ثنائية الجد والهزل ( عن الارتجال)

خاص- ثقافات

*حلا السويدات

يقال إنّ الذاكرة الجادّة هي ذاكرة كتابية وليست شفاهية؛ أي أن مرحلة التنقيح هي الأجمل إنْ خٌلّدت الحالتان؛ ولهذا انتصر القيرواني في عمدته للشعر المصنوع، ولقد عُلم لديكِ أنّ من القصائد الخالدات، هي الحوليّات، والتي تحترم بلا شكّ لما فيها من براعة السّبك وعميق المعنى، ولا يقتصر الحديث على الشاعر كمعيار أساس للجّدة ما بين الارتجال والكتابة إلّا معانيه لحظة الحديث الفنيّ عنها، بل قد تطرق الأمر إلى النثر، فروي أن الجاحظ كان في يومه فكِهًا؛ أي أنّه يمعن في أخذ الآخرين على محمل الهزل، ويتخذهم مادة كتابية لكتاب هزليّ خالد يؤخذ من قارئيه على محمل الجدّ، مثل: رسالة التربيع والتدوير، ويمكننا القول إنّ هذه الرسالة تحديدًا الأحوج لأن تؤخذ على محمل الهزل.

إنّ حاجة الإنسان إلى الكتابة حاجة لإيجاد خطاب عقلي صارم؛ أي خطاب خاضع للتأويل والتفكير وملزم بالمسؤولية، وإن إرجاء هذه الصفات المهمة لما يرتجل على هامش اليوم أمر مخيف، فإن الارتجال المسؤول قد يقتل يا صديقتي، فكيف يمكنك محاسبة العقل (المؤلف/ صاحب خطاب على حسب العادة)، على تعبير سخيف قاله لأنّه لم يشرب القهوة في صباح يومه، أو ما يقوله في مساحة زمنية لم يفكر فيها في قول شيء جاد، فكيف يمكنك السيطرة على كل هذه الاحتمالات بينما يمكنك في الوقت ذاته الحصول على مادة كتابية جادّة الطرح لتعلقها بجمهور واسع ومتنوع العقول وطرق التفكير؟

وبدقة أكثر، كيف يمكنك الثقة في أن الآخر يفكر بجدية في اللحظة التي يتحدث معكِ فيها عن أمر ما، في لحظة أنه يختزلك ( للسرعة وعدم تضييع الوقت) في نصيحة لقراءة كتاب ما؟!

أذكر في إحدى المرات عندما فكّرت بإضافة تعليق جاد على حديث غير جاد كتبتُه وأرسلته عبر الإيميل ليؤخذ على محمل الجدّ، وقد أُخذ!

هل علاقة الآخر بالآخر كحديث شفاهي بالضرورة قائمة على الهزل؟

الأمر نسبيّ، حديث دكتور في محاضرة أو مفكر في ندوة أو مفكّر تبعًا لصفته التي يكون غرضها حماية الذات، أو شخص يمارس الدعاية حول ذاته وأفكاره أو شخص لا يكتب، أو شخص يعتقد أن عليه أن يكون جادًّا في لحظة ما مع المتحدث، وعليه ألّا يمارس قدرته على التحكم في عقل الآخر من خلال الحيل التي يتيحها الذكاء اللغويّ، كلّ هذه الحالات قد يكون فيها الحديث جادًّا، لكن لا يؤخذ به.

إنّ تفصيل الجديّة في الأحاديث، قد تكون خطوة مسؤولة جدُّا، تخيل معي اثنين يتناظران، وأفلس أحدهما من عدة أفكار معترف فيها ومنطقية، وتعد كشرط من شروط الحوار، فإنه قد يرتجل أفكارًا معارضة لإنقاذ الموقف، ويرجئها لكاتب ما، بغض النظر إن كان هذا الإرجاء حقيقيًا أم لا.

بناءً عليه، فإنّ أخذ أي حديث عربيّ الحقيقي اليومي قد يبدو مغامرةً كبيرة، فيلزمك أولًا التحقق من صدق الكلام، وقياسه نسبةً للمنطق، وتصفيته من قوالب الأفكار الجاهزة، ومعرفة الذاتي منها، ثمّ تنقيحها وتبريرها، أي؛ ما الذي يجعل هذه الأفكار منتخبة لتكون فكرة أساسية مطروحة تفرض حقها على النقد، ثمّ القبول أو الرّفض، في حين أنّ هناك أطروحات كثيرة قد قدّمت نفسها بقوّة على مرّ الأزمان، ولا يختص هذا الحذر يا صديقتي بما يقال مشافهةً بل بالمكاتبة أيضًا، لكن هذه العملية الذهنية ستكون ناجعة أكثر في المكاتبة لأن النصّ يحاور النصّ، مع غياب الإنسانية اليومية بأبعادها، وأكثر دقة، إنّ نجوعها يكمن في تجريدها.

 

 

 

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *