أربعون عاماً في انتظار إيزابيل.. إشكالات المبنى والمخيال

خاص- ثقافات

*محمد الأمين بحري

 

تبدو رواية “أربعون عاماً في انتظار إيزابيل”. للكاتب الجزائري سعيد خطيبي، رواية تاريخية- معرفية، ما يشد فيها القارئ هو عنوانها الباحث عن شخصية المستشرقة السويسرية  ذات الأصول الروسية “إيزابيل إيبرهاردت” التي ارتحلت إلى الجزائر وماتت بها، بعد حياة مثيرة تنقلت فيها بين مدن عدة، للرواية عنوان مثير لفضول القارئ كي يتعرف أكثر عن هذه الشخصية الإشكالية وأسرارها التي دفنت أكثرها معها، وقد اقتنيت الرواية شغفاً بالعنوان  الواعد الذي انتظرت منه كقارئ أن يطلعني على الكثير مما أجهله حول هذه الشخصية، ويدخلني إلى عوالمها ولو تخييلاً، لكم تمنيت تحقق هذه الغاية لولا الاهتزازات الفنية التي اعتورت البناء وشوشت التلقي. يمكن إيجازها في نقاط اهمها:

أولاً – استشكال الميثاق السردي:

يعتبر العنوان وعداً للقارئ بإثارة موضوع ما، والموضوع الذي يرشحه عنوان الرواية هو بكل وضوح: انتظار إيزابيل، خلال فترة زمنية تعرض سيرتها ، مما يجعل القارئ يعد نفسه مخيالياً بأنه سيطالع رواية تبحث سيرة المستشرقة إيزابيل إيبرهاردت، وتزج به في عوالمها التي لم تكتما واقعياً وتاريخياً، على أمل أن تكتمل مخيالياً في هذا النص. لكن ما إن يفتتح القارئ هذه الرواية حتى يجد النص يغوص في أعماق سيرة شخصية أخرى وبطل آخر هو “جوزيف” الذي منحه الروائي – فضلاً عن دور البطولة-  دوراُ جوهرياً آخر، هو الراوي المدمج(1). الذي سينفرد ببطولة المتن الروائي تاركا لإيزابيل بطولة الغلاف والعنوان، وهذا أول تحول يسجله القارئ على الرواية التي تعلن من أولى الصفحات عن بطلها الجديد( الشيخ جوزيف). الذي سيطلع القارئ عن عالميه الداخلي والخارجي، ويسمع منه كل أطوار المغامرة، كراوِ عليم ومتحدث رئيس(وهي من صفات البطولة)  في النص الذي لم تكن فيه إيزابيل إيبرهاردت سوى طيف حلمي عابر ونادر الظهور. مما يجبر القارئ على تغيير إحداثيات التلقي وتراتب قيم الشخصيات أثناء القراءة بشكل جذري بخلاف ما أسسه من مشروع عند تلقي العنوان، حيث سيضطر إلى محو فكرة بطولة إيزابيل الموعودة، بل يلغيها من ذهنه ويستعد لمعرفة قصة حياة البطل جوزيف الشيخ السبعيني الهرم والفنان التشكيلي الحالم.

وحينما يتطرق الكاتب لشخصية إيزابيل، لا يجد القارئ حولها سوى افتراضات واحتمالات يبنيها البطل الراوي، حيث ترتسم هذه الشخصية في مخياله بصور لا تحيل عليها بقدر ما تشير إلى حالة ذهنية يعيشها البطل “جوزيف” الذي يتوهمها في مقاطع من قبيل: “أتخيل إيزابيل وهي تجلس القرفصاء قبالتي، ترتدي برنوساً أبيض من وبر الماعز وتعتمر بيريه باسكية سوداء الللون..“(ص31)، أو صورة افتراضية لحياتها: “لو عاشت إيزابيل إيبرهاردت طويلاً هل كانت ستحج إلى بيت الله (…) ربما كانت ستذهب للأرض الحرام لتلاقي عشاقاً جدداً” (ص36)، أو احتمال توهمي عنها: “لو عادت إيزابيل لبوسعادة اليوم لكتبت شيئاً مختلفاً”(ص89)، و تارة أخرى: “لو قابلتني إيزابيل حينها كانت ستجعل مني شخصية ورقية في قصصها“، (ص121). تتأثث شخصية إيزابيل في جزء كبير منها على هذه الاستيهامات  التي تتكاثر بشكل يغطي ويغيب القيمة المعرفية المرجعية لهذه الشخصية التي يعلنها العنوان باسمها، ويعلنها غلاف الرواية برسمها وتصويرها، بينما يهمشها النص، فتستحيل مجرد تهاويم افتراضية في ذهن بطل راوِ. لا تربطه بهذه الشخصية أية علاقة فعلية سوى فرضيات أقرب إلى التخاريف التي تعبر مخيال شيخ سبعيني.

فبحجم حرمان النص من المعارف الكافية للإحاطة بشخصية إيزابيل، بقدر ما كانت تجيش في نفس بطله رغبة تخيلها في صور فرضية مبنية على أماني لا تؤكد للقارئ شيئاً سوى الغياب الملحوظ لهذه الشخصية كفاعل نصي. مما جعل العلاقات أكثر هشاشة وتفككاً بين شخصية إيزابيل وبين المجتمع الروائي الذي تحل فيه. باعتبارها شخصية هامشية لم تحظ في النص بأي نصيب من الخطاب، بل كانت محل حديث بصيغة الغائب، على لسان الشخصية البطلة “جوزيف”. المتحدث الرئيس في النص.

ثانياً- الحكاية الإطارية ضحية المحكيات الضمنية:

مورفولوجياً، تتأطر الرواية بعنوان بارز هو البحث عن إيزابيل طيلة أربعين عاماً من حياة البطل جوزيف. بينما تستبطن مضمونياً جملة من المحكيات الفرعية التي كان أغلبها  عديم العلاقة بالحكاية الإطار، وقد يشقى القارئ في الربط العبثي بين هذه المحكيات الضمنية وبين عنوان الرواية وموضوعها الموعود، وسنضع أمام القارئ أهم هذه المحكيات الضمنية، بالموضوع والصفحة، لكي يواكب تمفصلات المحكيات التي شكلت متن النص من جهة وشتتت موضوعه من جهة ثانية:

  • ص (11) حديث البطل الراوي جوزيف مع نفسه حول رسم صورتين لإيزابيل.. وبروز فكرة وتقديم نفسه للقارئ.

  • ص (13 و16) تقديم البطل للشخصية المساعدة في الرواية، و صديقه سليمان. وتقديم مورفولوجي ذاتي للبطل الرواي جوزيف.

  • ص(26) بعض صفات إيزابيل حسب شعور البطل الراوي جوزيف، ومكان قبرها بعين الصفراء.

  • ص (28 و 29) وصف الإباضيين وعاداتهم وطقوسهم

  • ص(31 و32) تخيل البطل لشكل إيزابيل وأوصافها. وبعض الحوادث في حياتها ومحاولة اغتيالها.

  • ص(38) قصة زوينة الخادمة في بيت البطل جوزيف وصديقه سليمان.

  • ص(39) قصة الفتاة مليكة بنت الحاج احمد العامل بمصنع الآجر.

  • ص(46) قصة خضرة راقصة أولاد نايل التي رواها المستشرق التشكيلي إيتيان دينيه بصورة مشوهة. وحاول الراوي ومن ورائه الكاتب تصحيحها.

  • ص(52) قصة زيار البطل جوزيف للكنيسة ومقبرة النصارى، ومقبرة الإباضيين و السنة.

  • ص(58) قصة زيارة البطل للزاوية الريحانية لملاقاة شيخها سيدي لمنور.

  • ص(61) قصة تعرض حيزية جارة البطل جوزيف للسرقة قلادتها الذهبية.

  • ص (68) قصة لقاء البطل جوزيف مع الحاج لمنور شيخ الزاوية الريحانية وتوديعه.

  • ص (74) قصة تحقيق الشرطة في وفاة علجية سعاد جارة البطل الراوي جوزيف.

  • ص (77) قصة فقدان البطل جوزيف لأمه آن لور، وقصة أفراد عائلته.

  • ص (81)عودة إلى قصة علاقة البطل الراوي جوزيف بصديقه سليمان.

  • ص(85) قصة الوضع المادي الصعب لإيزابيل.

  • ص(86) قصة نزوات إيرزابيل إيبرهارد وجموح رغباتها في تعاطي الممنوعات وشهوات الجسد.

  • ص(89) قصة عن مدينة بوسعادة.

  • ص(94-95) قصة البطل الراوي جوزيف في بوساد أثناء العشرية السوداء.

  • ص(97) قصة موت الشاعر الشعبي محاد صاحب المخبزة.

  • ص(104) قصة رسالة المودة من الشيخ لمنور ( شيخ الزاوي الريحانية) إلى البطل الراوي جوزيف.

  • ص(112) قصة اللقاءات الحمية لإيزابيل مع الشيخة لالة فاطمة مقدمة الزاوية الريحانية في بداية القرن 20. ومعركة المشيخة على الزاوية الريحانية بين لالة فاطمة وأبناء عومتها.

  • ص(112-113) أربعة أسطر من المخطوط الذي تقر في إيزابيل بزيارة قبر لالة فاطمة.

  • ص(114) بورتريه الدرويشة الثلاثينية وقصتها مع الدرويش المختل.

  • ص(115) قصة حول الفنان عبد الهادي صديق الراوي. وحواره مع البطل الراوي جوزيف حول أصول إيزابيل.

  • ص(119) وصف مورفولوجي لإيزابيل من خلال صورتها.

  • ص(120-121) مناجاة ذاتية للبطل الراوي وتخيله للقاءات مفترضة مع إيزابيل.

  • ص(122) قصة الفتاة جونيفاف وعبد الحميد

  • ص(128-129) قصة البطل الراوي مع شهر رمضان ويومياته.

  • ص(133) قصة الممثلة الفرنسية جينات لوكلارك

  • ص(134) قصة مدينة بوسعادة مع مظاهرات وتجمعات الإسلامويين وشعاراتهم

  • ص(141) قصص رحلات البطل الراوي جوزيف وتشبيه حاله بإيزابيل

  • ص(144) قصة البطل الراوي مع الصحفي سعيد خطيبي

  • ص(156-157) قصة استعداد البطل جوزيف من بوسعادة إلى باريس وتسليم مخطوط قصته الحالمة بإيزابيل إبرهاردت على مدى 40 عاما إلى الصحفي السعيد خطيبي.

نلاحظ أنه على مدار 34 قصة ضمنية في النص لم تحضر شخصية إيزابيل سوى في 11 قصة توزعت على الصفحات الآتية (11)- (26) – (31)- (32-33)- (85)- (86)- (112-113)- (115) – (119)- (120-121)- (144). وجاءت أغلب قصص إيزابيل الإحدى عشرة في صورة حلمية افتراضية لم تستند على أية خلفية تاريخية للشخصية إلا في ثلاث قصص حصراً وهي: الأولى: [القصة  المشهورة حول نزوات إيرزابيل إيبرهارد وجموح رغباتها وتهتكها في تعاطي الممنوعات وشهوات الجسد] ص(86)، والثانية: [قصة لقاء إيزابيل بالشيخة فاطمة مقدمة الزاوية الريحانية] (ص112)، والثالثة [زيارة إيابيل لقبر الشيخة لالة فاطمة التي حملها مخطوط من أربعة أسطر] (ص112-113).

ما يعني أن مجموع المحكيات التي ذكر فيها اسم إيزابيل ولو مخيالياً في النص بأسره  لم يتجاوز 11/34، وهو ما يناهز 30%، من المحكيات النصية. وما روي عنها كحقائق تاريخية وسند معرفي للنص لم يتجاوز 3 حكايات من 34، أي ما تقل نسبته عن 10%. وهو ما يعكس الشح المعلوماتي والافتقار المعرفي حول هذه الشخصية، ذلك أن فراغ الخلفية المعرفية للنص لا يؤهل الكاتب لتأسيس مشروع روائي حول شخصية مركزية لا يملك عنها الراوي سوى توهمات واحتمالات وظنون في مناسبات نادرة، ما يجعل مغامرة الكتابة بأسرها مهددة بالانهيار جراء فراغ الخزانة المعرفية من عدتها الأجناسية و التأثيثية لما يتطلبه نص سيري وتاريخي.

وما يكشفه التقسيم الحكائي السابق هو أن ما تم تخصيصه من محكيات حول شخصية إيزابيل لا يتطابق مع موضعها المركزي في العنوان، ما يجعل غيابها الاستراتيجي وبهذه النسبة في المتن النصي اختلالاً بنائياً يمس بالمنطق والميثاق السرديين اللذين بناهما الكاتب مع القارئ منذ أولى العتبات النصية.

ثالثاً- أزمة التلقي المعرفي للنص من العنوان إلى المتن

من وجهة نظر التلقي، فإن عنواناً مثيراً ينشد انتظاراً طويلاً لإيزابيل يدفع القارئ إلى انتظار آخر لصور وتفاصيل تزيد هذه الشخصية الإشكالية وضوحاً في الأذهان، لكن على عكس ذلك يبدأ هذا النص كما ينتهي بفكاك حاد بين شخصية البطل الرواي جوزيف وشخصية إيزابيل، حين يكثف الكاتب حول بطله مقولات يصرح فيها بتعلقه البالغ بإيزابيل، لكنه، لا يقدم نصياً أي وازع أو دافع أو مثير يبرر هذا التعلق، وهو ما يؤكده صراحة للقراء: “أنا لا أعرف تحديدا، هل أحببت نصوصها وفقط، أم أحببتها هي كامرأة“(ص23). مما جعله تعلقاً مذبذبا وواهياً لا تسنده أية قرينة يمكن أن يتشبث بها القارئ ليساند ما يسانده البطل، فيؤازره، أو يقتنع بلماذية هذا التعلق وغائية هذا البحث عن إيزابيل، وهذا ما يوقع النص فيما أطلق عليه نقاد القراءة بـ “أزمة التلقي“(2). الناتجة عن حرمان من السند المنطقي للمحكي، حين تتلاشى المبرات التي تبني منطق السرد (سواء كان منطقاً واقعياً يتمرجع به النص أو منطقاً تخييلياً) وتشده نحو عمق المحكي.

غالباً ما يحمل تعلق القارئ في مثل هذه العناوين (المتعلقة بأسماء شخصيات معروفة في التاريخ) طابعاً معرفياً، واستكشافياً حول ما سيضيفه متن النص تاريخياً وتخييلياً من تأثيث معرفي وتمثيلي يبث الحياة من جديد في هذه الشخصية، لكن يبدو أن الجانب المعرفي (وهو رأسمال الروايات السيرية والتاريخية عادة)، يمثل إحدى نقاط ضعف هذا النص، حيث تواردت فقرات يسيرة ونادرة تخص شخصية إيزابيل، في منطقتي بوسعادة وعين الصفراء، دون التعرض إلى إحدى أهم مراحل حياتها، وأهم ملهمات كتاباتها وهي رحلتها إلى منطقة وادي سوف، حيث عاشت بين (1900-1901)، وأحبت وتزوجت. وتكمن حساسية هذا الإغفال في إيهام القارئ الجاهل بسيرة إيزابيل بأنها لم تتنقل لأية منطقة أخرى غير بوسعادة وعين الصفراء، نظراً لتركيز الرواية على هاتين الرحلتين دون سواهما في حياة هذه المستشرقة، بينما قد يتساءل قارئ عارف بمسيرة هذه الشخصية: لماذا أغفل الروائي بقية المحطات واقتصر على اثنتين حصراً؟؟ ؟ وفي الحالتين يبرز خصاص معرفي حاد، إن بررته اختيارات التخييل للكاتب، فهل سيبرره جنس الرواية السيرية والتاريخية وما يتطلبه من عُدة عند التطرق لحياة شخصية حقيقية في التاريخ وإعادة بعثها مخياليا في السرد ؟؟

رابعاً-  أحادية صوت القصصي وإشكالية الراوي العليم

 

في بناء المنظور السردي للنص يعتمد الكاتب تقنية “الرؤية من الخلف La Vision Par Derrière”، التي يصدر صوت الحكاية فيها عن الراوي العليم Le Narrateur Omniscient  المطلع على كل شيء، مسبقاً، حيث يتموقع خلف الشخصيات(3)، فيعرف عنها أكثر مما تعرف هي عن نفسها، يعلم الحواجز التي تعترضها، والمشكلات التي قد تقع فيها، ويعطي أكثر من ذلك تفسيرات وأبعاد لما يقع لها، كمؤشر خطابي على اطلاعه المسبق بأحوالها، فيحوم حولهــا، ويغوص في أعماقها ويستخرج مكنونها، ويفرد أمام القراء أوراقها السرية ليضطلع بجدارة تحليل وتفسير مختلف تصرفاتها. مما يجعل هذا النوع من الراوي سيد الحكاية، وممسكاً بزمامها، يتصرف فيها كما شاء، ويقدم منها للقارئ ما يشاء وبالصورة التي يشاء. ويخفي عنه ما يشاء. فيشعر القارئ بأنه تحت سلطة راوٍ كلي المعرفة لا يسمح له بتعرف أي شيء إلا ما أراده له أن يعرفه، وهذه تقنية حكائية قصصية، يعرفها العرب القدامى وأهل القبائل عند شخصية الحكواتي، أو سيد الحكايات، وهي التقنية التي هيمنت بها شهرزاد على متلقيها شهريار في ألف ليلة وليلة فأسرته، وبيدبا الحكيم على الملك دبشليم في كليلة ودمنة وغيرهما، حيث يبدو القارئ في كل تلك الحَكايا رهين تصرف هذا الراوي الذي يقف خلف العالم المسرود بأسره موقف المتحكم العتيد. والسبب الذي جعل هذا النوع من الراوي تقنية تختص بالقصص لا بالروايات، هو تميزها بأحادية الصوت، حيث لا يسمح الراوي العليم فيها ببروز صوت آخر من أصوات الشخصيات إلا من خلاله هو، مانعاً بذلك أي ملمح حواري، أو تعددية صوتية، أو زحام خطابات للنص. ومعلوم أن النصوص حين تفقد حواريتها وتعدد أصواتها تستحيل إلى خواطر شعرية وقصص أحادية المنظور والصوت، لأن ميزة النص الروائي هي تعدد الأصوات وحواريتها كما أكد على ذلك الناقد ميخائيل باختين في جميع دراساته حول الرواية،  فالصوت المفرد في الإبداع الأدبي هو خاصية شعرية أولاً تفتح النص على عالم الخواطر الذاتية، وبدرجة ثانية خاصية قصصية لا يسمع فيها إلا صوت الحكواتي العليم. لهذا يشعر القارئ تارة أنه أمام فيض شعري لخواطر الراوي الوحيد للنص، وتارة أخرى أنه أمام حكواتي عليم يناوب عليه القصة تلو القصة في هذا النص الذي لم يكن فيه التعدد سوى في أنواع الحكايات المتتالية المروية بصوت حكائي عليم ووحيد.

خامساً- تفكك المبنى الحكائي، وأزمة الحبك والتعقيد

يهيمن على أسلوب الرواية الاستطراد المفرط وعدم ترابط القصص والمحكيات الضمنية المتراكبة في غير تناسق، ما جعل تجاورها يتميز باللصق أو الكولاج،  وتفكك النسق الحكائي والفرض التعسفي للمحكيات المتفاصلة وعدم العناية بمنطق الربط البيني فيها، بسب انحسار الحبكة والترابط داخل بنية المحكيات، وليس بين المحكيات في علاقاتها الخارجية. وهو تفكك بنيوي ينفي على العمل بأسره صفة النسقية. حيث لن يجد القارئ أي نوع من الحبكة أو الترابط المنطقي بين كل حكاية ضمنية وما يجاورها من بقية المحكيات. التي تقدم كل منها قصتها بشكل منفصل عن غيرها، وتحوز حبكتها لوحدها دون ربط أو تعالق بيني . مما يجعل النص أرخبيلاً من البنيات المتباعدة موضوعاً وصياغة.

ومن أبرز مظاهر التفكك البنيوي للنص هو توارد قصص ومحكيات لا علاقة لها بمسارات الحكاية، أو أن الكاتب لم يبرر وجودها ولم يمهد له، حيث وردت بصورة فجائية وانقطعت بصورة فجائية دونما علاقة أو رابط نسقي بينها وبين ما يسبقها وما يلحقها من محكيات، فبدت دخيلة ومقحمة وناشزة، مثل قصة جونيفاف وعبد الحميد (ص121-127).. التي أقحمها الروائي على سبيل التشبيه بحالة الخيانة التي يعيشها مع مدينته، لكنه يدخل في استطراد تفصيلي لهذه القصة الفرعية على امتداد ست صفحات متتالية حتى ينقطع حبل السرد نهائيا بما سبق، من مواضيع، لينهي هذا الفصل بطريقة فظة، بهذه القصة المقحمة، ليدخل في الفصل الموالي (ص120) في قصة أخرى حول شهر رمضان وكيف يقضي يومياته، ثم يدخل بعدها (ص130)  قصة فرضية تخوينه التي ينهي بها الفصل، وفي الفصل الموالي (ص132) يدخل دون مقدمات ولا تمهيد في قصة مختلفة تماماً هي قصة الممثلة الفرنسية “جينات لوكلارك” في بداية صادمة، وغير مرتبطة لا بما قبلها من قصص ولا بما يليها مباشرة من تناول فجائي لقضية التجمعات السياسية للإسلاموين في بوسعادة(في فترة التسعينيات).. وهكذا تتباعد أطراف النص وتتضارب مقدماتها ونهاياتها الناشزة عن بعضها البعض، في غياب لأي رابط منطقي يشد هذا الطرف إلى ما يجاوره في النص، واستطرادات فجائية اللصق منعدمة المنطق والتسلسل مما جعل النص تراكما من المحكيات المتنافرة بنيويا، ليصير السرد حبلا متقطعا كل قطعة فيه من معدن ولون مختلفين عما يسبقها وما يلحقها. وهي أزمة إخراج، توازي أخطاء مخرج سينمائي حينما يكون بصدد ترتيب مشاهد عمله فيجاور مشاهد غير متجانسة ولا متعالقة، مما يحدث بلبلة في ذهن المتلقي الذي يشعر بأن بعض المشاهد لا علاقة لها بنسيج القصة وتسلسلها. فيتساءل عن محلها من الإعراب في عمل تبدو غريبة ودخيلة عليه. وعادة ما يطرح المتلقي هذا التساؤل حول الأعمال المرتبكة الإخراج. وما تخلص به قراءة هذا النص هو استحالة قدرة القارئ على ربط المشاهد المتجاورة والمختلفة جنساً ومضموناً، نظراً لعدم قيام الكاتب بهذا الربط النسقي من حيث المبدأ.

ومن نتائج الاستطراد المتواصل للحكي على وتيرة واحد ة من بداية الرواية إلى نهايتها، هو غياب العقدة، والعقدة في السرد الروائي هي ديدن الرواية حيث تنتفي بغيابها وتتحقق بحضورها، ليجد قارئ هذا العمل نفسه أمام نص بلا أية عقدة.. وهي مسألة تطرح  إشكالية أصالة للنص في جنسه، فهل نسميه رواية حين تتعدد وتتوالى سرود الحكايا في النص دون أية عقدة؟ والسبب يعود في الأصل إلى انفراد كل حكاية ضمنية في النص بحبكتها، وهو ما غيب بين تلك المحكيات بنية الحبكة التي تغيب بغيابها العقدة التي تعطي للنص هويته الروائية، وتيمته التأليفية.

سادساً- البدائل التأليفية وثقافة النص.

رغم كل إشكالات البناء في هذا العمل فإن الكاتب من الوجهة المخيالية قد قدم جهداً معتبراً، صنع فيه فسيفساء من الحكايات الشيقة كان أغلبها ينبع من دواخل البطل الراوي جوزيف الذي جعلنا نرى العالم بعيون الفنان الذي يسكنه، وهذا في حذ ذاته بديل تعويضي يقوم مقام رأسمال الرواية المهدور بنائياً وأسلوبياً، ويقوم هذا البديل الفني على ثروة ثقافية وزخماً من تداخل فنون عدة في النص بشكل فسيفسائي، قد يجيب جزئياً عن سبب تباعد المحكيات الضمنية لأن كل قصة في النص تشكل حقيبة ثقافية وفنية مصغرة تتفرد بخصوصية وعائها المعرفي داخل خزانة النص، وترشح طقساً ثقافياً، أو مظهراً دينياً أو طقساً شعبياً، أو لوحة رسم تشكيلي، أو شذرة من سيرة فنان، أو فسحة تأمل في ذهن فيلسوف متمرد، أو لوثة جنون في مخيال ثائر متفرد. وهو جهد تمثيلي يندر وجوده عن الروائيين المعاصرين إذ يتطلب ثقافة موسعة تستدعي توزيع موسوعة الفنون والثقافات المحلية الشعبية الخاصة، والعالمية، بكل خصوصياتها، على محكيات النص. وهو بديل كافِ لسد ثغرات عدة، وهو جهد حثيث نحو وضع هذا النص في مقامه الروائي المنشود من الناحية الأجناسية.

كما قدم الروائي في ذلك بديلاً فنياً عن خصاص نصه معرفياً، أي استبدال الخزانة المعرفية المفرغة بخزانة فنية مشبعة بالأنساق الثقافية المتنوعة، حيث لعب تداخُل الأجناس الأدبية، والفنون والثقافات في النص دورا كرنفالياً، يسم النص بحوارية فنون بدل حوارية المنظورات السردية، فيتحدث كل فن محلي أو عالمي بصوته الخاص، مانحاً النص بوليفونية (تعدد صوتي)، فريدة تعوض البوليفونية الكلاسيكية المعتادة، ولو لم يكن لهذا النص سوى هذا البديل لكفاه تجريباً وتجديداً لا يمكن نكرانه، خاصة وأن هذه الرواية هي الأولى لهذا القلم الواعد. ومهما يكن ما يواجهه نص روائي أول في مسيرة الكاتب من نقد وانتقاد وتفكيك، فسيكون رصيداً ضافياً ضمن النقاشات الدائرة حوله من حيث إن طريقة تأليفه ومضمونه حكايته يحملان من المثيرات الكتابية، والقدرة الخلاقة على استفزاز الأقلام الدارسة والناقدة ما يضعه في محك سجالات نقدية واختلافات فكرية ومعرفية قارئة تحاور متنه ومبناه. وما هذه القراءة إلا شذرة مما أثاره هذا النص المختلف من إشكالات فنية وفكرية مطروحة على موائد السجال الذي يبدأ مع النص ولا ينتهي بانتهائه.

————————–

*- ناقد وأكاديمي جزائري

__________

هوامش

(1)- هناك نوعان من الراوي في السرد الأول هو الراوي المستقل حين يكون الرواية خارج الحكاية باعتباره الذات الثانية للكاتب، فيخرج عن الشخصيات ويكتفي بالتدخل والربط بين الأحداث و الحوارات و يبرر الخطاب بين هذا وذاك، وينقل القارئ بين مشاهد السرد وصوره المتباعدة. والنوع الثاني هو الراوي المدمج، حين تضطلع إحدى الشخصيات المشاركة في القصة برواية الأحداث من داخلها و خارجها بوجهة نظرها، وعادة ما تكون هذه الشخصية هي الرئيسية، وهي الحالة في هذه الرواية.

(2)- مؤلف جماعي، فيرناند هالين وآخرون: بحوث القراءة والتلقي: مركز الإنماء الحضاري حلب، سورية، ط1 1998، ص 38.

(3) -Voir :T. TODOROV Littérature et Signification, Paris, Editions La Rousse 1967 P :82.

 

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *