الرواية على إصدار صحيفة اسمها «الغد»، لكنها لن ترى النور أبداً لأن ناشرها الكوموندتور فيمركاتي أراد لها أن تكون أداة ابتزاز أكثر منها وسيلة إعلامية نزيهة، بحجة البحث عن الحقيقة ونشرها مهما كلّف الثمن. وهذه الصحيفة تذكِّرنا بالماكينة الإعلامية الضخمة التي كان يقف وراءها برلسكوني الذي حكم البلاد لثلاث فترات رئاسية، امتدت منذ عام 1994 حتى عام 2011.
تتألف هيئة تحرير الصحيفة من ستة أشخاص، وهم: «برغادوتشيو، وكامبريا، ولوتشيدي، وبلاتينو، وكوستانتسا، ومايا»، إضافة إلى رئيس التحرير سيمَي، ومساعده كولونا الذي وافقَ على أن يكون كاتبهُ الخفي Ghostwriter، الذي سيؤلف له كتاباً يحمل عنوان «الغدّ، أمس»، وهو عبارة عن مُذكّرات صحافي يروي وقائع سنة من العمل المتواصل لإنجاز جريدة يومية لن تصدر أبداً مقابلَ 80 مليون ليرة مُعفاة من الضرائب.
وعلى الرغم من أهمية الشخصيات الأخر في هيئة التحرير، فإن التركيز سينصبّ على كولونا ومايا وبرغادوتشيو، فالأول هو مساعد سيمَي، وراوي المذكّرات الذي سيجد ضالته في مايا فريزيا ويحبها، إضافة إلى شخصية برغادوتشيو المتخصص بكشف الأسرار والفضائح، والمسكون بهاجس المؤامرة الذي سيقلب مجرى الأحداث رأساً على عقب حينما يخبر كولونا، قائلاً: «عندي نبأ مثير ستبيع بسببه الجريدة مائة ألف نسخة لو كانت في السوق (…) إنها قنبلة تتعلّق بموسوليني» (ص79). تُرى، هل هذا الموسوليني زائف، أم أنه يتحدث عن النسخة الحقيقية التي واجهت مصيرها المحتوم على يد العقيد فاليريو، كما تقول الرواية الرسمية. هذه الحكاية سواء أكانت مُختَلَقة أم حقيقية هي بحد ذاتها رواية مكتملة داخل رواية، بغض النظر عن نظرية المؤامرة المحلية أو الكونية التي يركِّز عليها إيكو في عدد من رواياته التي يضع فيها قارئه في دائرة الترقّب والتشويق.
ثمة لمسة إنسانية تجعلنا نشهق بالحسرة، ليس على زوجته راكيلي وابنه رومانو وابنته آنا ماريا الذين نقدر معاناتهم، ولكن على عشيقته كلاريتا بيتاتشي التي تصوّرت أنها ستقابل عشيقها موسوليني، وليس شبيهه الذي ورطته الفاتيكان بركوب سيارة موسوليني الحقيقي الذي ذهب، بحسب نظرية المؤامرة، في اتجاهين لا ثالث لهما، فإما أن يكون قد اختبأ في الفاتيكان، أو أنه هرب إلى الأرجنتين وسوف يعود لتنفيذ الانقلاب الذي تدبرهُ أطراف كثيرة كالفاتيكان، والمخابرات المركزية الأميركية، والماسونية، وبعض المراكز التي تهيمن على حركة الأموال في العالم، لكن لا أحد يعرف لماذا توقفت محاولة الانقلاب في الساعات الأخيرة؟!
قد يستغرب القارئ هذه القسوة التي أبداها المقاومون الذين أعدموا موسوليني وعشيقته كلاريتا، فهذه الأخيرة لم تكن أكثر من خليلة تعلّقت، لسبب ما، بقائد كبير، وقررت أن تذهب في المغامرة إلى أقصاها، بغض النظر عن العواقب الوخيمة التي تنتظرها، لكن ما يلفت الانتباه حقاً هو العنف التي أبداه البعض من أبناء الشعب الإيطالي الذي شوّه معالم موسوليني، وحطّم جمجمته، ولم يعد بالإمكان التعرّف عليه، والتأكد من طول قامته، علماً بأن إحدى النساء قد أطلقت عليه خمس رصاصات لأنها فقدت في الحرب خمسة أبناء.
أشرنا سلفًا إلى أن الشك والكذب والمبالغة هي من العناصر الأساسية التي تعزز ثيمة نقد الصحافة المكتوبة، وتعريتها أمام الملأ. فمن خلال الشك يصل الإنسان إلى الحقيقة. أما الكذب، فيكفي أن نعود إلى الحوار المعمّق الذي دار بين كولونا وبرغادوتشيو، لنكتشف أن هذا الأخير يشكِّك بكل ما تقدمه وسائل الإعلام، حيث يقول: «أبي عوّدني ألاّ أصدّق الأخبار كما لو كانت مُنزّلة. الصحف تكذب، والمؤرخون يكذبون، والتلفزة أيضاً تكذب» (ص31). ثم يمضي في سلسلة تشكيكاته التي تبدأ بصورة الغاق الملطّخ في حرب الخليج الذي لا يأتي في ذلك الفصل من السنة، وانتهاءً بصورة نزول روّاد الفضاء إلى القمر التي لا يصدِّقها الكثيرون لأنها بلا ظلال!
الاتفاق الذي أُبرمَ بين سيمَي وكولونا على تأليف كتاب «الغد، أمس» قد أُلغي تمامًا بعد حادثة القتل المروّعة لبرغادوتشيو، كما توقف العمل على إصدار الأعداد التجريبية من الصحيفة. وقد أخذ كولونا كل مستحقاته مقابل أن يختبئ في مدينة نائية، أو يعبر الحدود، لكن مايا، هذه الكائنة الرقيقة التي كان يتصورها ضعيفة واهنة، أثبتت له العكس لأنها تحولت من شحرور ضعيف إلى ذئبة مسعورة تهاجم أي شخص يحاول إلحاق الضرر بالإنسان الذي أحبّته، وأخلصت له على الرغم من فارق السن الذي جاوز العقدين بقليل. فقد أعادت له الثقة بالنفس، وأرجعت له السكينة المفقودة، بعد أن نصحتهُ بالعودة إلى ترجماته من اللغة الألمانية، على أن تعود هي إلى الكتابة في مجلاتها الجديرة بصالونات حلاقة السيدات.
لا بد من كلمة أخيرة على أسلوب الرواية الساخر، فهيئة التحرير برمتها هي شخصيات فاشلة لم تنل غالبيتها إجازات جامعية. صحيح أن الراوي كولونا قد شعر بنوع من الفزع، حينما صارحتهُ مايا قائلة: «لا شيء أروع من الالتقاء الجميل لفاشلَين» (ص67)، لكنه شكرها من القلب لأنها نطقت بعبارة «يا لكَ من غبي»، بمثل هذه الجاذبية الخارقة!
___________
*الشرق الأوسط