لئن كان القرن العشرون قرن التّطوّرات العلميّة وبلوغ الإنسان القمر، فإنّ القرن الواحد والعشرين هو قرن رسوخ التّكنولوجيّات الحديثة والتّواصل الإلكتروني الآني. وفي حياتنا اليوم، أصبح المذياع والسّينما والتّلفاز والسّيّارة من تحصيل الحاصل، وانتشرت الحواسيب فالهواتف الجوّالة، ثمّ غدت الهواتف الذّكيّة ملازمة للإنسان حتى تكاد تكون امتداداً لذهنه وانفعالاته. وإزاء هذا التّطوّر الرّهيب في أساليب التّواصل، فإنّنا نريد أن نختبر مدى تطوّر علاقات الإنسان بالإنسان انطلاقاً من بعض الأمثلة البسيطة.
إنّ التّاريخ البشريّ يشهد على ضروب من العلاقات بين البشر من المفروض أنّه قد وقع تجاوزها، وأنّها أصبحت منتمية إلى ماض يُدرّس في الكتب ويُجسّم عبر الشّاشات. ومن هذه العلاقات الاسترقاق والاستعمار والاستبداد الظّالم مثلا. فهل تغيّر جوهر العلاقات البشريّة مثلما تغيّرت الحياة اليوميّة بالتّطوّر العلميّ؟
الاسترقاق
نظام الرّق ألغي اليوم في العالم، فلا البلدان التي دين أغلب سكّانها الإسلام تعمل به، ولا البلدان التي دين أغلب سكّانها المسيحيّة أو اليهوديّة تعتمده، ولا البلدان اللائيكيّة تقرّه. ومع ذلك يجب ألّا ننسى أنّ نظام الرقّ هذا كان منتشراً في القرون الوسطى في كلّ بلاد العالم، ولم يكن يثير أيّ استنكار ولا استهجان. فهل انتهى الاسترقاق فعلا من العالم؟
أكيد أنّ القوانين التي تبيح الرّقّ أو التّشريعات الّتي تسمح به غير موجودة في دساتير الدّول، ولن نشير إلى حالات شاذّة منبوذة شأن ما سميّ في فترة مّا: الدّولة الإسلامية بالعراق والشام (أو داعش). ولكن الأكيد أيضاً أنّ الاسترقاق أو الاستعباد تغيّر شكله فحسب. فكلّنا يعرف وجود ما يُسمّى بـ«تجارة الرّقيق الأبيض»، وهو البغاء السرّيّ الّذي تتبنّاه عصابات قويّة وتنظيمات مافيوزيّة، تستغلّ ما يحلّ ببعض الشّعوب من دمارٍ جرّاء الحروب أساساً لتفتح سوقاً للمتعة الممنوعة ببيع أجساد النّساء المنكوبات اللّواتي لا تجد بعضهنّ من حلّ سوى قبول المهانة والإذلال. وكلّنا يعرف وجود البغاء الجنسيّ والسّياحة الجنسيّة باستغلال أجساد الأطفال في بعض البلدان ممّا كُتب حوله الكثير وفُتحت فيه تحقيقات عديدة دون أيّ جدوى ودون حصول أيّ تغيير في الواقع. أوليس هذا الاستغلال الجنسيّ ضرباً آخر من ضروب الرّق حديثاً؟ وأليس امتلاك أجساد الآخرين بالمال أحد أبرز علامات الاسترقاق؟
الاستعمار
يُعرّف الاستعمار بأنّه افتكاك أرض بها دولة ذات سيادة، والتّحكّمُ فيها إمّا بصفة مباشرة من خلال حاكم أجنبيّ أو بصفة غير مباشرة من خلال حاكم من البلد المستعمَر يكون هو الحاكم الشّكليّ في حين أنّ الحاكم الفعليّ هو المستعمِر. وهذا ما شهده التاريخ الحديث في كثير من البلدان الّتي استعمرتها فرنسا وبريطانيا وإيطاليا مثل الجزائر ومصر وليبيا وسواها. وللاستعمار أهداف عديدة منها استغلال الطّاقة والموادّ الأوّليّة ومنها اعتماد البلدان المستعمَرة كمواقع استراتيجيّة للبوارج الحربيّة، على أنّ المستعمر قد يبرّر الاستعمار بالحماية أو بفتح باب «الثّقافة» و«التّحضّر» لسكّان البلدان المستعمرة.
ورغم أنّ مصطلح الاستعمار غدا اليوم مهملا على أساس اندثاره، وقيام الدّول على مفهوم السّيادة الوطنيّة ووجود المنظّمات العالميّة الّتي تضطلع بدور التّحكيم بين الدّول شأن الأمم المتّحدة مثلا، فلا يمكن أن ننكر أنّ العلاقات الجيوستراتيجيّة بين الدّول ما تزال قائمة على القوّة، ولا يمكن أن ننكر أنّ البلدان الضّعيفة ما تزال إلى اليوم مناجم تٌستغلّ موادّها الأوّلية انطلاقاً من «استعمار» اقتصاديّ مقنّع، وإلاّ فكيف نفسّر وجود بلدان أفريقيّة غنيّة بالثّروات الطّبيعيّة ولكنّ شعوبها تعاني المجاعات والأوبئة والفقر؟ ومن جهة أخرى، أليست الكثير من النّزاعات المسلّحة دوافعها السّعي إلى اكتساب مواقع استراتيجيّة للحصول على الطّاقة بأثمان بخسة؟ وأليس الطّمع في استغلال الغاز هو منطلق الحرب السّوريّة الأخيرة بما حملته من دمار وأسى؟ وأليس الإيهام بـ«نشر الدّيمقراطيّة» وما نتج عن ذلك من مآس يعانيها الشّعب العراقيّ إلى اليوم صورة أخرى من صور ادّعاء نقل الحضارة الّذي كانت تتّخذه البلدان الاستعماريّة مبرّراً لاحتلال البلدان الأخرى؟
الاستبداد
في العصور الوسطى، وفي جلّ البلدان كان للسّلطان مطلق الحقّ في التّحكّم في رقاب النّاس وفي وجودهم. وبتطوّر العلاقات البشريّة وأنماط التّعايش بين البشر، نشأ مفهوم المواطنة الحديث ومهما تختلف أنظمة الحكم من ملكيّات إلى جمهوريّات إلى أنظمة فيدراليّة وسواها، فإنّ الانتخاب بصفته آليّة ديمقراطيّة يكاد يكون اليوم شائعاً في جلّ بلدان العالم. ولن تجد بلاداً تقرّ بأنّ نظامها استبداديّ أو ديكتاتوريّ لما يتّصل بهذين المصطلحين من دلالات حافة سلبيّة. وفي مقابل ذلك أصبح الحديث عن الدّيمقراطيّة وآليّتها الانتخابيّة الأساسيّة أمراً شائعاً. ولكنّ أغلب المهتمّين بالشّأن العامّ يغفلون التّوقّف عند الوجه الآخر للدّيمقراطيّة، أو ما يمكن وسمه بالاستبداد الدّيمقراطيّ. وهذا الاستبداد هو في بعده الأوّل استبداد الأغلبيّة وإن تكن أغلبيّة بسيطة، لا سيّما أنّ العدد ليس أبداً مقياساً للصّحة والخطأ. فالانتخاب أتى مثلا بالنّازيّة وفظاعاتها إلى الحكم. والاستبدادُ الدّيمقراطيّ في بعده الثّاني متّصل بتلاعب وسائل الإعلام وشركات سبر الآراء بالنّاخبين الّذين يصبحون أحياناً مجرّد أصوات تُستهلك أثناء العمليّة الانتخابيّة وتُرمى بعدها، وهذا ما يتجسّم من خلال نسبة تحقّق الوعود الانتخابيّة الّتي تكاد تبلغ الصّفر.
واستناداً إلى ما سبق، فإنّنا نتبيّن أنّ الاستعمار والاسترقاق والاستبداد قد ضمرت بصفتها دوالّ، ولكنّها ما تزال فاعلة بما هي مداليل وأشكال من التّعامل بين البشر. وهذا ما يثبت أنّ كلّ التّطوّرات التّقنية والتّكنولوجيّة وإن غيّرت بعض وجوه العلاقات البشريّة ظاهراً، فإنّها ظلّت عاجزة عن النّفاذ إلى بواطن السّلوك وإلى أعماق النّفوس.
_______
*الاتحاد الثقافي
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
ما أكثر... ما أقل*عبده وازنالشعراء لا يُحصون اليوم في العالم العربي، اما النقاد فهم لا يتخطون عدد اصابع…
-
في معنى المسؤوليَّة*د. ألفة يوسف تنقل لنا إحدى الحكايات القديمة أنّ رَجُلَيْ دِين كانا يضربان في الأرض…