تعالَ يا مسعدي (محمود) حدّثني عن إدراك الكلّ. تعال ببيان النّسيان أجرّب مولده قدر الإمكان.
تعال يا الدّوعاجي (علي) بمنظر شاذ لا يتدخّل فيه قاصّ أو ربّ بغير بعث الرّعدة في طيور الجماد.
تعال سي البشير خريف ودارني بما يُدارى. القنطرة منهارة.
وأنتم عيون الأدب بعيون المعاصرة (سلسلة أدبيّة عن دار الجنوب للنشر يشرف عليها توفيق بكّار) عيون العيون. يحدّث عن تونس كما يحدّث عن السّودان والعراق ومصر، وأينما بات النّصّ نصّا تلقاه يرقات الأدب في السّنين الآتيّة.
ما ضحك الفنّ التّونسيّ إلاّ بلفتة نوعيّة من الجليل توفيق بكّار. يحدّث عن الادب والفنّ التّشكيلي والمسرح والسينما والفنّ الشّعبيّ. يحدّث عن الإنسان بكون عاطف عن الإنسان.
إذا حضرت الرّيشة كتب، وإذا حضر القلم رسم، وإن أغرقوا يسّر ووضّح، وإن أفصحوا ألغز ما أبعدوا. إذا بكوا غنّى، وإذا رقصوا نحت لعلّ النّحت يبطل فساد الجسد الأكيد.
توفيق بكّار شقّ بالنّقد مسالك جديدة طريفة أسّست لقراءات بديعة في الشّعر والنّثر. حدّث بالوجه والقفا عن الكلّ بالكلّ. – مناهج الادب ومدارس علم النّفس وعلم الاجتماع والفلسفة والتّاريخ وفراءة الصّورة وتأويل النّصّ- بما أتيح من تفرّد جامع لبناء العبارة بما يطابقها من معان في سلاسة تشدّك إلى الأثر الفنّي شدّا يعيدك إليه عودة المُترنِّم لا المتضجّر.
توفيق بكّار فاتح نصوص نقديّة جدليّة قائمة على الخبرة والمعرفة والموهبة. مؤسّس “القراءة المشروع”. تشير وتثير، تعيد وتغيد. بناء جماليّ لا يحجب مثقال ذرّة لحطة من لحظات الوعي الإبداعي.
بناء جماليّ مُصاغ بترتيب عالم. لا ينتصر لحداثة عرجاء ولا يتصدّف في أصالة بتراء. عجينة من علوم النّقد عطرة. تفوح بخبز هو ماء الادباء والفنّانين؛ النّقد. الحلقة الواصلة الضامنة لعبور النّصّ.
النّقد المؤسّسة الصّانعة للتّقاليد الإبداعيّة. النّقّد بالنّاقد يعيد بناء العلاقة بين المبدع وذاته، وبين المبدع والعالم بما يتيح الإقامة فيه إقامة دافعة لمعوّقات الإبداع. والقراءة المشروع من تجليّات الإبداع.
هو إذا كتب عن “نصوص” أو “صانعي نصوص”. عن “لوحات” أو خالقي لوحات” لا يخبر ولا يجبر المكسور. يجيب بالمصنوع عن الصانع. يحدّث بالكون ولا يسارع للفساد. ماهر في إدارة الموجود لأنه عليم بالمنشود. منشود الأقطار والأمم على حدّ السّواء. منشود التّخييليّ في غسق التّسجيليّ.
ما مرّ قلم إلاّ بقلم. ما عبد نهجا ولا كان صنما. أسّس لقراءة نقديّة تستشرف المستقبل. فمكث متجاوزا “النّظريات” والعلامات بكتابة جامعة للسّياقات. سياق يعبر آخر. كون ينهض بكون دون نقصان شأن الخلق به برهان!
عودوا إلى ما كتب وقدّم. عودوا إلى إشاراته في الادب القديم والجديد. الرّجل هو الرّجل. القراءة علم متعدّد الوسائط بعضه يخدم بعضا. “النّقد مدنيّ بطبعه” ماعونه لا يُمْنَعُ.
قراءة توفيق بكّار للأدب تعتبر ممّا حدث في الازمان. تقرّب بين الابدان والاذهان. توليد إبداعيّ من وَليد إبداعي صورته أنت -أيّها القارئ- لتسكن الادب وتجعله جوارا سابعا إن شئت.
تعامل مع نصوص عبّرت عن أزمات ومآزق حضاريّة واختلافات في التّلّقي والتّأويل.
حاول بالنّصوص الكبرى تأصيل حاجّة متأكّدة تُعرف بالحقّ. والحكمةُ ضالتّها في فراءتها. تؤخذ أنّى وُجدت. هي إن دلّك عليها بكّار مُحْكمة البناء، تُعْرفُ بأحوال ما حفّ بنا وحلّ بقربنا.
توفيق بكّار بعد رولان بارت لم ينتجب مشرفا على رسالة برحيله. وبقي أستاذا عظيما حبيب الآلاف – دون مبالغة – ناقدا متجاوزا للبنيويّة والماركسيّة وما بعد البنيويّة والوجوديّة. أقام في صيرورة النّقد المؤسس، لا الاكاديميّ الماثل في صناعة الماضي ولا الصّحفيّ المهتمّ بالحاضر. النّقد الواصل الماضي بالحاضر المستشرف للمستقبل. نقد ولاّد للمبدعين يدلّ على الرّهانات الكبرى.
والآن. أنت هناك. ستروي في نماء الجدل. وانا هنا أنّقط محنا.
محنة أن تغادر وأعلم ويعلموا انّك رحلت. لست ما يرحل. ما حاجتي للذّكرى والصّور. ما عشقت إلاّ دروبا وعرة ومحامد إن ذكرت طُرّتْ. بقدر ما لقيتك خشيتك. ما كبرتُ حتّى أخدش صفاء كونك. أنت كون لا يميد صراطه نحن في مشروعك، أخاف أن يضلّ السّبيل.
____________