إعادة إكتشاف حسّ الدهشة المخبوءة في أعماقنا:حوارٌ مع الكاتب الرؤيوي إرنستو ساباتو (3)

*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

 

   معلّمي الأكبر : هذا هو الوصف الذي أراه منطبقاً تماماً على الكاتب ( إرنستو ساباتو Ernesto Sabato ) ، بل أنني أرى الرجل مستحقاً ليكون أحد ( غوروهات ) الإنسانية على مرّ العصور .

   هذا هو القسم الثالث من الحوار مع ( إرنستو ساباتو ) المنشور في الموقع الالكتروني ( رسالة اليونسكو  The Unesco Courier ) الذي أعاد نشر الحوار كتحية وداع لساباتو عقب وفاته عام 2011 .

                                                                     المترجمة

 18142887_1629884837040343_393845619_n

                                  الحوار

                               ———-

*  هلّا أعطيتنا مثالاً أكثر تحديداً  لما تعنيه  ؟

 حصل مرة ومنذ وقت طويل أن سافرت برفقة عامل غابات في سيارة نوع ( جيب ) في منطقة باتاغونيا ( منطقة طبيعية في جنوب الأرجنتين وشيلي غنية بغاباتها وبالفحم ومعدن البوكسايت الذي يستخرج منه الألمنيوم ، المترجمة ) ، وكان العامل لايفتأ يذكّرني طوال الرحلة بالحجم المخيف الذي تنحسر فيه الغابات مع كلّ حريق يحصل فيها ، وقد أسهب الرجل في الحديث عن الدور الدفاعي الذي تنهض به أشجار السرو في الحفاظ على الغابات مقارناً ذلك الدور مع مايقوم به الأبطال الرواقيون المضحون بحياتهم لحماية مؤخرة الجيش ؛ إذ تجود أشجار السرو بذاتها وتواجه الحريق بغية تأخيره والحفاظ على الأشجار الأخرى في الغابة . جعلني حديث عامل الغابات أتساءل في دهشة : ماالذي يمكن أن يكون عليه تعليم الجغرافيا إذا تأسّس على فكرة الصراع بين الأنواع البشرية ، وقهر المحيطات والقارات ، وسرد تأريخ البشرية الذي يبدو – وعلى نحو  مثير للشفقة –  مرتبطاً بطبيعة البيئة الأرضية التي تنشأ فيها الجماعات البشرية المتنوعة : بهذه الطريقة سيحوز التلميذ فكرة قريبة من روح المغامرة الحية ومن الصراع المرعب للإنسان تجاه القوى العدوانية للطبيعة والتأريخ بعيداً عن الجسم الثقيل والميت للمعرفة الموسوعية وعن الأفكار الجاهزة المحتواة في الكتب العتيقة ذات الأجزاء الكثيرة التي يغطيها التراب ؛ وعلى هذا النحو تغدو المعرفة شيئاً يتم تجديده على الدوام وقادراً على منح التلميذ الشعور المحبّب بالمشاركة والإكتشاف في الحكاية المعمّرة التي تحكي قصة البشرية . إذا أردنا – كمثال – أن نعلّم التلاميذ الجغرافيا المعقدة لأمريكا اللاتينية كتجربة حية بدلاً من حقائق مسطورة في كتاب ، ألن يكون من الأجدى والأفضل تعليم تلك الجغرافيا من خلال مغامرات المستكشفين العِظام من أمثال ( ماجلان ) أو الفاتحين المغامرين مثل ( كورتيس ) – الإسباني فاتح المكسيك ، المترجمة –   ؟ ينبغي تشكيل شخصياتنا بدلاً من محض ملئها بالمعلومات وعلى النحو الذي قاله ( مونتين ) : ” التعلّم عن ظهر قلب ليس تعلّماً  بأي حال من الأحوال ” . أي دليل مدهش للجغرافيا وعلم الأعراق البشرية بالنسبة للتلاميذ الصغار يمكن أن يكونه كتاب مثل ( حول العالم في ثمانين يوماً ) للكاتب ( جول فيرن ) !! ينبغي أن نوقد  شعلة الدهشة والإفتتان في الأحجيات العظيمة التي يحتويها الكون ؛ إذ أن كل شيء في الكون يمكن أن يكون مدهشاً  لأي شخص متى ماأعمل فيه القدر المناسب من التفكير الشغوف ، ولكنها حالة الإعتياد واللامبالاة التي جعلت الأشياء المدهشة عاجزة عن إدهاشنا في حياتنا الحاضرة . ينبغي إعادة إكتشاف حسّ الدهشة  المخبوءة  في أعماقنا .

 

*  أنت توصي دوماً بنوع من التعليم الذي ينطلق من اللحظة الحاضرة ويمضي باتجاه اللحظة الماضية ؟

–  أعتقد أن أفضل طريقة لجعل الشباب اليافعين يشغفون بالأدب هو أن نبدأ بالكتّاب المعاصرين الذين تبدو لغتهم ومقارباتهم الأدبية أقرب إلى توجهات اليافعين ومخاوفهم ؛ وعندها سيكون في مقدورهم لاحقاً أن يشغفوا بما كتبه هوميروس  أو سرفانتس بشأن الحب والموت ، الأمل واليأس ، العزلة والنزعة البطولية ، ويمكن فعل  الأمر ذاته مع الموضوعات الأخرى ( مثل التأريخ ) حيث يمكن تتبّع الجذور الحقيقية لمشكلاتنا الراهنة .

   لابد من الإشارة هنا إلى خطأ محاولة تعليم كل شيء ؛ إذ يكفي تعليم بضع حكايات ومعضلات يمكن أن تشكّل نواة لبناء هيكل تعليمي ، كما ينبغي في الوقت ذاته الإكتفاء ببضعة كتب ولكن بشرط أن يتمّ قراءتها بكل شغف وعاطفة مشبعة ، وأظن أن هذه هي الطريقة الوحيدة لتجنّب أن تبدو القراءة مثل التجوّل مشياً على الأقدام في مقبرة من الكلمات !! . القراءة لايمكن ان تكون فعالية منتجة مالم تلامس وتراً حساساً في عقل القارئ ، وأرى أن نمط التعليم الشائع هو نمط شبه موسوعي كذوب مرتبط أرتباطاً وثيقاً بالكتاب حسب – حالة أرى فيها نوعاً من موت مأساوي . نحن ببساطة نتصرّف كما لو لم تكن ثمة ثقافة قبل غوتنبرغ !! . 


18136570_1629884990373661_1879111317_n

*  لطالما أشرتَ لسنوات طويلة إلى المخاطر الملازمة للأسلحة النووية وسباق التسلح والمواجهة الآيديولوجية  السائدة في العالم .  كيف يمكن أن تؤثر تلك المعضلات في عالمنا الحاضر ؟ وهل ترى ثمة ” كوّة من الأمل ” لعالمنا مع تفاقم هذه المعضلات ؟

–  لست واثقاً كثيراً بشأن ماسيكون من أمر هذه المعضلات : أولاً وقبل كل شيء فإن إنتشار الأسلحة النووية هو حقيقة ماثلة للعيان ، وأن العديد من البلدان باتت تمتلك ( قنابلها الصغيرة ) الخاصة بها بحيث غدت إمكانية البدء بتفاعل نووي تسلسليّ Chain Reaction من قبل أحد الإرهابيين غير المسؤولين فعلاً لايمكن غض الطرف عنه ، ولكن هذا هو الجانب الفيزيائي وحسب من المعضلة رغم ضخامة حجم تداعياته . إنّ مايقلقني حقاً هو الكارثة الروحية التي ترمي بغلالتها الكثيفة على عالمنا – تلك الكارثة التي أراها ناتجاً حتمياً لقمع قوى  ” اللاوعي ” الجمعي في مجتمعاتنا المعاصرة ، وأرى شواهد على هذا القمع في شيوع  مظاهرات ” جماعات الأقليات ” وكذلك في شواهد مستقاة من تأريخنا الجمعي . نعيش اليوم في عصر مكروب ، عصابي ، قلق غير مستقر ؛ ومن هنا نرى شيوع الإضطرابات السايكوسوماتية ( أي النفسية – الجسدية ) مصحوبة بإرتفاع مناسيب العنف والإدمان على المخدرات . إن هذا الأمر موضوعة فلسفية في جوهره وليس محض مسألة تختص بها مراكز الشرطة ؛ إذ حتى وقت قصير كانت مناطق الأطراف ( أو الهوامش طبقاً لنظرية المركز – الهامش السائدة في الأنثروبولوجيا الثقافية ، المترجمة ) عصية على التأثر بالمثالب التي ذكرناها أعلاه : في الشرق بعامة على سبيل المثال – كما في أفريقيا والجزر الاوقيانوسية – تعمل التقاليد الأسطورية والفلسفية على إشاعة نوع   من التناغم بين الفرد والعالم ، وبالتأكيد ينطوي التغلغل غير المحسوب والمفاجئ للقيم والتقنية الغربية في تلك المناطق على نتائج غير مرغوب فيها كتلك التي حصلت أثناء الثورة الصناعية عندما راح أصحاب محالج القطن في مانشستر يغرقون البلدان   ببضاعتهم القطنية الرخيصة من أجل تحويلها إلى منسوجات فاخرة !! . إن الكارثة العقلية الضاربة أطنابها في عالمنا ستقودنا – لامحالة – نحو إضطرابات سايكولوجية وروحية متفجرة ستؤدي حتماً إلى موجة من الإنتحارات غير المسبوقة وشيوع مشاهد الهستيريا والجنون الجمعي . التقاليد القديمة لايمكن إستبدالها بصناعة الترنزستور أو بالصناعة المرتكزة على الثورة المعلوماتية .


18142848_1629886363706857_461121376_n

*  ألا ترى شيئاً إيجابياً في قائمة ” جردة الحساب ” الخاصة بعالمنا المعاصر ؟

–  بلى ، أرى بعض الجواب الإيجابية ؛ لكن لأقل بصراحة أنني أرى نفسي عضواً في جماعة بشرية هي في طريقها نحو الإنقراض !! أنا أؤمن بالفن والحوار والحرية وبالكرامة التي يستحقها كل كائن بشري ، ولكن من عساه يؤمن بمثل هذه المفاهيم التي صارت تعدُّ لغواً فارغاً في أيامنا هذه ؟ الحوار أستُبدِل بتوجيه الإهانات ، وحلّت السجون السياسية محلّ الحرية !! .  هل ترى ثمة فروقات حقيقية بين جناح سياسي يميني أو يساري لحزبٍ ما في دولة بوليسية ؟ بل قد يذهب الحديث أحياناً بما يوحي بإمكانية وجود حالات تعذيب ” جيدة ” في مقابل أخرى ” سيئة ” !! . لابدّ أنني أُعتَبَر في نظر الكثيرين رجعياً لأنني مازلت أؤمن بديمقراطية الطبقة الوسطى التي غدت في عداد الكلام الذي يبعث على الملل لدى الكثيرين ، كما لازلت أؤمن أن الحكومة الوحيدة المستحقة للإحترام هي تلك التي تجعل مواطنيها يفكرون بحرية وتمهّد الطريق لواقع أفضل من ذي قبل .            

 ________
*المدى 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *