*أوس داوود يعقوب
لا يخفى على أحد من المتابعين للشأن الأدبي والثقافي عامة أن الكثير من المداد سال في الجدل الدائر حول مصطلح “الأدب النسويّ” في وطننا العربيّ، وقد حظي هذا الموضوع في السنوات الأخيرة بدراسات وأبحاث عديدة، في سعي إلى تبيّن سمات خاصة أو مميزات واضحة تخص الإبداع الأدبيّ للمرأة العربيّة المبدعة سواء في الشعر أو في النثر.
ومع وفرة الأسماء النسائيّة على امتداد الخارطة الأدبيّة العربيّة- اختارت “العرب”عددا من الشاعرات والأديبات العربيّات من الأسماء الأكثر انتشارا، ومن جيلين مختلفين، لتوجه لهنّ بعض ما تطرح هذه القضية من أسئلة، ويعدّ هذا التحقيق بابا تفتحه العرب لمواصلة الاهتمام الصحافي والنقدي بالأدب النسوي، ومكانة المرأة في الثقافة.
طرحت أسئلة كثيرة من قبل أهل الاختصاص والنقاد والأديبات أنفسهن على حدّ سواء، حول صحة وجدوى استخدام مصطلح “الأدب النسوي” في مدونة النقد العربيّ، ومن تلك الأسئلة نذكر: هل هناك فعلا خصوصية محددة تميز “الأدب النسوي” عن “الأدب الرجالي”؟ وهل هناك فروق جوهريّة تستدعي الانتباه إلى الحدود بين الإبداعين؟ وهل فعلا استطاعت بعض الأصوات الأدبيّة النسائيّة تجاوز الصوت الرجالي تحررا أم أن هذه التسمية مغرضة أطلقت لتقزيم ما تكتبه المرأة؟ وما مدى وجاهة ما ذكرته الكاتبة الفرنسيّة “سيمون دي بفوار” -في أربعينات القرن الماضي- من أن “الكتابة في هذا الموضوع وفي كل ما يتعلق بالمرأة أصبح يسبب قدرا كبيرا من الضيق والحرج للمرأة نفسها؟”.
ليلى الأطرش
المرأة.. حرية
الروائيّة الفلسطينيّة ليلى الأطرش، كانت أول من توجهت إليها “العرب” بما يطرح مصطلح “الأدب النسوي” من أسئلة، فأجابت بقولها: “رغم أن النسويّة نظرية إبداعية ونقدية غربية سائدة في العالم، وتلقى الاهتمام الواسع، إلا أننا في العالم العربيّ ما زلنا لا نجد التوصيف الحقيقي لنسويّة عربيّة. مردّ ذلك في اعتقادي هو غياب نظرية نقديّة عربيّة أصلا.
والأمر الأكثر أهمية هو مراوحة الأدب الّذي تكتبه النساء بين الخصوصيّة النسويّة والأوضاع العامة، التي يعاني منها مجموع النساء، السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة والاجتماعيّة.. وكل هذا انعكس على كتابات المرأة، فارتبطت قضايا النسويّة بما تعانيه النساء من قمع وقهر وتمييز اجتماعي وسياسي. والناقدة يمنى العيد نادت بنظرية “نسويّة اجتماعيّة” أعتقد أنها الأكثر تطبيقًا على مجمل إبداع الكاتبات العربيّات فمن الصعب فصل قضيّة المرأة عن الظروف القاسية التي تحدد هذا الوضع.
ولا يعني هذا عدم وجود من تخصصن في الكتابة النسويّة بمفهومها النقدي الغربي، وهو حريّة المرأة في جسدها، ولكن يظل عددهن قليلاً ونسبة كتاباتهن كذلك قياسا بمجمل ما تكتبه المرأة. الكتابة عن حريّة المرأة الجنسيّة وحق المرأة في جسدها لا خلاف عليه. ولكن حين تكون المرأة حرة اجتماعيا واقتصاديا ومستقلة القرار، فلا يمكن أن نطالب بحريّة مثل هذه بينما حياة المرأة في يد الرجل، ونسبة جرائم الشرف في البلدان العربيّة ما زالت عالية، بل أصبح مجرد السفور إدانة وعيبا اجتماعيا للفتيات.
هذا رغم أن مخرجات تعليم الفتيات تزداد وباطراد، لكنها لا تمثل انفتاحا فكريا وليست مؤشرا دقيقًا على تحرر النساء للأسف. ولا أنها مجتمعات فاضلة تحترم المرأة. فكثيرا من الفتيات يلجأن للدعارة لتوفير قوتهن، أو يبعن في أسواق نخاسة الزواج المؤقت أو حتى الدائم.
ويمكن القول إن أوضاع النساء العربيّات في العقود الماضية عانت من ردة قاسية نتيجة الحروب والصراعات الأهلية والتهجير واللجوء والأزمات الاقتصاديّة، إضافة إلى الردة الفكريّة والتعصب والانغلاق الذي تغذيه على الفضائيات الهلوسةُ الدينيةُ، التي تركت قضايا الأمة واستندت إلى أحاديث ضعيفة واجتزأت من النص ما يناسب أفكارها؛ وجميعه للأسف يؤكد على دونيّة المرأة وقوامة الرجل المطلقة حتى اقتنعت بذلك بعض المتعلمات قبل غيرهن، فسمعنا من الفتاوى ما لم تعرفه عصور الظلام العربيّة.
في كل هذا يصبح من الصعب على الكاتبة فصل قضيّة المرأة عن الملابسات والظروف التي تحدد وضعها. ولهذا فالنسويّة الاجتماعيّة هي سمة أدب الكاتبات العربيّات ورواياتي تندرج تحت هذا المسمى، وما أكدت عليه الدراسات العديدة حول أعمالي. الكتابة عن الحريّة الجنسيّة للمرأة في ظروفنا الراهنة ترف لا يحلم به السواد الأعظم من نساء عربيات يفترض أننا نكتب عنهن”.
سميحة خريس
فحولة الكتابة
فحولة الكتابة
وفي الغرض نفسه، أفادت الروائيّة الأردنيّة سميحة خريس بأن مصطلح الأدب النسويّ: “أثار ضجيجا كبيرا لأنه فسر على دلالات مختلفة، البعض قال إنه الأدب الذي يعالج قضايا المرأة؛ وهذا أصله، وما أراده منه أصحاب “الجندر” الذين استخدموه في مجال النقد الأدبي، والذين اعتقدوا بأن الكتابة في قضايا المرأة عبر الأدب لا تقتصر على النساء، ولكنّ كتابا كثيرين من الذكور معنيون به، وهناك آخرون ذهبوا إلى أن الأدب النسويّ هو ما تكتبه المرأة، وقد فعل ذلك نقاد وكتاب عرب وصحفيون، وهذا الجانب أثار هلع المرأة الكاتبة خوفا من تهميش ما تكتب أو وضعه في خانة أدنى مما يكتبه الرجل، من منطلق انطوائه على عنصرية واضحة تجاه المرأة كجنس.
وقد حوكمت نصوص المرأة بتعسف ناتج عن ازدراء خفي للمرأة، مثلاً إذا كانت النصوص شاعرية اعتبرت سطحية، بينما الرجل الكاتب شاعري بامتياز، وكتابته فحلة لا تنطوي على وهن. كلا المفهومين قد لا يحيطان بالصورة الشاملة بهذا المفهوم الذي اختلف عليه، ولكن عن نفسي أؤمن بأن كل كاتب يختلف عن الآخر، كما تختلف كل زهرة عن الأخرى، وسيختلف الرجال عن النساء وفقًا للتجربة التي تفرضها الاختلافات البيئيّة والفكريّة والإنسانيّة، نعم هناك أدب نسويّ، ولكني أنظر إليه بإيجابية، بل إني أذهب إلى مقولة “ما لا يؤنث لا يعوّل عليه” لأقول إن المستقبل لهذا الأدب الذي يمنح من صفات الأنوثة: الجمال، والغموض، والخصب والتناسل، والعطاء، والحكمة.
كلها صفات الأنثى التي إن تحققت في النص كان نسويّا بغض النظر عن كاتبه رجلا كان أو امرأة، وحتى لو لم يكن يعالج بصورة مباشرة قضايا المرأة، لأن كل قضايا الإنسان هي بالضرورة قضايا الكاتب أو الكاتبة.
وأظن أن أي كاتب أو كاتبة لا تحقق شيئا من الأنوثة لنصها في لغته وفكرته وسياقه تفتقر إلى إمكانية وضع أدب خلاق واعد، أظن وفق هذا المفهوم فإن المستقبل للأدب النسويّ، وليس على طريقة المؤتمرات والندوات التي تناقش المصطلح كمن يخض بالماء، كأنه موضة أو تقليعة تفيد في جمع الكاتبات والتفرج على أزيائهن. المطلوب هو تفكيك النص لاستقصاء العناصر النسويّة فيه ونبش جماله ومدى تفوقه وإنسانيته، هذا النص الأقرب إلى الجمال والمحلق القادر على التخييل هو نص نسويّ، لهذا أقول إن المستقبل للنص النسويّ”.
الذي يعوَّل عليه
بدورها رأت الشاعرة السوريّة فرات إسبر أن: “النظريات اختلفت وتنوّعت حول مفهوم الأدب النسويّ. هناك الكثير من الآراء التي تضاربت حول هذا النوع من الكتابة سواء على المستوى الغربي أو في عالمنا العربيّ الذي أثبتت فيه المرأة حضورها الواسع سواء على مستوى الشعر والرواية أو غيرها من أنواع الفنون.
المرأة على مرّ التاريخ كانت حاضرة ولكنّ حضورها مرهون بقبول الآخر لها والاعتراف بها ككائن له حضوره الإنساني والثقافي بعيدا عن تعقيد النظريات التي تحيلها إلى دراسة بيولوجية وسيكولوجية تحدّ من حضورها الخلاق على جميع الأصعدة التي ذكرت.
ما هو الأدب النسويّ؟ سؤال طالما راودني ولكنه لم يؤثر فيّ سلبا ولطالما منحني القوة في أن أرى منجز المرأة أهم من منجز الرجل على جميع الأصعدة. وما اعتبرت التصنيفات التي تطلق على أدب المرأة إلا قصورا لا يعوّل عليه.
الرجل يكتب والمرأة أيضا تكتب.! فلماذا لا نطلق على ما يكتبه الرجل أدبا رجاليا أو ذكوريا كما يُطلق على ما تكتبه المرأة أدبا نسويّا؟ الأدب، بغض النظر عن جنس كاتبه، عليه أن يرقى إلى مستوى الإبداع الإنساني الخلاق الذي يحمل الصفات الإنسانيّة، في كل عمل أدبي، بغض النظر عن جنس كاتبه.
الكاتبات الغربيّات واجهن في الغرب ما تواجهه المرأة العربيّة اليوم ولكنهن أثبتن مواقفهن في هذا الصراع التصنيفي، ومن الآراء التي جاءت بها النسويّة، وبالرغم من اختلاف التصنيفات والتسميّات، هناك نقطة أراها مهمة في نظري ولا بد من التوقف عندها وهي أنه “على المرأة الكاتبة أن تتوقف عن مخاطبة الرجل”. هذا النوع من الخطاب النسويّ الموجه مباشرة إلى الرجل بعواطف جياشة وقلب حائر وعاشق، أرجو منها ولها أن تخرج من هذا الخطاب إلى ما هو أوسع.
في النتيجة، الأدب هو خلاصة حياة وتجربة وفكر صانعه سواء أكان رجلاً أو امرأة. وعلينا أن نتجاوز هذه التصنيفات التي تقلل من قيمة العمل الإبداعي، وأن نرقى إلى مستوى النص بما يحمل من إبداع ورؤية وفكر!
عندما أقرأ نصا جميلا فلا أنظر إلى جنس كاتبه ولا أنحاز إلى أي صفة ذكوريّة. وعندما أكتب لا أكتب بصوت الأنثى في داخلي، ولا أكتب بصوت المرأة، أنا أكتب بصوت الإنسان في داخلي، بصوت الضمير الرائي الذي يكشف أمامي ما أريد قوله لغةً ومعنى، حسا وإدراكا، في فهمي لهذا العالم الذي أعيش فيه متساوية عقلا وفكرا مع الرجل، لذلك لا يحق له أن يمنحني التصنيفات التي يريدها، بل أنا أمنحه ما أريد من صفات الإنسان الكامل الذي يتحلى بها الأدب.
خلاصة القول: رغم تضارب الآراء والنظريات حول مفهوم الأدب النسويّ وبالنتيجة حتى ولو كان هناك من يريد أو يحاول الفصل ما بين أدب المرأة وأدب الرجل والاستمرار في إطلاق تسمية الأدب النسويّ أرى أن هذا الأدب النسويّ مع اعتراضي على التسمية، أثبت حضوره الكامل والكبير في العالم العربيّ والغربيّ بدليل الجوائز العالميّة التي تنالها المرأة عن منجزها الأدبيّ والإبداعيّ، حتى أن “جائزة نوبل للآداب” كانت من نصيبها أكثر من مرّة. هذا بدوره يثبت بأن هناك قيما إنسانيّة وأدبيّة وحضارية لا تقف عند حدود “الجندر” ولا تقف أمام معطيات تحدُّ من قصور الإبداع مهما كان جنس مبدعه”.
فاطمة ناعوت
ثيمة للكتابة
ثيمة للكتابة
الشاعرة والكاتبة المصريّة فاطمة ناعوت، قالت في إجابتها على ما وجّه لها من أسئلة إن: ’’المرأة، ذلك الكائن المُلغز للبشرية منذ منشئها. رماها البعضُ بالخطيئة الأولى التي قذفت بنا إلى الأرض وأفقدتنا الفردوس. وكللها البعضُ بإكليل المجد بوصفها “برومثيوس” الذي انتزع شعلة النار من السماء ليهبها البشرَ على غير إرادة ربّ الأرباب “زيوس”، حين أكلت من شجرة المعرفة رغم التحذير الإلهي. وربما يكمن جمالُ المرأة الأبدي في هذا الاختلاف، والخلاف، حولها، وفي أن تعويذتَها بعد لم تُفضّ وسرَّها بعدُ لم يُكشف. ولا ينبغي له”.
وتضيف ناعوت: “المرأةُ هي الإشكالية التي تبدأ بها النخبة أوراقَها في قضايا الحداثة والإصلاح وتغيير الخطاب والتطلع إلى التقدّم. وهي الشغل الشاغل لدى الصحافة والإعلام بألوانهما، ونجدُها حاضرةً بامتياز في أدمغة الكتاب والشعراء والفلاسفة. المرأةُ شديدةُ الحضور إلى درجة أن أضحت كيانا “افتراضيّا” ومنبعا لا ينضبُ ينهلُ منه كلُّ ذي قلم، لا كائنا مُتعيّنا مفكرا وفاعلا يمتلك مقوّمات الوجود والتطوير والسيادة والحكم والتفعيل.
لكننا حال تناول المرأة أدبيّا، يتراءى لنا أن نتعامل معها بوصفها “موضوعا”، لا بوصفها قضيّة سوسيولوجيّة أو أيديولوجيّة، مثلها مثل ثيمات الجمال والقبح والعدل والظلم وهلمّ جرّا. موضوعات وثيمات يتناولها شاعرٌ هنا، أو روائيٌّ هناك.
فالشعرُ والأدب، بل الفنون بوجه عام، ليست مشغولة بوضع حلول وإجابات، بل بطرح أسئلة، وتفجير إشكاليات. الأدب يتماسّ مع الواقع بخفة ورهافة، لكنه لا ينزلق داخل طميه، وإلا صار فوتوغرافيا ناقلة وعينا سياسيّة راصدة. والشعرُ خصيمُ السياسّة. الأدب يستشرفُ المسكوت عنه، أو الغائب في عمق المستقبل، فينبئ الإنسانية أن ثمة خطرا وشيكا قادما، علينا تداركه، بعين الاستشراف والترقب، لا بعين الرصد.
لهذا لا أرى أن مصطلح “الأدب النسويّ” مصطلحٌ دقيق، وإلا توجّب علينا أن نتبنى ألوانا أخرى من “النسويّات” مثل: النحت النسويّ، العمارة النسويّة، الموسيقى النسويّة، التشكيل النسويّ إلى آخر الفنون الستة، كما صنفها الإغريق. وجميعها مصطلحاتٌ غير مقبولة. أتعامل مع المرأة بوصفها إنسانا، لا بوصفها نوعا وفصيلا، لأن في تصنيفها لونا من التمييز والعنصرية، أرفضه بل أحاربه في مجمل مشواري الصحفي والأدبي. “هنريك إبسن”، مثلا، كتب “بيت الدمية” حيث صفقت “نورا” البابَ وراءها، كأعنف صفقة في تاريخ الإنسانيّة، وتسببت مسرحيته تلك في فتح باب الحريات أمام المرأة في أوروبا، أفضل مما فعل عشرات الحقوقيين.
لكنني، مع هذا، لا أضع رائعته تلك في خانة “الأدب النسويّ”، بل في خانة “الأدب الرفيع” الذي أصلح خللا مجتمعيّا دون أن يردد كلاما ضخما مما يخرج من حناجر النشطاء الحقوقيين،وينطبق الحال كذلك على كثير من قصائد نزار قباني وسواهما من المسرحيين والروائيين والشعراء.
أصدّقُ “سيمون دي بفوار” حين قالت في كتابها “الجنس الآخر”: “المرأة تولدُ إنسانا، ثم يجعلها المجتمعُ امرأة”. ولأنني خصيمُ المجتمع الصنمي الرجعي، أردُّ إليها إنسانيتها، لأنني، مثلها، إنسانٌ أترك “نوعي” عند باب بيتي قبلما أخرج، ثم أخرجُ للحياة إنسانا”.
جدل الذكوري والنسوي
من جهتها تضيف الشاعرة والكاتبة الفلسطينيّة آمال عوّاد رضوان: “حول الأدب النسويّ والأدب الذكوري والفروق بينهما لا يزال يدور جدل يحتدم، فكيف نفسّر الاختلافَ بينهما؟ وهل نزجّ أدب رجال كتبوا عن المرأة في جبهات ذكوريّة ونسائيّة؟
بيولوجيّا وجسديّا: بنية المرأة تختلف عن الرجل، فهل سيكولوجيّا: للكتابة خصوصيّة تنبع من الجنسويّة؟ وثقافيّا، هل للمرأة أساليب وطُرُق تعبيرٍ تميزها ولها علاقة ببيئتها الثقافيّة؟
ولغويّا: هل للمرأة لغة أنثويّة وخطابٌ وضميرٌ وسردٌ أنثويٌ رومانسيّ خاصّ يختلف عن لغةِ الرّجل؟ وهل الفرق التكوينيّ بينَ الجنسيْنِ مِن حيث تكوين المخ، ينعكسُ في إبداعاتِهما؟
تبين الأبحاث بأن المخ ينقسمُ إلى قسميْنِ، القسمُ الأيسر عندَ المرأةِ أكبر حجما وأقوى فاعليّة ممّا لدى الرّجل، يشمل مراكز اللغة، وظائفه الأساسيّة لفظيّة ومنطقيّة وملتصقة بالحقائقِ، بينما القسم الأيمن فيما يتعلق بالمجالِ البصريّ والخيال والأحلام، هو أكبر حجما عند الذكور، مسؤول عنِ الخيال والأساطير والتفكير الاستعاريّ والرمزيّ، فهل حقا الرجل أكثر ميلا للأساطير والخيال، والمرأة أكثر واقعيّة ومنطقا ووضوحا؟
علميا، القنطرة التي تربط بين القسميْنِ، تحدث التزاوج بين النصفيْنِ، رسائلها أكبرُ حجما عند الإناث، ممّا يُسهّلُ عمليّة نقل الصور، ويجعل المجال الإبداعيّ مفتوحا أمام النساء بشكل أكبر، إذن؛ لماذا عدد المبدعات عبر التاريخ أقل عددا من الذكور، رغم انطلاقتها منذ القرن التاسع عشر، وانفتاحها الثقافيّ والاجتماعيّ التحرريّ، ونيلها الكثير من الحقوق؟ هل يتدخل المجتمع ويمنعها ويقمع حريّتها؟ وهل الزّواج مقبرة المرأة المبدعة؟ وهل هناك فروق في الإنتاج بين الجنسينِ مع وجود الحريّة؟
المرأة المضطهَدة في الخمسينات ثارت وتمردت على عادات المجتمع الذكوريّ والمفاهيم الذكوريّة، فاسترعت انتباه النقاد، وأخذ مصطلح الأدب النسويّ في الانتشار ما بعد الحداثة، فأظهرت المرأة في المركز مناضلة مناهضة مبدعة، تعتني بذاتها الأنثويّة وبجسدها، وترفض التبعيّة وتخترق الثالوث المُحرّم: الجنس والدّين والسّياسة، واستخدمت حبكة غير تقليديّة بتداخل أجناس وآليّات فنيّة كثيرة كالتصوير، والرسم، والسينما، والصحافة، والأخبار، إلخ.. وأظهرت الرجل قاسيا مهشّما وضعيفا، مستغلا لها مغتصبا وعاجزا جنسيّا. هناك كاتبات مشهورات يستأهلن تخليد أدبهن، علينا إنصافهن في الميادين المختلفة، فالإبداع يحتاج إلى لغة سليمة وأفكار خلاقة ومبدعة تجاري العصر وتخدم المجتمع.
لينا هويان
مجتمع الأصفاد
أما الشاعرة والروائيّة السوريّة لينا هويان الحسن، فترى أن: “مصطلح الأدب النسويّ وجد مكانته ومسوغاته بسبب الأديبات أنفسهنّ، فمنذ أكثر من نصف قرن لم يستطعن الخروج من شرنقة “النسويّة” الضيقة. فغالب ما كتبته أقلامهن، كتب من وحي مشاكلهن الشخصية ونظرة قاصرة للرجل.
ويكاد يكون كل الأدب النسويّ العربيّ “محاكمة” لا تنتهي للرجل العربيّ الذي رفع شعارات التحرر بينما يمارس سلوكه الرجعي في حياته الخاصة. فالثورات العربيّة في المنتصف الثاني من القرن العشرين لم تبحث جديّا قضايا المرأة كإلغاء الأسباب المخففة فيما يدعى بجرائم الشرف والعار. والأدب العربيّ بالعموم لم يكفّ عن معالجة قضيّة الثورة الجنسيّة على صعيد الإثارة.
لحدّ الآن الثورات العربيّة أثبتت أنها ثورات ذكور، والثورات الأخيرة أثبتت ذلك بفجاجة. لهذا يبقى مصطلح الأدب النسويّ نتيجة سوء الفهم الذي وقعت فيه الحركة النسويّة العربيّة منها تحميل الرجل مسؤولية الظلم الواقع على المرأة، بينما هو في الواقع شريكها في تحمل أعباء الظلم الاجتماعي السائد في معظم الدول العربيّة. ويحتاج إلى الحريّة الحقيقيّة مثلما هي تحتاجها. أيضا التطرف بالدعوة إلى مساواة المرأة للرجل مساواة مطلقة في الأدوار الاجتماعيّة دون النظر إلى الفروق البيولوجية بين الجنسين.
الأدب العربيّ يحتاج إلى أديبات واعيات ومتجاوزات لأمراض وعقد النسويّة في ظل تزايد من يعارض منح المرأة حقوقها الإنسانيّة بحجة خوفهم عليها. باختصار الأديبات العربيّات يفترض بهنّ تقديم نصوص تجرؤ وتطرح تلك المرأة التي تصرّ على أن تمتلك حريتها لتصنع بها فضيلتها من الداخل بلا أوصياء وحرّاس وسيافين. والمشكلة أن المجتمع العربيّ حاليا زادت به نسبة النساء اللواتي ينطبق عليهنّ تعبير غادة السمان الشهير “الجارية التي تعشق أصفادها”.
غالب النصوص التي كُتبت مؤخرا بأقلام أنثويّة هي نصوص كيديّة لا تحمل قيمة فنيّة تذكر، نصوص سطحية غايتها فقط كيل السباب للرجل. إذ هن يعتبرن الأمومة والعائلة فخا والطلاق تحررا. من تجربتي الشخصية بالكتابة كنت حريصة على تقديم النص الذي لا ينتمي إلى جنس ذكوري ولا أنثوي، نص ينتمي فقط لقدراتي الأدبية وإحساسي الداخلي بالحريّة. ولا أتوقع أن هنالك من يمكن له أن يصنف نصوصي ضمن مصطلح الأدب النسويّ”.
أمال مختار
عقلية ذكورية
من جهتها تقول الروائيّة التونسيّة آمال مختار: “لكأن المرأة التي تكتب أدبا قادمة من كوكب آخر غير الأرض، وتنتمي إلى جنس آخر غير البشر. فالمرأة التي تكتب هي إنسان يكتب فقط لا غير. هي فقط امرأة جريئة نجحت في تجاوز الأعراف التي تكبّل المجتمع لتقوم بفعل التعرّي النفسي على الورق وهو تعرّ يحتاج إلى الثقة في النفس لأنه أصعب من التعرّي الجسدي بكثير. والمرأة التي تكتب هي إنسان استهوته مغامرة إعادة خلق الحياة وفق رؤيته الخاصة التي اجترحها من تجربته الذاتية ومن ثقافته وزاده المعرفي.
غير أن كرهي لهذا المصطلح الذي أنتجته العقليّة الذكوريّة المسيطرة على المجتمعات سوف لن يمنعني من التأكيد على أن هناك كتابة أنثويّة وأخرى ذكوريّة. وهذا التصنيف ليس مرتبطا بجنس الكاتب بقدر ما هو مرتبط بدرجة الأنوثة والذكورة الموجودة داخل كل إنسان، إذ هناك كتابة ذكوريّة عند نساء كتبن الأدب وهناك كتابة أنثويّة عند رجال كتبوا الأدب.
الحكاية ليست حكاية نساء ورجال بقدر ما هي حكاية ذكورة وأنوثة وهذا بديهي لأنّه قانون الطبيعة التي وضعت هذا التجنيس لتتكامل الأشياء. فالنص الأنثوي -بغض النظر عمّن كتبه- نص ينبض بالتأكيد بعالم الأنثى الثري بأحاسيسها وتجاربها وتفاصيلها وذكائها العاطفي الذي لا يتوفر عند الذكر الذي يختلف ذكاؤه وعالمه ومشاعره وتجاربه ورؤيته للحياة.
الكتابة هي مغامرة ذكوريّة وأنثويّة على السواء لا يقدر عليها من الرجال والنساء إلا أولئك الذين اختاروا أن يكونوا كالمجرمين لكن على الورق فيحملون أقلامهم -أسلحتهم وينزلون في عتمة المغامرة لا يعرفون أي جرم سيرتكبون ولا بأي صيد سيعودون. من يجرؤ على ذلك سوى إنسان مجنون مهوس بارتكاب أجمل الكتابات والتي ستظل خالدة..”.
تقييم سطحي
ومن عمق الداخل الفلسطيني المحتل يأتينا صوت الشاعرة والكاتبة الفلسطينيّة الشابّة منى ظاهر، لتؤكد لـ”العرب” أنه: “قبل الخوض في المفاهيم التي توصّف الكتابة، لا بدّ من التأكيد على أنّ الكتابة الأدبيّة الإبداعيّة المتميّزة ثيميا وفنيّا والمكتوبة بقلم رجل أو امرأة هي كتابة إنسانيّة بالأساس. وأن الكتابة الحقيقيّة هي المنتصرة لقيمتها الكونيّة الجماليّة، ولهذا أسعى دائما في مشروعي الإبداعيّ إلى الاشتغال والحفر للوصول إلى الخفيّ في أقاصي التأمّل لهذا الوجود بكل مركباته وتفاصيله وأنفاسه.
ما أسلفت ذكره لا يتناقض مع حقيقة أنه حينما نتعمق في النصّ الأدبيّ الجاد الذي تكتبه المرأة، فإننا نجد فيه سمات مميّزة وذات خصوصيّة، تجعل هذا العمل يختلف عمّا يكتبه الرجل. وذلك نابع كما تشير أبحاث عربيّة وأجنبيّة كثيرة إلى أن لكل جنس من الجنسين تجارب بيولوجيّة نفسيّة تاريخيّة اجتماعيّة ونفسيّة وثقافيّة مختلفة.
لا سيما بعد أن تطوّرت العادات والتقاليد بفضل النضالات النسويّة التي أثّرت على أشكال وأنماط هذه الكتابة، حيث لم يعد يُنظر إلى خصوصيّة كتابة النساء على أنها تعبير عن دونيّة ومحدوديّة، بل جرى التعامل معها كحق من حقوق المرأة في التمايز، فقد خاضت المرأة المبدعة في الكتابة عن الذات/ الداخل/ الأنثويّ والآخر/ الخارج/ الرجل. وعبّرت من خلال كل ذلك عن معترك الحياة الواقعيّة بكل مستوياتها البشريّة والماديّة: الأيديولوجيّة، النفسيّة، المجتمعيّة والسياسيّة. وكل هذا الاشتغال الجديّ يدحض بالتأكيد اتهام الكتابة النّسائيّة بأنها منكفئة على الهمّ الخاصّ بمعزل عن التصاقها بالواقع العام.
وعليه فإن وجود مصطلح الأدب النسويّ لا يعني أنه مفهوم جاء ليقيّم هذا الأدب من على السطح، لأننا نعلم جيّدا أن ما يقيّم النصّ الأدبيّ هو المعايير النقديّة الموضوعيّة والعميقة للنصّ الجيّد/ السّاحر/ المستفزّ بغضّ النظر عن مبدعه أو مبدعته.
إن الكتابة النسائيّة متأثرة بنسب متفاوتة بالفكر النسويّ، حينما ترتبط هذه الكتابة بتسليط الضوء على واقع المرأة ومشكلاتها وتخبطاتها وأحلامها وحواراتها الداخليّة في واقع أبويّ منحاز لصالح الرجل.
ومع ذلك، تلزم التفرقة بين الأدب النسويّ الذي تكتبه امرأة وبين مصطلح الأدب النسويّ، لأن النسويّ توجّه فكريّ يعبّر عن حركة نضال النساء بغية نيل حقوقهنّ ومقاومة قمع النظام الأبويّ وقيوده المفروضة عليهنّ.
وعليه فإن مفهوم الكتابة النسويّة يعني الالتزام بقضايا المرأة سواء كانت هذه الكتابة من إبداع امرأة أو من إبداع رجل. فالنسويّة ترى أنّ الاختلاف في الجنس هو أساس اللامساواة البنيويّة بين النساء والرجال. وأن هذه اللامساواة بين الجنسين ليست نتيجة حتميّة للاختلاف البيولوجيّ، وإنما هي من صنع الشروط الثقافيّة التقليديّة لذلك الاختلاف. إن النصّ النسويّ هو الذي يأخذ المرأة كفاعل في اعتباره، حيث يولد النصّ المهموم بالأنثويّ المسكوت عنه، الأنثويّ الذي يشكل وجوده خلخلة الثقافة الأبويّة الذكوريّة المهيمنة.
عطب حضاري
وأخيراً تبين لنا الروائيّة اللبنانيّة الشابّة ديالا بشارة المقيمة في السويد أن: “الأدب هو ذلك التوق الحقيقي، الكامن في النفس الإنسانيّة للوصول إلى الأبديّة، لمدينة الأحلام المؤجلة في ذلك الاضطراب بين الأمل والوهم. إن الروح المتمردة الجامحة تغوص إلى الأعماق للبحث عن ذلك الصيد الثمين في اللانهاية. إنه مسعى لاكتشاف الإنسان لذاته، لوجوده في ذلك التألق الرائع.
في هذا المضمار يمكننا القول إن القهر الإنساني ذو منشإ واحد، لا فرق بين المرأة والرجل، وانفصاله عن ذاته وعن الطبيعة والبحث الدائم للعودة إلى ذلك المكان الغامض، إلى الحياة ذاتها.
الأدب الذي لا نشم منه رائحة الحرائق والنار، والذي لا يحفر التربة ويخرج الذهب، لا يمكن أن يكون أدبا. في هذه الحالة لا يمكننا أن نقول أن هناك أدبا للرجال وأدبا للنساء. الأدب هو أدب، عالم من رموز وتشكيل من الكلمات، للبحث عن الغامض في ذلك المكان المخبإ والغامض.
إن العطب الاجتماعي والسياسي للحضارة القائمة تجعل النساء أكثر حساسيّة لظروف الحياة وإنتاجها لكونهنّ يندفعن للبحث عن البوح السردي للوجود والتجدد والبقاء.
إن هذا التمييز، رجال/ نساء جاء نتيجة الانقسام الاجتماعي السياسي لهذه الحضارة المعطوبة القائمة على التراتبيّة القاسيّة. لهذا يجب أن نعرّي كل من يدفع باتجاه تعميق هذا المفهوم ووضعه في مكانه الصحيح”.
____
*( العرب )