جناحا قلبي المثقل، أنطولوجيا شاعرات عربيات بالألمانية

*عارف حمزة

ترجمة الشعر الجاهليّ كانت مهمّة مُحيّرة للعديد من المترجمين العرب والأجانب، والمستشرقين، لوعورة تلك اللغة التي باتت أكثر مفرداتها غير متداولة منذ عشرات السنوات، ولأنّ اللغة المُترجم إليها لا بدّ أن تُخرج مُفرداتها التي ماتت منذ زمن بعيد؛ إذ إنّ لكلّ لغة عالميّة لغة قديمة ما عاد يتداولها سوى القلّة، وتُسمى اللغة السوداء! إلا أنّ المختارات التي صدرت قبل أسابيع قليلة عن دار “مانيسّي” الألمانيّة بعنوان “جناحا قلبي المُثقل”، كأنطولوجيا لشاعرات عربيّات من القرن الخامس الميلادي وحتى اليوم، استطاعت أن تُسهّل تلك الأمور وتبسطها، وتجعل تلك الأمنية قابلة للتحقّق. وهي المختارات التي اختار قصائد لهنّ من قبل الشاعر والمترجم، صاحب دار الجمل، العراقي خالد المعالي، الذي ترجم تلك القصائد بالاشتراك مع هربيرت بكر.

الجاهليّ الحاليّ

 

اختار المعالي مختاراته القديمة ولكن تلك التي لا تحتوي تلك المفردات التي حارب بها فحول الشعر من الذكور في حروبهم وغزواتهم وشبقهم وغرورهم؛ بل اختار نصوصاً أقرب للغة اليوم، بل وأقرب للغناء حتى في معظم الأحيان.

تبدأ المختارات من ليلى بنت لُكيز (توفيت نحو عام 483 ميلادية)، المعروفة بليلى العفيفة، وقصيدتها المُغناة، غنتها أسمهان في عام 1938، الشهيرة “ليت للبراق عيناً فترى/ ما أقاسي من بلاء وعَنا”. وهي قصيدة مناجاة للإخوة والعشيرة كي ينجدوها من سبي الفرس لها. هي قصيدة حماسيّة من أجل “الحفاظ على الشرف” من أن يُسبى من العدوّ/ الغريب. وقد تُرجمت القصيدة كاملة، 14 بيتاً، بترجمة سلسة؛ بسبب أنّ القصيدة نفسها هي قصيدة مباشرة، ولا يوجد فيها ما يُصعب ترجمته.

على هذا النحو تأتي قصائد بقيّة الشاعرات من العصور الجاهليّة والإسلاميّة؛ مباشرة نوعاً ما وبسيطة في صورها وتراكيبها، كما في قصيدة الخنساء الشهيرة أيضاً في رثاء صخر، حيث اختار قسماً منها. ولكن المختارات تذهب إلى تنوّع المواضيع التي تندرج تحتها هذه الأبيات المختارة؛ فهي تتجوّل في الحب والحسّيات أكثر، كما عند عشرقة المُحاربيّة والأبيات الثلاثة لضاحية الهلاليّة، التي تقول في أحدها: “ثكلتُ أبي إن كنتُ ذقتُ كريقه/ سُلافاً، ولا ماء من المزن صافياً”، وقصيدة ثواب بنت عبد الله الحنظليّة وليلى العامريّة وحفصة بنت حمدون وصولاً إلى القصيدة الشهيرة لولّادة بنت المستكفي “أنا والله أصلح للمعالي/ وأمشي مشيتي وأتيه تيها”. بينما تذهب المواضيع الأخرى إلى “تحرّر المرأة” أيضاً ولكن من سطوة الرجل أو من سطوة الحضر، كما في القصيدة الشهيرة لميسون بنت نجدل الكلبيّة والتي مطلعها “لبيت تخفق الأرواحُ فيه/ أحبّ إليّ من قصر منيف”، وكذلك من سطوة ظلم الحاشية؛ كما قصيدة الحجناء بنت نُصيب والتي مطلعها “أميرَ المؤمنين ألا ترانا/ كأنا من سواد الليل قبرُ”. وهكذا تُعطي هذه المختارات صورة متقدّمة للمرأة في تلك العصور؛ حيث تظهر كامرأة تتحدّث باستفاضة عن الشهوة والحب والوصال وكامرأة تستطيع بقصيدة أن تُشعل نار حرب أو قطع رؤوس وزراء.

مختارات العصر الجاهليّ والعصور الإسلاميّة استغرقت نصف الكتاب تقريباً، ما يُقارب من 190 صفحة، وينتهي عند شمسة الموصليّة التي اختار لها المعالي ثلاثة أبيات من قصيدتها الحسّية الشهيرة، والتي تنتهي بهذا البيت الفاتن: “هيفاءُ إن قال الزمانُ لها: انهضي،/ قالت روادفها: اقعدي وتمهّلي”.

ترجمة مُبسّطة

 

يبدأ القسم الحديث مع الشاعرة فدوى طوقان ومن ثمّ نازك الملائكة، وهو زمن طويل جداً بين زمن الموصليّة وزمن طوقان؛ ويطرح سؤالاً جدياً عن عدم وجود تمثيل لشاعرات بين الزمنين.

الشاعرات المشاركات في القسم الحديث أكثرهنّ على قيد الحياة، وأكثرهنّ أيضاً معروفات في العالم العربيّ شعرياً و”صحافيّاً”. وقد حاول المعالي أن لا ينحاز لمنطقة واحدة؛ بل نوّع المختارات بين جزئي الوطن العربيّ المشرقيّ والمغربي، رغم أن الغلبة كانت للجزء الآسيوي. وضمّت المختارات الكثيرات من الشاعرات الشابات اللواتي أصدرن كتاباً أو كتابين، وهي فرصة جيّدة لهنّ لا يحصل عليها الآخرون بسهولة. وقد لا يحصلن عليها في كتاب خاصّ لكل واحدة منهن؛ لأنّ دور النشر الألمانيّة، بخلاف دور النشر الفرنسيّة والإنكليزيّة والإيطاليّة والإسبانيّة حتى، تفضّل المختارات حتى بالنسبة للشعراء العرب الذين لديهم منجز شعريّ.

نصوص القسم الحديث لم تخلُ كذلك من المباشرة ومن تلك القضايا التي تقصّد الكتاب إثارتها حول تحرّر المرأة الشرقيّة ورغباتها وقضيّة الشرف والمجتمع المتخلّف، رغم أنه كان متقدّماً في العصر الجاهليّ!! بينما بدا الأمر مع فدوى طوقان ونازك الملائكة أنه امتداد لذلك الزمن الذي سبقهم في الجزء الأول من الكتاب.

جاءت ترجمة الكتاب مبسّطة، من خلال تراكيب وجمل تبدو أقل مستوى من اللغة التي يكتب بها الشعراء الألمان، سواء القدامى منهم أو الجدد، وهي قد تعطي الشعر العربي مستوى أقل من المستوى الذي يحمله القارئ الألماني للغة العربيّة وللشعر العربي. وبغض النظر عن بعض الأخطاء هنا أو هناك، حيث كان بالإمكان الاشتغال بطريقة أفضل على الترجمة، أو من حيث وجود مقطع عربي تُقابله ترجمة لمقطع تمّ حذفه، أو كما حدث مع قصيدة رنا التونسي حيث تخالف الترجمة الألمانيّة ترتيب المقاطع العربيّة، وحيث المقطع الثالث هو نفسه المقطع الرابع، وهو قد يكون خطأ طباعياً على أيّة حال، بينما في الترجمة الألمانيّة نعثر على المقطع المحذوف. وهي من القصائد القليلة الفاتنة في هذا الكتاب؛ حيث تكتب التونسي: “أهربُ لأني لا أستطيع أن أحبّكَ سوى بطريقة واحدة/ طريقة مَن يفتحون النوافذ ويقفزون/ على ثقة من أنّ السعادة لا يُمكن أن تسقط على الأرض”.

  • عنوان الكتاب: جناحا قلبي المثقل، أنطولوجيا شاعرات عربيات بالألمانية

__________
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *