ملهم الروائيين الأميركيين كيرواك وروث وفولكنر.. يعترف

*حسونة المصباحي

في هذه الفترة التي كثر فيها التهافت على كتابة الرواية في مختلف البلدان العربية، بحيث أصبح هذا الفن يفتن حتى الشعراء والأكاديميين، لا نعثر لدى كتّابها على من يمكّننا من نص نظري يشرح فيه كيفية كتابة روايته، ويكشف لنا رؤيته الفنية، واختياراته اللغوية والأسلوبية والفنية، وغيرها.

وربما يعود ذلك إلى أن جل المتهافتين على كتابة الرواية في هذا الزمن، تنقصهم الجدية والصرامة. كما أنهم مُتعجّلون بحيث لا يجدون الوقت لتعميق تجاربهم، وتوسيع ثقافتهم، وقراءة الأعمال التي أبدعها الكبار من الشرق والغرب.

مؤخرا صدر للمرة الأولى في ترجمة فرنسية كتاب صغير للروائي الأميركي توماس وولف الذي توفي عام 1938 وهو في الثامنة والثلاثين من عمره تاركا أعمالا روائية قليلة لكنها ألهمت روائيين آخرين من أمثال فوكنر وجاك كيرواك وفيليب روث، وآخرين كثيرين.

عنوان هذا الكتاب الصغير “قصة رواية”، وفيه يروي توماس وولف مختلف المراحل والأحداث التي مرّ بها قبل أن يصبح روائيا معروفا، ومشهودا له بالموهبة والبراعة والقدرة على ابتكار عالم روائي متميز، وفريد من نوعه.

مسارات الكتابة

في البداية يشير توماس وولف إلى أن كتابه الصغير هو ثمرة نقاشات دارت بينه وبين ناشره وصديق له حول الطريقة التي تتمّ بها كتابة الرواية، وما يتخلل ذلك من شطب، وإعادة كتابة فصول وفقرات أكثر من مرة، وترتيب الأحداث، وتوليد الشخصيات، وتتبع مسارها حتى النهاية. وهو لا يرغب في إعطاء دروس، ولا في رسم قواعد، وإنما هو يطمح فقط إلى وصف سنوات طويلة عاش فيها التيه والفقر والتشرد، واكتوى بتجارب مريرة ستكون في ما بعد حاضرة في ما سيكتب من روايات وقصص. لذلك يمكن القول إن كتابه هو قصة مُبللة بعرق جهود بذلها، وآلام تجرعها، وأوقات عانى فيها من اليأس إلى درجة أوشك فيها على أن يصاب بالانهيار العصبي، بل بالجنون!

وينتمي توماس وولف إلى عائلة متوسطة الحال. وكان والده عاملا إلا أنه كان مُغرما بالأدب. وفي أوقات الاستراحة، كان ينشد أمام ابنه الصغير قصائد لشعراء كبار من أمثال اللورد بايرون وكيتس وشيلي، ومقاطع من مسرحيات شكسبير الشهيرة. وفي شبابه أمضى توماس وولف سنوات الدراسة الجامعية في لندن. وكان يقيم في شقة ضيقة، لكنه أحب المدينة وضبابها الذهبي في صباحات الخريف. وكان يُدْمنُ على القراءة، مُنْجذبا إلى أعمال جيمس جويس تحديدا.

شيئا فشيئا بدأت تتبلور في ذهنه كتابة رواية عن التجارب التي عاشها حتى ذلك الحين. وذات يوم شرع يكتب، ويكتب، ويكتب، مدفوعا بحماس ناريّ لشاب قرّر أن يصبح كاتبا متحديا بذلك كلّ العراقيل، وكلّ المُنغّصات. وكان في الثامنة والعشرين من عمره لمّا أنهى روايته الأولى، إلا أن الناشرين رفضوها.

مع ذلك لم يصبْ توماس وولف بالإحباط، وانكبّ على إعادة كتابة روايته بنفس الحميّة والنشاط. وفي النهاية صدرت الرواية في نيويورك، واستقبلها النقاد بإعجاب أدهشه، وروّعه في نفس الوقت لأنه لم يكن يرغب في الحصول على شهرة سريعة، تجعله يغفل عن سلبياته ونواقصه، ويحجم عن تطوير تجاربه في الكتابة، وفي الحياة. بعد صدور روايته الأولى راحت الأسئلة بشأن مستقبله تعذّبه، وتؤرّقه إلى درجة أنه كان يهمل الاعتناء بشقته. وها هي في حالة من الفوضى المريعة؛ فالكتب والمجلات على الأرض، والكؤوس والصحون وسخة، والثياب مكدّسة في الخزانة. وهو لا يعير كلّ هذا أيّ اهتمام، فما كان يشغله هو كتابة رواية ثانية تثبت للنقاد والقراء مرة أخرى موهبته العالية.

وما كان يشغله أيضا هو أن البعض من سكان مسقط رأسه اتهموه باستغلال ظروف حياتهم في روايته. وكان البعض منهم يبعثون إليه برسائل تهديد ووعيد.

الخوف بعد النجاح

لا ينفي توماس أن روايته عكست جوانب كثيرة من حياة الناس في مسقط رأسه. وهو يعتقد أن جلّ الروايات الشهيرة مثل “دون كيوختي” لسارفانتس، و”الأحمر والأسود” لستاندل، و”أوليسيس” لجيمس جويس، عكست حياة أصحابها. ويضيف توماس وولف قائلا “أنا على يقين بأن كلّ عمل فنيّ جديّ هو بالأساس مُستخلص من السيرة الذاتيّة لصاحبه، وأن على الكاتب أن يستعمل تجربته في الحياة كمادة لعمله لكي يبتكر شيئا جديدا وعميقا”.

إلاّ أن استغلال السيرة الذاتية قد يكون مضرا بشاب في بداية مسيرته الأدبية حين يعتقد أن حياته البائسة والفقيرة روحيا ووجدانيا يمكن أن تكون مثيرة للاهتمام إذا ما أفرغها في عمل روائي من دون أن يتمكن من التمييز بين الواقع والخيال.

ولكي يجمع المواد الأساسية لرواية ثانية، انطلق توماس وولف أكثر من مرة إلى فرنسا، وإلى إسبانيا وإيطاليا ليعيش تجارب جديدة، وليحتك بأناس من ثقافات ومن جنسيّات مختلفة.

وقد كتب يقول “لقد تحققت وأنا أطوف في بلدان كثيرة من أن أفضل طريقة لاكتشاف موطني الأصلي هي مغادرته، وأن الوسيلة الأكثر نجاعة للعثور على أميركا هو أن تكون في القلب، وفي الذاكرة، وفي الفكر، وفي بلد آخر. وأعتقد أنه بإمكاني أن أقول إنني اكتشفت أميركا خلال السنوات التي أمضيتها بعيدا عنها. اكتشفتها لأنني كنت في حاجة إليها. والمحصول الكبير لهذا الاكتشاف يعود إلى أنني كنت أحس بأنني قد أفقدها”.

وخلال الفترة التي أمضاها في جمع مواد لروايته الثانية، اكتشف توماس وولف أن حياة الفنان ليست سهلة، لا في الأزمنة القديمة ولا في الأزمنة الحديثة.

كما اكتشف أن الفنان الحقيقي هو ذاك القادر على ابتكار عوالم، وعلى تفجير اللغة، وعلى خلق أساليب فنية منسجمة مع الشخصيات والأحداث. لذا كان عليه أن يبحث في أعداد هائلة من أشكال الحياة في بلاده، وفي العنف الوحشي الذي يسمها، عن القوة، وعن الحيوية اللتين تمكنانه من أن يبدع الرواية الجديرة بأن تكون عملا فنيّا بالمعنى الأصيل والعميق للكلمة.
________

*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *