2017.. لا شيء يُعوَّلُ عليه

*إيناس سليمان

على عتبة العام المقبل 2017، وقفنا مع عديد من أديباتنا في العالم العربي، لنقف منهنّ على ما يحمله يوم رأس السنة من معانٍ بالنسبة إليهنَّ. سألناهن: كيف يتعاطين مع يوم يحدد نهاية عام بكل أفراحه وأتراحه، ويفتح بوابة عام آخر أيضاً بكل أفراحه وأتراحه؟ هل هو يوم للقرارات الحاسمة في حياتهن؟ أم هو مراجعة لما مرّ في عامٍ مضى، وربما يكون استعداداً لما هو مقبل؟ هناك من رأته يوماً استثنائياً يحمل أملاً بإشراقة المستقبل، استهلالاً بعمر مقبل، أو ربما مجرد بهجة الغامض المنتظَر. وهناك من عرّفته على أنه شقاء المجهول، غربة الآتي، وخشية العبور إلى منطقة اللا أمان. هو يوم كغيره من أيام الإحباط الكثيرة التي تعترينا، قالت إحداهن، كذا هو طقس احتفالي منذ عهد الطفولة الغالي كما عرّفته أديبة أخرى.

من مشرق الوطن العربي إلى مغربه، عرفت روائيات وقاصّات وناقدات يوم رأس السنة الميلادية كيوم له مكانته المحفوظة في الذاكرة.. حتى لمن اعتذرت منهن عن المشاركة لفقدان هذا اليوم معانيه بالنسبة إليها، أو لمن طاوعها الكلام لينسال على ورقة بيضاء.. حتى في لحظة الخذلان تلك، وفي لحظة الإصرار على أنه لم يعد يوماً استثنائياً.. حتى في تلك اللحظة بقي يوماً يحمل تحديات الانتقال إلى عتبات جديدة، ربما لن يتمكنّ من الانتقال إليها مهما تبدلت السنون. من جهة ثانية، سنجد لديهنّ ما يقال حول العام المنصرم 2016. وتلك حكاية أخرى تتماسّ مع خطط وأمنيات بعضها تحقق، وبعضها مات، وبعضها ما زال ينتظر.

في ما يلي شهادات أسهمت بها مثقفات ومفكرات من العالم العربي، وفتحن ذكريات القلوب ليشاركن الآخرين بها.

رغبة في السلام

لا شيء لدى الشاعرة والروائية الإماراتية ميسون صقر للسنة الجديدة سوى الأمل بأن يحل السلام على هذا العالم، تقول: «لا شيء سوى التحديق في العالم حولك والنظر فيما سيكون عليه العام المقبل.. لا شيء سوى الجلوس في البيت والنظر للعالم من النافذة.. نافذة القلب.. لا أفكر أبداً في عمل تخطيطات كبرى، فكل حين لديَّ مشاريع كتابية ليس لها علاقة بنهاية العام أو بدايته، فقط أحاول أن أدخل العام الجديد بهدوء نفس، ومحاولة تفاؤل، ورغبة في أن يكون أفضل من السابق.

لا شيء أكثر.. وكتابة كثير من الرسائل والبوستات للتهنئة، ربما في الأعوام القليلة السابقة أصبحت الأمنيات الخاصة بالعالم من حولنا هي التي تتصدر ليلة عيد الميلاد: رغبة في هدوء الحال، وأن يكفي الله الناس شر القتال والاقتتال، والموت والشتات، وأن يكون في عون المشردين واللاجئين والأطفال..

أتمنى للعالم السكينة والهدوء قليلاً.. فالقلب أصبح لا يحتمل كل هذا…».

وتقف الروائية والناقدة والأكاديمية المغربية زهور كُرّام على الضفة الأخرى من حيث شعورها تجاه العام المقبل، فهي لا تخفي سعادتها بمجيء عام جديد، وتقول: «يعتريني إحساس بالفرح، وأنا أستقبل السنة الجديدة. ربما، لأنني أتجه دائماً نحو الأفق والمستقبل، ولستُ من النوع الذي يظل يتلفت إلى الوراء. الوراء زمن تحقق بشكل أو بآخر، يمكن أن نستفيد منه، إما باستثمار عناصره الفاعلة، أو بتجاوز عناصره السلبية. المهم، علينا أن نتدرب على تفعيل زمن الوراء بشكل يُسهم في تطوير زمن الحاضر والمستقبل، وأن لا يكون عنصر ارتباك. لهذا، أجدني مع كل سنة جديدة منفتحة على الجديد. غالباً، لا أتخذ قرارات، إنما أعتمد مفهوم البرمجة، وأحرص على تحقيق نسبة مئوية مما خططت له. أضع في كل سنة برنامجاً، وأحرص على العمل في مساحته، دون الالتزام به حرفياً، لأننا في الثقافة والكتابة والبحث العلمي -وهي المجالات التي أشتغل بها- نظلّ منفتحين على أسئلة جديدة».

وبالنسبة إلى سنة 2016، تضيف كرّام، «يمكن اعتبارها سنة الاستمرار في رهاناتي الثقافية، التي تضيء تاريخي. حققت بعض المكتسبات التي ميَّزت 2016، منها حصولي على جائزة كتارا في صنف النقد، وتولي إدارة دار نشر، بأفق ثقافي. إلى جانب حضوري في المنتديات الثقافية والجامعية، وتأطيري لورشات أكاديمية، واعتمادي كخبيرة في مؤسسات عربية. وسنة 2016 ستظل مستمرة معي مع 2017، لأن فيها برمجتُ لكتب ومشاريع جديدة ستعرفها السنة الجديدة».

كان.. وصار!

بالنسبة إلى الروائية والقاصة اليمنية ناديا الكوكباني لم يعد العام الجديد يمتلك المعنى نفسه، وتوضح: «بداية العام في ما مضى كانت تعني لي أملاً وأماني لا تتجاوز الذات والمحيط من الأهل والعائلة، بدوام الإنجازات والصحة والسير بنجاح في المهنة وتطوير الذات. اختلفت هذه البداية منذ عامين وأصبح الأمل وكل الأماني في خلاص وطني من الحرب، وفي أن يكون عاماً مبشراً بالسير نحو الأمن والسلام والاستقرار».

ورغم الأوضاع الصعبة في بلادها، فإنها حققت بعض النجاحات على الصعيد الشخصي، فـ«القرارات التي اتخذتها في عام 2016 ونفذتها كانت تسير كما خططت لها منذ بداية العام، ورغم كل ظروف الحياة الصعبة في اليمن في العام الماضي، إلا أنه على المستوى الشخصي العلمي ترقيت إلى درجة أستاذ مشارك في مهنتي، وعلى المستوى الأدبي خرجت روايتي الرابعة للنور (سوق علي محسن). وعلى المستوى العام، قمت بالمشاركة في بعض عمليات بناء السلام في اليمن على المستوى السياسي والمجتمعي».

حلم البقاء

منذ بدأت الحرب في ليبيا، صارت الروائية والقاصة المغربية رزان نعيم المغربي، تبتهج لأنها فقط على قيد الحياة، وتشرح: «صرت أصحو كل صباح والامتنان يغمرني بأني وأسرتي على قيد الحياة. غادرت ليبيا قبيل ثلاثة أعوام، ولم يكن هذا عشوائياً بل مبنياً على تخطيط مسبق.. اتخذت قراراً، وشكّل انعطافة مهمة في حياتي، وكنت أستدعي كل شجاعتي للبدء من الصفر. منذ عامين أقيم في هولندا، هنا ومن اللحظة الأولى أدركت الفارق الشاسع بين أن تكون حياتك مرهونة في بلادك لعمل طائش تنهيها أو تغيّرها، وبين أن تصبح في أمان وملزماً بالسير وفق جدول محدد من المواعيد الرسمية وغيرها».

أما عن العام الفائت، فـ«كان جله للاستقرار والقراءة وكتابة مقالات لبعض الصحف، ومع نهايته تمنيت أن أحقق تقدماً في تعلم اللغة الهولندية، واستكشاف عالمي الجديد وعقد صداقات، وسأعتبره إنجازاً مهماً بعد أن أخذ جل وقتي. ومع فصل الربيع المقبل، أي بعد انتهاء الدراسة، لديَّ مشروع روائي أعمل على إنجازه. أشعر بالسعادة لأني تمكنت من قراءة مزيد من الأعمال الإبداعية، وتغلبت على الخوف من بدايات جديدة بعد منتصف العمر».

الرعب من الزمن

منذ فترة طويلة ورأس السنة لا يعني، للروائية العراقية ميسلون هادي، شيئاً سوى الرعب من سرعة الزمن التي أصبحت مخيفة، وعلى الأغلب فإن وسائل التكنولوجيا تلعب دوراً كبيراً في ترك هذا الانطباع المرعب بين الناس. فعلى سبيل المثال، (كأنها البارحة) عندما رأينا جورج وسوف صبياً يغني «حلف القمر يمين»، ثم صعد «وسوف» السلم، ووصل نهايته في غمضة عين، تاركاً لنا علامة استفهام عن سرعة هذا الزمان.

وهناك أيضاً المشاهير من أطفال السينما مثل بطل فيلم «وحيد المنزل»، أو بطلة فيلم «إي تي»، بالأمس كانوا هنا، واليوم تراهم يجاوزون سن الطفولة والشباب. ومثلهم أطفال السينما العربية، نراهم اليوم في فيلم أو مسلسل، وبعد يومين في الكوشة، أو حفل التخرج.. إنهم يهرمون في العلن، ونهرم معهم. وتتابع: «الزمن هو نفسه لم يتغير منذ الأزل، ولكن العجلة كل العجلة في التكنولوجيا التي تأتي بالخبر قبل حدوثه، ويصبح قديماً بعد دقائق من حدوثه.. دوخة ما بعدها دوخة بين ملايين الصور والكلمات والأرقام والإعلانات والأخبار، ناهيك طبعاً برموز الاتصالات التي يتم تحديثها كل يوم بطرق جديدة، ضاحكة أو باكية أو غاضبة.. حتى لم يعد اللحاق ممكناً بهذا الجدول المتسارع، لم يعد ممكناً تأمل الناس لوجوهها الحقيقية في ماء قراح بدلاً من هذه المياه الطامية».

أين ذهبت أعيادنا؟

تضع الروائية والقاصة الأردنية سميحة خريس علامتي تعجب أمام (رأس السنة!!)، ولا تتردد في القول: «لم أعد أحتفل برأس السنة»، وتستطرد موضحة: «ليس لأن العمر يمر ويتناقص، وليس استنكاراً لبهجة أعياد البشر، ولكني نفسٌ عربية مصابة بالعطب، أقف مكاني أتأمل، لا طاقة لي إلا هذا التأمل الكسيح، ماذا حدث في حياتنا العربية؟ وأين ذهبت أعيادنا وأفراحنا وثقتنا على تصور المقبل؟ الحياة تقترح أن كل رأس سنة يقود إلى غد، ونحن في زمننا الراهن نراه يرتد إلى الخلف، دون أن يعيد لك شباباً ولا طموحاً، رأس السنة سيمضي مثل غيره من الأيام بلا اقتراحات لتجميل الحياة، ربما ببعض ما تبقى لنا في النفس ننتظر وببعض الأمل الذي لا بد لنا منه كي نعبر هذه السنة».

أسئلة جارحة

تحمل الروائية الإماراتية مريم الغفلي الكثير من الأسئلة المتأملة والجارحة للعام المقبل، تقول: «فجأة يختفي عام بكل ما فيه من أحداث، ويهلّ عام جديد يخبئ تحت عباءته ما يخبئ، هي سنوات وتُسحب من رصيد العمر. أيام لن تعود ولا تعوض تجري بسرعة. نتطلع إلى مستقبل مخبوء، نعمل له وننتظره بلهفة رغم أننا لا نعلم: هل ما انقضى كان الأجمل أم ما هو آتٍ؟ هل المحطات التي توقفنا عندها سنعود لها، أم هناك محطات جديدة تنتظرنا؟

وفي النهاية هي ورقة من أوراق العمر تتساقط، هو عام يرحل، يأخذ من يأخذ، ويترك من يترك. هي صفحات حياة تقلبها أصابع الزمان. ما بين دقيقة وأخرى، ساعة تلو ساعة، ويوم يجرّ آخر، ويمضي كل شيء. ونحن كبشر سيأتي علينا يوم ونرحل في وقت وزمن محدد، ولا يظل إلا ما تركنا وغرسنا من أعمال وإنجاز خيراً كان أم شراً هو ما سنحمل.

حالنا مع كل عام جديد نقف متسائلين في انتظاره: هل يا تُرى سيتغير شيء من حال هذه الأمة التي تعيش كربتها، هذه الأمة التي تكالبت عليها الأمم تنهش في لحمها؟

في كل عام نتساءل ونتطلع إلى الأحسن، فهل يا تُرى سنرى الأحسن الذي نتمناه؟ هل ستعود بلداننا العربية أفضل مما كانت؟ هل سينتهي زمن القتل والتقتيل.. بل زمن الفتن؟».

وفي النهاية، لا تملك الغفلي سوى الأمنيات: «نتمنى ذلك، نتمنى عيش السلام الحقيقي، وقطف ثمار التطور والإنجاز.. نتمنى توقف كل هذا الجنون واللا معقول الذي نشهده».

سُنّة الحياة

ترى الروائية والناقدة السودانية آن الصافي أن رأس السنة يحمل في داخله النقيضين: تفاؤل ووداع، فـ«رأس السنة الجديدة يحمل في مقدمه تفاؤلاً لما قد يأتي به العام الجديد، ووداعاً لعام مضى بكل ما فيه. بشكل عملي أحاول أن أتقبل حقيقة أن العمر يمضي ولا يمكننا أن نوقف كوكبنا الأخضر عن الدوران حول نفسه أو حول الشمس لنستمتع لأطول وقت ممكن باللحظات الجميلة، أو نسرع من دورانه لتجاوز اللحظات غير المرغوب فيها.

إنها سنّة الحياة. منذ طفولتي الأولى عهدت هذه الليلة مناسبة جيدة لتجمع أفراد الأسرة في جو احتفالي نمضيه معاً، ونخصص دقائق نقف فيها على شاطئ البحر هنا في مدينة أبوظبي، نشاهد الألعاب النارية تنسج ألوانها البديعة استبشاراً بمقدم أول ساعات العام الجديد. حتماً تبادل التهاني مع الأهل والأصدقاء فرصة جيدة نبث فيها الأمل».

أما سنة 2016، بالنسبة إلى الصافي، فقد «مضت كما خططتُّ لها: إصدار روايتي (كما روح) ومتابعة الإعداد والنشر لأوراق سلسلة الكتابة للمستقبل وهي أوراق فكرية ثقافية. وبمشيئة الله سترى روايتي التالية (إنه هو) النور في غضون أيام من الآن».

سعادة متعددة الطبقات

فرصة ومناسبة للسعادة، هكذا تحدثت الناقدة المصرية الدكتورة أماني فؤاد عن رأس السنة، تقول: «يعني لي رأس السنة الميلادية فرصة ومناسبة للسعادة، وطرح أحداث مرت بما يتخللها من حزن أو فشل، ومحاولة البدء من جديد. فلطالما عشقت أول الأشياء، بداية الحيوات، سواء لسنة أو ليوم أو لطفل أو صغير حيوان، أعشق بدايات الأشياء فهي لحظة التوتر الزمنية التي تحمل شغفاً».

وتضيف: «يأخذ استقبالي لرأس السنة الميلادية عدداً من طبقات الشعور والفاعليات حسب الأدوار التي أقوم بها أولاً كأم وزوجة وفرد في عائلتي الكبيرة أسعى دائماً لخلق جو احتفالي ظريف يتسم بالحميمية، بإعداد عشاء عائلي وألوان من الحلويات والتجهيز لمشاهدة فيلم ظريف، أو برامج المنوعات التي تقدم حصاداً للأعمال الفنية المتنوعة، في محاولة لإدخال السعادة ودفء العائلة على الجميع، كما كانت تصنع أمي الجميلة. أما دوري كناقدة وكاتبة وأستاذة جامعية فيستغرق الشاغل الكبير من تفكيري ومهامي، بالطبع أتمنى التطور والتقدم فيه باستمرار».

أما في ما يخص عام 2016 فـ«كان من طموحاتي أن أدفع كتابي الرابع إلى المطبعة ليخرج إلى النور، لكن جاءت مشاركتي في لجان تحكيم جائزة كتارا للرواية لتهبني فرصة ملزمة للاطلاع على المشهد الروائي العربي بأكمله، ووجدت أنها ميزة رغم ما أخذته قراءة الأعمال الكثيرة من وقت، إضافة لكتابة التقارير النقدية المفصلة عنها».

زمن للقتل

بدأت الروائية السورية رشا عمران حديثها لنا بالسنة المنصرمة 2016 وليس بالسنة المقبلة 2017، معتبرة أن السنة الماضية «هي الأسوأ على الإطلاق منذ عقود طويلة عالمياً والأخص عربياً، نحن نعيش الآن عصر الجنون الدموي، ربما هذا الوصف الوحيد الذي يليق بما نحن فيه، التطرف في حده الأقصى، ليس التطرف الديني فقط، بل القومي والعنصري والقبلي والعائلي، العالم عاد إلى زمن ما قبل الهويات الكبرى، وربما إلى ما قبل الهويات عموماً. نشاهد جميعا مشاهد القتل، ونشم رائحة الجثث الطرية والقديمة، ويوشم الدم وجهنا وأجسادنا، ومع ذلك نتابع حياتنا وكأن كل شيء يسير في مساره المعتاد. المجانين والمعاتيه والقتلة هم حكام العالم الآن، ونحن ننساق وراءهم كما لو كنا قطعاناً نسير باتجاه صوت الجرس».

وتنتقل رشا عمران إلى العام الجديد متسائلة: «هل سيتغير شيء في 2017؟ شخصياً لا أعتقد ذلك، أنا فقط أحلم ببعض التغيير، بعض الحلم هو بعض ما تبقى لنا، ولم يعد لدينا خيارات جمعية للنجاة. وما من نوح أو سفينة منقذة، نحن في زمن الخلاص الفردي. الفردي بكل ما للكلمة من معنى، بالنسبة إليَّ لا شيء أعول عليه في 2017 ولا حتى في ما بعد، سوى كتابتي الشخصية. ليس لديَّ وطن ولا عائلة، حتى الصداقات تتقلص يوماً بعد يوم، أشعر أنني أقف عارية وسط برية موحشة. الكتابة هي أمي التي تحميني من ريح البراري. أعترف: ليس لديَّ أي أمل برؤية بصيص ضوء يشع قليلاً في هذا العالم، سأحاول أن أجد في الكتابة فتيلاً ما ينير لي ما تبقى من حياتي».

بالتخطيط لا بالأحلام

لانتهاء عام ومجيء آخر حسابات، تقول الناقدة العراقية الدكتورة نادية هناوي، إنها في سياق الزمن دقائق وساعات وأيام وشهور، ولكنها في سياق العطاء إنجازات يحسبها المرء بمقدار ما حققه منها وما استطاع تنفيذه من خطط وبرامج ومشاريع. وهذا مرهون بقدرته على ضبط عجلة مسيرته تبعاً لطبيعة المسالك والمسارات التي ينبغي أن يوجه نحوها تلك العجلة، ليجعلها تسير بخطوات محسوبة بدراية وثقة منتظمة الإيقاعات، منضبطة التوقيتات، ومتسارعة الحركات، متيقظة لما هو طارئ، وقادرة على إبدال جزئيات بغيرها، وخصوصيات بمثيلاتها، وهكذا يضمن لمطامحه أن تظل في القوة ذاتها التي بدأت بها، والهمة عينها في التضافر ما بين العزم والشكيمة. وهكذا يكتب للمخطط له أن يرى النور، ليكون متجسداً على أرض الواقع، حقيقياً لا مجرد أحلام يتكئ صاحبها في تحققها على الحظ، متناسياً أنه لو صمم بقصد وإرادة؛ لظفر بالمطلوب بقصد وإرادة أيضاً.

لنتفاءل بالخير لعلنا نجده

تنظر الناقدة والروائية المصرية الدكتورة شيرين أبوالنجا إلى رأس السنة الميلادية باعتبارها «بداية عام جديد ولكنها أيضا نهاية عام ولَّى وانتهى. تماما مثل جانوس، الإله الإغريقي الذي كان ينظر في اتجاهين، ومنه تم اشتقاق اسم شهر يناير باللغة اللاتينية. ينتابني الكثير من الفرح لحلول بداية جديدة، أفرح كالأطفال، أبتهج، أنتظر. وعلى الجانب الآخر أكتم خلف هذا الفرح طبقة كثيفة من الشجن، فالزمن وحركته وسرعته من الظواهر التي تصيبني بالشجن وأحياناً بالفزع.

وعلى الرغم من أنني بشكل عام أخاف النهايات، إلا أنني أنتظر بداية جديدة هذا العام، علها تكون أخف وطأة مما عشناه العام الماضي، علّ الإنسانية تسترد عقلها الذي فقدته. أتمنى أن تُكبح شهيتها المفتوحة للقتل. هو عام مختلف لأن الذي مضى كان سيئاً، ولست متأكدة من أن المقبل سيكون أفضل. لنتفاءل بالخير علّنا نجده».

حالة شجن

هو يوم كباقي الأيام، هكذا ترى الروائية السورية سوسن جميل حسن، رأس السنة الجديدة، وتردف: «الزمن يتدفق مثل النهر جارفاً أعمارنا من دون رجعة، ما يمنحه خصوصيةً ما أنه يدفعنا إلى وقفة مع الذات والتأمل في لحظة وجودية ملتبسة عالية التوتر والشحنات العاطفية، ليس بمعنى الجرد واستعادة التجارب وفرزها والندم على بعضها أو الإلحاح في طلب بعضها الآخر، بقدر ما هي حالة من الحنين والشجن المرتبطين بالماضي والذكريات، خصوصاً تلك البعيدة الموصولة بعمر الأحلام، عندما لم تكن الحياة إلاّ مجموعة من الأحلام تزداد ثراء كل ليلة، عندما كنت أنتظر وعودًا ملونة تعدني الأيام المقبلة بها، وكنت لا أملك أن لا أثق بوعودها فالحياة كانت غاوية، لم يكن القلق قد تسلل إلى نفسي بعد، وكانت البدايات مفتوحة على آماد واسعة.

زاد عليَّ الحنين والشجن في السنوات الست الأخيرة، شعور طاغٍ يتداخل فيه الخاص بالعام، هو صدى الحرب الطاحنة التي تمر بها بلادي سوريا، والأزمات المنفلتة من كل القيود التي تتغول في حياتنا. لم تعد المناسبات ذات حضور في حياتنا، ولم يعد الزمن أكثر من غول لا نعرف كيف نروضه أو نهادنه عله يمسخ عمر هذه الحرب اللعينة. لا أدعي أنني استطعت اتخاذ قرار ما في هذا العام كما غيره، كما لا أزعم أنني أنجزت شيئاً مهماً، فقط أنا أتوه في الأسئلة كلما ازدادت الحالة سوءًا وتعقيدًا، لكن وأنا أواجه هذا السؤال الواضح المحدد اليوم، أستطيع أن أقول بأنني لا أملك إلاّ أن أكتب وأكتب وأكتب».

رأس السنة وذيلها

ونختتم هذا التحقيق، مع الروائية والقاصة التونسية آمال مختار التي تقول: «السنة.. وراءها سنة وبعدها أخرى.. أوّل السنة هو رأسها وآخرها هو ذيلها.. رأسها هو البداية، هو أول ما يخرج من الرحم.. هو صرخة الحياة الأولى، فرحتها، فجيعتها.. وللبداية دهشة الغموض وشوق للطموح.. للبداية رهبة الارتباك وتلعثم الانتظار.. وللبداية أيضاً ضوء الأمل وشموع للفرحة والتفاؤل.. تدور السنة عبر دوامة الزمن فيلتقي رأسها بذيلها في ذات اللحظة لتكون تلك لحظة الصفر أو لحظة العدم..

أما ذيل السنة فهو لحظات اختصارها أثناء العد التنازلي لأنفاسها الأخيرة.. لحظات الاختصار تأتي مغمّسة في رحيق المرارة، عابقة بطعم النهاية.. وللنهاية إحساس بالخذلان، بالخسارة، بالمشي على الأشواك، أو على الرماد الساخن.. للنهاية رغبة في النسيان.. والنسيان نعمة..

النعمة تُسقط الخسارات بمراراتها من الذاكرة لتفسح مساحة جديدة بيضاء، حتى وإن كانت مساحة صغيرة فهي ضرورية لبصيص من ضوء شمعة الأمل..

يركض الشباب لعناق رأس السنة والاحتفال ورفع الأنخاب لأجل الدهشة المنتظرة والأحلام المعلّقة على أغصان الطموح.. دافعهم حماسة الشباب وضمور التجربة..

يتمهّل الكهول عند ذيل السنة، يجلسون على مقاعد التأمل ويستعيدون شريط السنة بسرعة الفرجة البطيئة.. يتلمظون رشفات المرارة من كؤوسهم.. ويعدّون لحظات احتضارهم بصوت منخفض ومختنق.. أما مشاركتهم في الاحتفال فهي بالتأكيد مزيفة، يكذبون خلالها على أنفسهم العائلة والأصدقاء.. هناك احتفال وهناك احتفال آخر.. هناك احتفال بشارع الفرح الساذج لاحتضان رأس السنة.. وهناك احتفال بدموع الحزن المكتوم داخل عبارات التهاني وأوراق سيلوفان الهدايا..

احتفال رأس السنة وفرحة البداية واحتفال بذيل السنة الذي لخبط عليّ مواطن الوجع والنهاية.. لحظة الصفر.. لحظة العدم.. لحظة واهية يلتقي فيها الرأس بالذيل في دورة زمنية مغلقة تنعاد عوداً على بدء..

أما أنا وبعد أن شاركت في الاحتفال الأول والاحتفال الثاني اخترت الآن أن أقيم احتفالي الخاص في تلك اللحظة الغارقة الواهية: لحظة العدم، لحظة اللامبالاة، لحظة التساوي بين الخسارة والربح، بين البداية والنهاية، بين الفرح والحزن.. لحظة السلام مع الزمن..».

______
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *